“النقد الحديث :في العلاقة مابين المؤلف والناقد
“يعتبر النقد الحديث منهجا علميا مهما في تقييم النصوص الأدبية ،بكل أجناسها ولغاتها، سواء القصة أو الرواية أو الشعر أو أي جنس آخر من الأجناس الأدبية ،ذلك أن العمل الإبداعي الأدبي لا يمكن أن يكون كاملا ،وفي هذه النقطة تحديداً تكمن جماليته ،لأن هذه النسبية في الجمالية الأدبية ما تجعله متطورا مع كل قراءة نقدية جديدة ،وهي ما تجعله دوما قابعا على طاولة التشريح النقدي ،فالأدب جسد من إبداع ، وقلم الناقد بمثابة مشرط الطبيب ،الذي يعالج هذا الجسد،وتظل هذه المعالجة النقدية هي الأخرى نسبية ،وهنا تكمن جمالية العلوم الإنسانية وقوة أسس بنائها .وعلماء العرب قديما كانوا حين يتحدثون عن النص يستخدمون تعبير “الجسد اليقيني” والنقد مناهج عدة تأخذ بالنص الأدبي من كل جهة وطرف: وأمثلة ذلك :النقد التكويني /النقد التحليلي النفسي/النقد الموضوعاتي /النقد الاجتماعي /النقد النصي ………الخ كل هذه المناهج وغيرها بمثابة أدوات للناقد الذي يشبه عمله عمل الطبيب الجراح العارف بمكنونات جسد النص الأدبي، وفي تطور مناهج النقد الحديث تطور لكتابة النص كتابات جديدة عميقة وجدية .
فما هو دور الناقد في استنطاق النص؟ وأيهما أكثر متعة في القراءة؟هل هو النص الخام نص المؤلف؟أم النص ذاته بعد أن أعاد الناقد كتابته كتابة القارىء المختص؟ القارىء قراء ،منهم القارىء العادي البسيط،ومنهم القارىء المختص الناقد ،وفي عصرنا هذا تطور النقد الأدبي الحديث تطورا كبيرا إلى درجة أنه شرّع لموت المؤلف الكاتب المبدع صاحب النص الخام لصالح القارىء عموما، يقول رولان بارت :”موت المؤلف يعني حياة القارىء ” أي أن القارىء الناقد قادر على استنطاق النص وتفجير المعاني ومضاعفتها بما يشبه المعاني العنقودية اللانهائية، فالقراءة المختصة المتقنة حفر بإبرة اللغة والمنهج في عمق المعنى، والوصول إلى معاني المعاني أو مايسمى بالمعاني الثواني غير تلك المعاني المباشرة التي نلاحظها في قراءة أولى ينقصها العمق والتحليل لشفرات رموزها.
يقول بول دي مان :”للقراءة قدرة على الوصول إلى مايبطنه النص، بل مايتناقض مع مايعلنه” ذلك أن النصوص قد تحمل أحيانا في عمقها نقيض المعنى السطحي الظاهر في البداية، والقارىء المختص يحتك جدا بالمؤلف من خلال كتاباته، أي أن النص نقطة لقاء بين شخصين قد يكون أحدهما من الأموات والآخر من الأحياء، فالتقمص الوجداني ظل موجودا دوما عند الناقد كي يستطيع أن يتكهن بالحالة الوجدانية والنفسية والإبداعية لكاتب أو مؤلف ما، من خلال ما يسمى بالقراءة الفاحصة “close Reading” وهي آلية من أهم آليات الحداثة النقدية ،حيث سعى النقد الجديد وراء ما سماه “هايمن “بالرؤية المسلحة وهي الرؤية التي يعتمدها الناقد المثالي، الذي يمسك ببراعة بكل الآليات والأساليب النقدية التي لا تقف عند ظاهر النص، أو عند السنن والعادات السابقة والتقليدية للقراءة النقدية، فالنقد الحديث يرى أن أسوأ القراءات هي القراءة الأصولية المدرسية التي لا تفارق الإطار المرجعي والتي تسعى لتوثيق ماقدمه السابقون كما هو دون مبادرة فردية، فللناقد قدرة على فهم عوالم الكاتب أكثر منه ،ذلك أن الناقد يمتلك آليات لا يمتلكها الكاتب المبدع، ولم ينتبه لوجودها في كتاباته، فالنقد اختصاص ومنهج علمي.
يقول جوليان غراك في كتابه حروف مزخرفة :”ماذا نقول لهؤلاء الذين إذا اعتقدوا بأنهم يمتلكون مفتاحا، لا يرتاحون إلا إذا شكلوا عملك في صورة قفل” أي أن الناقد يرى النصوص الأدبية أبوابا مغلقة تحتاج أن تفتح بمفتاح القراءة المناسبة، فكما نعلم لكل قفل مفتاحه المناسب، وهذا ما يحيلنا على نقطة هامة في النقد الحديث خاصة :وهي أنه لا توجد قاعدة نقدية ثابتة تصلح لكل نص، بل إن لكل نص خصوصياته ومميزاته التي تفرض آليات نقدية معينة دون غيرها لتحليله ،يقول كانط: “القراءة هي فهم المؤلف أكثر مما فهم نفسه “كما أن القراءة النقدية هي التي تحافظ على حياة النص دائما مهما كان قديما، لأن القراءة بمثابة كتابة النص مرة أخرى بطريقة مختلفة.
يقول الناقد “منذر عياشي ” :”القراءة تجعل المكتوب بدايات لا تنتهي ” والنص قد يكون عصيا عن القراءة إذا لم تكن ثقافة الناقد كبيرة أو شاملة فكلما كانت ثقافته أقل كلما ابتعد عن المسك بتلابيب النص يقول الناقد “بسام قطوس” في كتابه المعنون بـــ”تمنع النص متعة التلقي”وهو عنوان يحيل على العلاقة ما بين المؤلف والقارئ: “إن النص أفق قد يصغر قارئ عن الصعود إليه أو يكبر هو عن النزول إليه ”
نخلص إلى أن الناقد يعيد صياغة النص الإبداعي صياغة جمالية نقدية قد نتمتع أحيانا بقراءتها أكثر من النص الخام ،فالناقد يشبه النظارات الطبية للقارئ، نرى من خلاله النص بوضوح وعمق لكن ذلك لا يؤله الناقد، ولا يمنع من نقده هو الآخر، ذلك أن هناك مطبّات كثيرة قد يعرج نحوها أو زلات قد ينزلق فيها ولعل أهمها أدلجة النقد، مما ينقص من موضوعيته ومصداقيته ،كما أن أغلب النقاد لا يستطيعون غالبا كتابة عمل روائي أو شعري أو قصصي، ويكتبون أعمالا نقدية عن الأعمال الأدبية دون استطاعة الخوض في عالمها بكتابة مثلها أحيانا.
ولقد شبه مونتيسكيو النقاد بـــ”جنرالات فاشلين، عجزوا عن الاستيلاء على بلد ما فلوثوا مياهه” فهل أن التشبع المفرط بالمنهج النقدي الأكاديمي، قد يجعل الناقد يتذوق الأعمال الأدبية كشيء علمي يسطر تسطيرا أكثر منه إبداع، أم أن هذه كذبة أطلقها الأدباء على النقاد كي يظلوا دون رقيب؟ خاصة أؤلئك الأدباء الذين يرفعون العمل الإبداعي إلى مصاف الوحي معتقدين أن الإبداع إلهام فقط لا خليط مابين الإلهام والصنعة؟ وأنه مشاعر مقدسة منزهة عن النقد والتقويم؟”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سبق نشره في صحيفة الشارع المغاربي، العدد 336/ الصلاثاء 22/11/2022