الرئيسية / ثقافة / قراءة وجدانية.. في مثن العمل المسرحي* سارحين الزمان * لمؤلفه إدريس أمغار مسناوي

قراءة وجدانية.. في مثن العمل المسرحي* سارحين الزمان * لمؤلفه إدريس أمغار مسناوي

قراءة وجدانية..

في مثن العمل المسرحي:

* سارحين الزمان * لمؤلفه إدريس أمغار مسناوي.

الكاتبة سعاد ميلي/ المغرب
الكاتبة سعاد ميلي/ المغرب


الكاتبة سعاد ميلي/ المغرب

 


ثم العرض المسرحي بمدينة تيفلت
بدار الشباب *  9 يوليوز*
بتاريخ 4-5-2012
تأليف: الشاعر إدريس أمغار مسنـاوي
تمثيل : الفنان رشيد قولـــــــة
ديكور: الشاعر إدريس أمغـار مسناوي 
بتعـاون مع الفنان رشيــد قولــة.
الإخراج: مشترك بين كاتب العمل
والممثل
السينوغرافية : للكاتــــــب.

 

الفكرة العامة:
المؤمن مرآة أخيه” كما قال رسولنا الكريم (ص)، والذات الصوفية التوحيدية مرآة لعالم أسمى، تقود الإنسان إلى أرفع درجة من درجات التصوف، وذلك عبر ميزان الحب والخير المطلق، فبالحب نؤمن بالله وبملكوته العظيم. ومعه تذوب كل الحواجز الضبابية أمام الإنسان التائه عن مرآة ذاته، ليبصر معها ضوءا قادما منهُ إليه.. ومنهُ للآخــر، عبر التـّحدي والإرادة والحب.
“سارحين الزمان” عمل مسرحي مدعّم بنصوص زجلية مقتطفة من ديـوان مخطــوط “عشير الوقت” لرائد الزجل المغربي الشّاعر الزجال إدريس أمغار مسناوي، وقد ثمّ المخاض الإبداعي لديه ما بين سنة 2005 و 2007.
فكرة العمل المسرحي ركّزت على الذات الإنسانية (الإنسان /المرآة) وصراعها الداخلي في مواجهة مع الذات الداخلية و الذات الخارجية عبر مساءلتها انطلاقا من “لغة كونية” حملت مشعلها المرآة، فكان اللباس أخضرا معطرا بلمسة زجلية صوفية متفردة من الشاعر الزجال إدريس أمغار مسناوي.

1
للقطة من مسرحية (سارحين الزمان) للفنان المسرحي (رشيد قولا)

المرآة كون من الغموض الشفاف، لها دلالات عديدة وعميقة، إنها الحقيقة الدفينة و الواضحة كالشمس بل هي شمس أخرى في دواخلنا تبحث عن السمو عبر ذاتها المبدعة لتصل لأعلى مقام روحاني، إنها مرآة مدعاة للتأمل، المواجهة.
(يقال : أن أقدم مرآة في التاريخ عبارة عن بركة مائية ساكنة وداكنة اللون، و دلاليا لها شفافية الماء وعمق اللون الداكن، إنها كون بركاني في أي لحظة سينفجر من الذات إلى الآخر أو من الذات إلى الذات).
وفي هذا العمل المسرحي الزجلي، الذي قام بتمثيل دور الرّاوي فيه الممثـل المسرحـي “رشيد قولة” جاءت لغته كونية تضم بين حناياها أسئلة ينسجم بينها كل ما هو فلسفي وصوفي و يتـّحد معها كل ما هو مادي وروحي.. ليكون رهان الكتابة، ظلّ يبحث عن نفسه، وشمسٌ تحرر القلب من ضبابيته، ومرآة ينبعث منها ضوء جديد يشعّ بحبّ مطلق في روح المتلقي لينير طريقه من خلال رؤية وعمق ذات المؤلف المبدع الإنسان.
ونذكر بعض أهم ما جاء في قول الراوي/ الممثل/ في النص المسرحي الزجلي، القريب في المعنى مما ذكرناه:
هذ التمارين ما هي رياضيَّه، ما هي ذِهنيَّه. هي مع مرايات، اللي احنا ف حد ذاتنا مراياتهم قبل ما يكونوا لينا مرايات تانترددوا عليهم كل صباح وكل عشِيَّه، بل ف كل ما احتاجينا لضوهم. ص(4)
أنتَ ظل تايقلّب على راسه. انتَ راس تايقلّب على سميته. انتَ اسم تايقلّب على هالته. ص(19)
(اللّغة هْي مْرية العالّم تَيْقولْ سارْتَرْ، ونَا نْقُول لَمراية هي لغة الكونْ.) ص(24)
(أنا لْمراية عندي مقدّسة) و ( انْـتِ كـَـوْنْ ذْ لَـسـْـرَارْ و لَحْكايَاتْ) ص (25).

 إن ” لمراية الثامنة:” ص(24) التي تختلف عن المرايا السبع (التي سنضيء بعد جوانب هذه المرايا تاليا) ولا تدخل في التمارين التي سبقتها، كونها متفردة، ملقاة في طريق الذات، إما أن يجد معها الظلّ ذاته/ الضوء، أو يتوه عنها وعنه، إنه البحث عن الإنسان المتجدد فينا.

3إذن من خلال هذه الأنساق الزجلية العميقة وغيرها الكثير في العمل المسرحي ” سارحين الزمان” نجد أن الذات الصوفية تقدّس المرآة .. وتعتبرها كون من الأسرار و الحكايات الأسطورية.. هي إذن لحظة مصالحة مع الذات و مع الآخر.. عبر الغوص عميقا في أسرار الذات الإنسانية/ الإنسان، انطلاقا من دائرة المرآة وبما فيها دائرة الأنثى/ الولادة/الجسد/ الروح/ التاريخ/ الحاضر..الكون).

ديكور المسرحية:
..  أول ما لفت انتباهي قبل بدأ العرض (وإبعادها جانبا بعد ذلك) لافتة على شكل ورقة بيضاء على دعامة خشبية تتوسط خشبة مسرح دار الشباب، مكتوب عليها ما يلي:
ونا بين كلام تقال 
وكتابه تكتبت هذي شحال 
هزني الحال 
نركب ريح المحال 
نزوج الحلم 
بمراية الحلال 
نطفي عطش السؤال 
بسؤال 
يرمي ل سؤال 

2الكلام ينطوي على فهم متأمل للعمق الوجداني الداخلي، لتركب معه الذات صهـــوة الحلــــم و تغوص في السؤال، و ليتم الخوض عبره في معارك روحية داخل دائرة المرآة من ذات المؤلف الصوفية العميقة.
فبين كلمة وكلمة ينبث سؤال، وبين سؤال وسؤال، يُـزرع جواب يحيل إلى النقطة الأم، أو الشرنقة الأولى التي أغرقها التيه والظلام، فتعلقت بقشة الضوء/ الفكر و الهدف والذاكرة، لتنجو بإبداعها وتولد حياة أخرى من جديد، هي دائرة الوجود الإنساني و دائرة الحقيقة/ الضوء، و دائرة الأنثى/ المرآة.. ودائرة المجهول/ الظل..).
بعدها لفت انتباهي وحسب ما أذكره ديكور العرض الإبداعي، إذ استفزني البياض من اليمين و السواد من اليسار، المتشحة بإزارهما مرآة كبيرة جدا مربعة الشكل، وفي أعلى رأسها دائرة بيضاء صغيرة شبيهة برأس الإنسان، ( ربما هي أنثى لحظة المخاض والولادة يقف على رأسها زوجها؟) وعلى يمينها طاولة عليها مرآة مستطيلة عبارة عن صبورة ( ربما من خلالها سيستقرئ الممثل/ الراوي/ التاريخ ؟) ، وأيضا هناك شكل خشبي/مرآة/ ربما إنسان آخر متشح بإزار أخضر، يجاوره شكل خشبي أشبه بغزالة شاردة، ( ولا أنسى جدارا استغلـه الممثل /الراوي، ليظهر عاليا أمام المشاهد) وهناك أيضا مرآة على دعامة حديدية سوداء الشكل قبالة المرآة المربعة الكبيرة، تتوسط الخشبة، منحوتة كأنها أنثى مدللة، دائرية وبطنها دائرة فارغة على شكل مرآة، وكأني بها عارية من ذاتها/ مرآتها، ويقطع خط بطن دائرتها الفارغة، عمود حديدي مائل وملتوي تكملة للدعامة الحديدية، وكأني به سيف مسلط على عري المرآة/ الأنثى. إذن نجد أن هناك أربع مرايا ولهذا العدد 4 عدة دلالات عميقة منها أنه يشير إلى الأفق الجغرافي، و كذلك إنه مقدس عند الشعوب السامية، و يشير إلى أنهار الفردوس الأربعة، و خلفاء الإسلام الأربعة: أبوبكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي ابن أبي طالب، و إلى الكوكب “أورانوس” المتصل بالشمس، ولا أنسى كذلك أن الإنسان صاحب العدد أربعة متفرد في شخصيته ومسلكه الإيجابي في الحياة).
و بالنسبة للمرآة الدائرية الصغيرة، المنحوتة بشكل فني تستطيع إدارتها ( كما فعل الراوي عدة مرات) على اتجاهين مختلفين، الاتجاه العادي الذي يعكس صورتنا نحن والاتجاه الخلفي الذي يسدّ باب التأمل، كالجدار النفسي أظنه، أو ربما يحيلنا إلى ضبابية الإنسان عندما يفقد كل الاتجاهات ويتوه عن دربه، إنه صراع التضاد و صراع الأنا نحو المضي إلى الضوء.
إذن بالنسبة للونين المحايدين الأبيض و الأسود فهما أشبه بخصمين متضادين لهما دلالة المواجهة ولكن لا غنى لهما عن بعضهما البعض، فهما كالنهار و الليل، البداية والنهاية، بسمة دمعة الإنسان من أول الزمان إلى آخر المجهول، لحظة الولادة أو لحظة إبصار الطريق إلى الذات؟ هي حقا تكهنات عديدة تجول في خاطرنا، وإنها بحق دائرة التضاد الإبداعي وبدونه لا تحلوا الحياة.
وهنا راودني سؤال، بيني وبين نفسي، لو كانت هناك مواجهة، ترى، مع من  هل هي مواجهة الذات للذات أو الذات للآخر أو مواجهة رمزية غائب عنا قصدها؟ !
فجاء الرد بعد أن حوّلت نظري إلى اللون الأخضر بجانبهما إذ أحسست أنه ربما المواجهة ستكون مع الذات الإنسانية والبحث عن الجانب الصوفي داخلها، ومعرفة نظرتها إلى الحقائق و الموجودات في الكون، وطردا لظلامها الشاسع في القلب.
أو ربما هو صراع مع المرآة / الظل / الضوء، مع طرح عدة أسئلة لا تنقطع عنها وعن الإنسان /المحور/ وعن المرأة الذاكرة/التاريخ / الحقيقة/ الكون.

نقط هامة تدور حول فلكها المسرحية:

كانت صرخة الراوي الأولى لغز يستفز خيال الجمهور كون حـلـّه هو تثبيت عمود العمل المسرحي الفقري، إذ يشكّل نقطة البدء و ربما بداية النهاية.

يقول الراوي : * حاجيتكم على اللي احنا فيها وما نقدروا ندخلوا ليها.
*
خَبَّرتكم على أمرها يتكنَّى بالميم ، والميم صافِيَه من غبارُه، ميتَه وتعطي للحي اخبارُه. فَكّوها ولاّ كلها ينوض لدارُه. ص(4)

وأميل برأيي بكون الجواب هو : المرآة، فبالنسبة للسؤال أعلاه، أحسُّ أن بداية الجواب، في هذا المقطع الزجلي العميق :
اللي بغى يعرف قدُراته الروحية وعلاقاته الباطنية مع الكون، مع الذرة، مع راسه، مع إحساسه، يدخل معانا ف تمارين. ص(4)

5فالقصد هو تمارين المرآة، أي إنها دائرة المرآة، نقطة الإبحار الأولى من حيث إبصار الطريق إلى الذات من الذات و الآخر.
إنها الضوء الذي نبحث عنه في عمق المرآة/ الذات/ الأنثى/ الذكر/الإنسان.
ومن خلال التمارين عليها كما اقترح علينا الراوي نتعلم كيف نفهم ذواتنا عبر حديث المرآة.
كما لفت انتباهي توجه الراوي عند الجمهور و إشراكه في كل تمرين على حدة، وهذا يدل على مدى أهمية الجمهور/المتلقي، عندما يدخل في دائرة الحدث، إذن الكل معني بالأمر، والمعنى أن الضوء يهمنا جميعا، فالمؤلف والمخرج و الراوي/الممثل و المرآة ثم الجمهور وحتى الديكور الذي عبارة عن دوائر هو والجميع داخل دائرة واحدة عنوانها المرآة/ المصير.


فـُتحـت مرآة التمرين الأول:  ونجد الراوي يحاول التعامل مع المرآة / الظل، التي تعطينا ظهرها، أو المرآة النائمة، وربما هو تمرين يعلّمنا كيفية التعامل مع الحقيقة الدفينة، في دواخلنا، ومن خلالنا نفهم الآخر و هو يحاول فهم نفسه فينا وهكذا، إذن هو البحث عن الضوء، و الحقيقة المغيبة أو الضائعة. هو اختراق المسكوت عنه أو المجهول، أي البحث عن الذات ومواجهة كل الإكراهات، للدخول في تحدي مع المرآة/المواجهة/ يقول الرّاوي:
يخترق ظلُّه يعانق ضَوُّه. ” ص (6).

مرآة التمرين الثاني:
انطلاقا من ضوء المرآة نبحر في العمق الإنساني، ونتغلغل في الضوء ومن الضوء / المرآة، ننطلق، مع الإبحار في الصمت، بعيدا عن ضجيج المدينة وبحثا عن السكينة الروحية حتى يكون التغلغل مفيدا ، يقول الراوي: ” تجمع شوفتك ف شوفـَه وحده حتى يتجمع ضوك ف ضو واحد وينطلق بحال السهم للمراية. ” ص (7).
و نجد التوحد الروحاني الصوفي في أعلى درجاته هنا:
” ناركم بيضا وناري .. ناري أنا خضرا. ” ص (8).
إنها الوحدة الذاتية مع نفسها و مع ذوات أخرى، إذن هي وحدة قوةّ تتجمع وتتحدى وتخترق بضوئها المرآة/ الحقيقة.

مرآة التمرين الثالث
يتم الاستعانة بضوء الشمعة الصغيرة، للبحث عن ضوء الذات وسط عتمة مشعة، انه تمرين البحث عن الضوء و التجسد فيه بل التوحد الضوئي معه، مع الذات و المرآة والشمعة في فضاء العتمة الشاسعة, لتصبح المرآة/الذات/هي الأكثر اتساعا في النهاية.
” لمرايه غ تبدا توساع… توساع ف يديك، هي تاتوساع و الضو تايوساع.. ”
” انتَ هو انتَ ف مراية قلبك.” ص (12)
إنه السمو الروحي والنفسي في مرآة قلب الإنسان الذي يرتقي كلما اتسعت عبارة المرآة الضوئية، إلى المقام العالي روحيا وإبداعيا، إنها الأنا العليا المتشبتة بك ولا تنفك أن تزأر كلما هبت رياح الشك باليقين.
3
مرآة التمرين الرابع
الانتقال من عتمة الذات إلى الذات الغارقة في الضوء، لحظة تجميع الضوء، ليصبح ضوئها واحد، إنه الالتحام الضوئي، من حيث الفناء فيه ومنه، الذوبان الكلي لتبقى شعلة الذات متوهجة به، ” تا يفنى ضوها بفناء الجسد وسط جوف الظلمه. واش تا يبقى؟ ” ص (13)
الذات الصوفية تتحدى اليأس، تفنى من أجل الموجودات، إذ تعطِ قلبكَ وكلّك للبشرية كإنسان، تصبح بحرًا معطاء في حق ذاتك والآخر، هذا الأخير يعطيك دوره ببساطة الحياة، إنها عملية نكران الذات لأجل الآخر، دون تدمير الذات بل السمو بها و بكَ كإنسان لأجل الحب المطلق.
” ضَـوَّك ضو تا يبقى شاعل ما دام تا يخدم البشريه” ص (14)
عندها تصل إلى المعنى الحقيقي للحب، وتُبدع حياةً، وتحي إبداعا، عندها يُفتح أمامك سر الكون وتصبح أنت كإنسان مرآة كونية. ” انت صرتِ مرايه يمكن كونيّه. ” ص (15).

مرآة التمرين الخامس
مرآة تعلّمنا أننا للآخر مهما كنّا لنا، و حتى المبدع لا سلطة مطلقة له على نفسه، فالآخر له حقٌّ في إبداعه وفيه نفسه، ” كنت ذ راسك أَوْ كنتِ ذ الإبداع، انتَ ديال لخرين. ”
ص (17) .
إذن كما يؤكد الراوي/الممثل/ في هذا التمرين، أنه عليك أن تكون طموحا ومتحديا ومقداما، لا تنتظر ما سوف يأتي بل ابحث عنه بنفسك روحا وجسدا، وارمي عنك كلمة مستحيل لأن كل شيء ممكن مع الإرادة و الروح الإنسانية المعطاءة المتواضعة.

مرآة التمرين السادس
” علاقتك مع ذاتك تصفت… ” ص(19)

 . ” انتَ مرايه تايشوف فيها الخالق صورته ! ” ص(20) .
مرآة تعلّمنا الصفاء الروحي و الإيمان، ومن ملكهما رآهُ الله مرآة يرى فيها صورته.
إنه جو مشحون بالصوفية الروحية و الضوء، في حضرة الحواس، جعلنا الراوي بحنكته و ضوئه نعيش هذا الجو ونحس بذبذباته الروحانية من خلال طقوسه وتواضعه الكبير وجذبته مع رداءه الأخضر.

مرآة التمرين السابع:
هنا.. نحافظ على صفاءنا الداخلي باختيار خلوة تساعدنا على ذلك، في جو صوفي يتخلله بخور روحاني نكتب به فصول الحياة، بكواكبها الساطعة، لنجد معها في الضوء السّاكن تحت أقدامنا ظلنا يتحرّك.. أي نحس بابتعاد العتمة أمام اتساع الضوء، وهنا لحظة اقتراب الفرج، فلا خوف.
” غ تشوف ضو تفرش تحت اقدامك وتشوف ظلك تايتحرّك. ” ص( 21 )
وتستمر جذبة الراوي ولكن هذه المرة عبر أخذه الكتاب وتصفحه ورمي أحده على الآخر، لينصحنا بالالتحام الضوئي، وأن نحتضن الكون بفكر شمولي وعمق وجداني يسموا بنا إلى الحقيقة المتناغمة مع أصل الإنسان الطيّب من نبعه ومرآة ذاته.

7

و ف ص(24) ” لمراية الثامنة”:
لدى انتهاء الغوص في المرآة السابعة والأخيرة في التمرين، نقف على عتبة هذه المرآة الثامنة المتفردة بذاتها، لندرك أنها مختلفة كل الاختلاف عن ما سبقها، فهي متفردة باختلافها، متقلبة، ومتخلى عنها، مرمية على رصيف الطريق، ورغم ما قد يقال عنها من أنها قد تكون سبب شؤم ومشاكل على صاحبها، ورغم عدم إيمان هذا الأخير بالخرافة والأساطير والوهم، إلا أنه يقرأها ويراها من منظار قلبه المختلف، ” تا نلقى فيها قوة وحرية الخيال.” ص (25) .
إذ ينطلق منها إلى عوالم بعيدة، يتربّع على عرشها الخيال، و السؤال، تصاحبهما القوة والحرية، وهنا يكتشف السرّ الدفين في طياته، لأن المرآة عند الذات الصوفية مقدسـة،
إنها في رأيه ذاكرة مغلقة وكنز غامض، ولنتمكن من سبر أغواره و الغوص في عالمه علينا أن نكون عينا ثالثة للحقيقة الدفينة والثابتة، أي أن نكون إنسانا يرقى لما هو روحاني ملائكي.. كما نرى الراوي يؤاخذ المرآة، على كونها مصادقة للبعض، ومنافقة للبعض الآخر، ويتراجع في قوله أنه ربما لا هذا ولا ذاك، فبعض منا يصدّقها، وبعض آخر ينافقها، وربما لا هذا ولا ذاك، ليعقب المنشد ( الصوت الغابر) في خلاصة، أنه علينا مراجعة ذواتنا والنبش في حقيقتنا الدفينة، بأن نتصالح مع الذات، وبأن تكون لنا عينا وبصيرة، وسيرة حياة، لتجيبه المرآة أنها نائمة في ذاكرة الوجود تبحث عن المعنى الآخر البعيد القريب، وتتساءل عن أي حاسة توصلها لذاتها؟ إنه التحدي الصامت، والدعوة للتقدم نحو الضوء، ويتدخل الراوي ليحكي لنا حكاية في زمن قديم، عندما يدفن الميت مع مرآته، مرآة مكان ” الشاهد” والأخرى على صدر قبره، ففي اعتقادهم أنهم دفنوا معها السيئات وقضوا على اتساع الشر الشيطاني.
وفي نفس الحين تمنت ذات المؤلف الصوفية أن تكون له مرآتين على قبره، الأولى متشبثة بالحياة، و الثانية تسمو إلا اللانهائي، إنه سفر بعيد قريب.
سفر من الذات إلى الذات ومن الذات إلى اللانهائي، إنها مرآة الولادة و الوفاة، تدخل الذات الصوفية معها في هذه المغامرة، لأنها تؤمن بضوء المرآة وببياض قلبها كذات.
ويستمر الجدل بين الرّاوي و المرآة والمنشد كشاهد، وبين المرآة و ال( م) في (قد يكون هذا الأخير هو المؤلف نفسه) الصباح الأول، الصباح الثاني، اليوم الثالث، النهار الرابع، الوجه الخامس ، القناع السادس، اللون السابع، و الوجه الثامن.
عندما تجتمع هذه الأرواح السبعة، في جسد (وجه) الإنسان ( الثامن)، تكتمل معاني المرايا السبع وتتشكل صورة المرآة المتفردة الثامنة، ففي أول إشارة الدخول بدأ التحدي بين ال (م) و المرآة، وفي حالة عدم نجاح الأول في الغوص في أعماقها يرجعها لرصيف الطريق مرة أخرى، ربما تجد من يفهمها أكثر، ولكن ال (م) قبل التحدي بحماس أكبر، ففي ظل نصيحة الرّاوي و استفزاز المرآة وبشاشة المنشد عليه أن يطرد من حياته كلمة لا شيء، “والو” وأن يكون نافعا للآخر ولنفسه وليس سلبيا في روحه وضميره، إذ عليه أن يفتح عينيه وقلبه للضوء، ولمساحة البياض النوراني المقدس، و لوجه الحياة الأخضر، لون العاطفة و الحب والصوفية بخيرها المطلق.. و يحذر في نفس الوقت من اصفرار اللون، فيشرب ليله/ظله/ ويدخل ضوئه بلباس النهار، ليفتح باب القلب، كي لا يصرخ جسد اللون الأحمر، ويسعد بطاقته الضوئية/ الولادة/ بعد دم الحرب. فيأتي اللون الأزرق لتشرق معه ابتسامة السماء وتزهر بصحبته أنوار الحياة ويطمئن القلب، فيتعرى من ذنوبه ويتطهر كما ولده الضوء الأزرق، فالكون كله له إن أدركه ولم يغرقه القتل والفقر و الطمع و الحديد و الخوف و الدين و الحسد.. في هذا الزمان المريض، إذ عليه أن يكون “سارح الزمان لا الزمان السارح،” عليه أن يدير دفة حياته بقلبه المضيء، ويبعد في النهاية من طريقه اللون البنفسجي، بحزنه وأنانيته و يدفن معه قناعه حتى يتطهر ويخرج من قبر الحياة ليدخل دار الآخرة.. منتصرا للأولى في عز السؤال.. إذ يطرد ظلام نفسه ليشع بنور الضوء المقدس بعيدا عن المدنس، ولتصبح اللوحة شهوة مشعة في حمى الإبداع.
ويعيش ال( م).. للإبداع يكتب و يكتب ويكتب.
6إذن نجد في النهاية أن هذا العمل المسرحي هو سفر بين الحضارات يحتمل قراءات كثيرة انطلاقا من عدة دلالات.. المرآة/الأنثى/التاريخ/الفلسفة/الصوفية/ الإبداع، إذ يلتقي فيها التاريخ بفلاسفة وصوفيين و مبدعين كبار( مثل ابن رشد وابن حزم و ابن الخطيب و نيرون و نيتش و ابن عربي والحلاج و سارتر و جان دارك، برونهيلدَه، إيلي، أحلام مستغانمي..).
وأسماء لشخصيات تاريخية وأسطورية ترمز للخير و الشر، للضوء والنار (مثال: ابراهيم وموسى و زرادشت و سدهارتا و هراقليطس و أبوزيد البسطامي ..)
وذلك من خلال عملية بحث مستمر عن طريق المرآة التي هي في هذا العمل المسرحي الباذخ عمقا وصوفية، قد تكون/ المرأة/ ذات ذاكرة حية وحقيقة تعري وتطهر الكون، كونها أداة للكشف والمساءلة، استخدم معها المؤلف رموز وأسماء الأساطير و الحكايات والأمثال الشعبية المعروفة ليكون الإنسان صلة وصل بينها وبين ذاته و كينونته، تتفتح معه برؤية جديدة ومتفردة من عمق ذات المؤلف التواقة للبحث المتجدد عن كل ما هو تراثي مغربي ومغاربي وعربي بل لنقل بحث مستمر وراقي في التراث العالمي الإنساني.
ويبقى الإنسان في هذا العمل المسرحي الإنساني، قنطرة عبور بين الذات والذات، والذات والآخر ( فهو الوسيلة والغاية، الحاكم والمحكوم) كونه هو المستهدف من هذا العمل المسرحي وفي نفس الوقت هو الهدف الأسمى.
وهكذا ينتهي العمل المسرحي بجذبة صوفية ( وفي العمل رقصتين صوفيتين اعتمد فيها المخرج ثلاث مرات على إيقاعات القصبة المغربية وفي إحداهن على الناي بإيقاع تركي وقد يكون فارسي. دون أن ننسى آلة البندير التي تحضر كآلة رئيسية تكون الفاصل بين مرآة وأخرى … وتوظيف البندير هنا يأخذ بعدا حلقاويا ساعد الراوي أو الممثل على الانتقال من مشهد لآخر …) مع إيقاع صوفي يتأمل من خلاله الراوي/ الممثل ضوءا بعيدا يأتي مع صوت غابر يردد نفس كلماته:
انت الأصل والغاية… انت الحقيقة والقيمة.”
لنتساءل معه كقراء أو كجمهور حضر عرض المسرحية، ( وعلى ذكر الجمهور فقد كان حشدا كبيرا حضر المسرحية، وتابع حركات الممثل بانتباه وصمت متأمل، خلال مدة العرض كاملة و قد لاقى العرض استحسانه كثيرا وصفق بحرارة..) لمن يتوجه بخطابه الممثل يا ترى؟ هل للضوء البعيد القريب؟ أو ما وراءه؟ أو للأنثى /الكون؟ أو يخاطب الإنسان ككل؟.

—————————————————–
” المرجع: عرض المسرحية المشار إليها أعلاه، و العمل : سارحين الزمان، طبعة 2011 ادريس أمغار مسناوي .

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

منعطفات الجريمة المنظمة الجامحة

*الايرلندي /2019/ لسكورسيزي: منعطفات الجريمة المنظمة الجامحة ضمن النسيج السياسي الأمريكي بعيدا عن الشعور بالذنب: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *