أزهر الحزن… وصار أغنية
قراءة في ديوان “ما يشبه الرثاء” للشاعر فراس حج محمد
عمر عبد الرحمن نمر*
وأنا أقرأ ديوان الشاعر “فراس حج محمد” (ما يشبه الرثاء) الصادر عن دار طباق للنشر والتوزيع في 195 صفحة من القطع المتوسط، سنة 2019م، شعرت بأنني أتجول في بستان واسع، أنتقل بين أشجاره، من شجرة إلى أخرى… ومن نبتة إلى ثانية…
الشجرة الأولى شجرة البؤس، ورقها يأس، وجذرها عذاب.
والثانية شجرة القهر، ساقها معاناة، وثمرها مرّ علقم.
والثالثة شجرة موت، رائحتها الموت، والفناء، والعذاب.
الليل في البستان حزين، والقمر مظلم، والربيع عابس، الحيوانات عمياء باكية تنوح. غيم بلا مطر، غربة واغتراب، قتل وظلم واستبداد، شتاء ثقيل بائس عابس وحشي.
الزمن مظلم مستبد، في سورة الزمن: السبت: قهر، والأحد: قتل، والإثنين: نهب، والثلاثاء والأربعاء والخميس: قهر وقتل ونهب ومرض.
نعم، أيها السيدات والسادة، ولكم أن تضيفوا ما شئتم من معاني الفقد والحرمان والظلم والحزن ما شئتم…
فمعاني الحزن في الديوان مثل البهارات، مرشوشة على كل لفظة من ألفاظه؛ لتخلق فضاءات من الأسى والنواح والغربة والاغتراب، عندها يتم رسم السياق الحياتي، ويمكننا تشخيصه وتأمله.
الوقت قيد يعيش به الحزانى، يكبلهم ويبقيهم أحياء… “لا أنت مني أيها الوقت العقور” ص 86.
والمكان: تابوت ينتظر الموتى.
والأمل: أيقونات حزينة، والحزن أورق وأزهر وصار أغنية…
والورود: ذابلة يابسة تذوي، والذات تذوي وتتهالك أيضاً.. القمر يبكي لأن الصبح جنازة.
الصور دموع نائحات لاطمات في أبحر لجية.. حتى لا ترى فرحاً.
هي معمارية النص، كما شعرت.. وآمل أن أكون مبالغاً، معمارية، لو مات من في الأرض جميعاً لكفتهم رثاءً وبكاءً، بل عويلاً.
في النص الفوقي، أشاد الكاتب جميل السلحوت بلغة الكاتب، وقالت ديمة السمّان، امتلك الشاعر اللغة، وشكلها باقتدار.
نعم، استطاع الشاعر من خلال انزياحاته اللغوية، وتشظي مفرداته حيناً وتمددها حيناً آخر، وروعة التآلف بينهما حتى غدت كالعقد المنظوم، استطاع بهذه اللغة أن يتحدث عن معاني الرثاء كلها، بل يغني لها…
فهو يضحك حتى البكاء..وفي هذا ربط طباقي عجيب، أنجب صورة بكراً وفيه تناص مع غسان كنفاني، فهو الذي كان يموت من الضحك في (موت سرير رقم 12)، والتغاير اللغوي يمدد المعاني في أوسع مساحاتها، فيبدو الحب في الحياة، غير الحب في القصيدة (ص 148).
نعم، استطاع الشاعر أن يبني قاموساً من معاني الحزن، وظفها في رثاء الأرض، والطير، والشجر، والحجر، والذات.
فبدا الطير يسجع ولا يغني، والأرض موات بور، والشجر ذابل لا حياة فيه، والحجر بائس، والذات تذوي.
حتى المدن أصابتها العدوى، فكانت مثل معظم نساء النصوص، لا تستقيم على حال.
يصف الشاعر لنا صورته التي أتى بها إلى بياض الورق:
أتيتكم.. بلا قناع، بلا تنميق، بلا تزييف، بلا تكلف.. بل ساخطاً.
وكأن هموم الوطن والناس فاضت عن حدّها، فنرى الشاعر يقابلها بعبارات تحمل شحنات من الغضب والأسى، وهو الشاعر المنحاز لقضايا شعبه، والمشتبك مع هذه القضايا، إلا أنه لا يملك المفتاح السحري فيقف ويندب كل عقد من الزمن:
73، 83، 73، 2003، 2013، لقد تحول كل عقد إلى بوتقة حزن تفاعلية مع الناس وعناصر الطبيعة، وتكامل مع أحزان العقود التي تليه والتي تسبقه… أزمنة حزينة وتزداد حزناً بشكل مطرد، لنجد الشاعر، وقد امتد خط الحزن البياني لديه، حتى كاد يقفز من الصفحة، عندها وجدناه يرثي نفسه، (ص 127).
يقول الأديب محمد عويسات: لقد غرق الشاعر في الرمزية والاستعارة الغريبة، والعبارات غير المفهومة، وهذا أدى إلى صورة شعرية باهتة خالية من العواطف، ويضرب في ذلك مثلاً “المدينة لا تموت” ص 118.
بينما يرى الأديب إبراهيم جوهر أن الديوان يحتاج إلى قارئ مثقف لا قارئ جريدة؛ لإدراك أبعاد الصورة التي تزخر بها القصائد.
وأرى أن صورّ الشاعر متعددة الأبعاد مركبة، فيها جمالية الخيال، وصدق الواقع، مجبولة بالتشويق لأنها مبتكرة وغير مستهلكة، إلا تلك الصور التي عبرت عن مواقف إباحية مكشوفة، أو شبه إباحية، فأتت سطحية مبتذلة، وفي رأيي المتواضع، فإنها لم تخدم النص لا أدبياً ولا جمالياً (لاعبة التنس ص 74) وغني عن القول عند التطرق إلى صور المنجز النصي، فإنه من الضرورة بمكان التفريق بين المعنى والدلالة. فالمعنى يحيط بالبيت الشعري إحاطة السوار بالمعصم… بينما تتملص الدلالة من بين أصابع اليدين حال الإمساك بها لكتابة النص الموازي… مما يخلق صعوبة الفهم أحياناً…
في الوقت ذاته رأينا بعض الصور تتولد من (طوشة)، أو موقف غضب للشاعر: مثل نص (نقمة المثقف) ص70، حيث يذكر الصرف الصحي المقزز واقعاً وصورة.
في الإجمال فقد استطاع الشاعر كسر الصورة النمطية، وتفرّد في صوره كما قالت الشاعرة فاطمة نزال، وقد جاءت صوره تهكمية ساخرة في قصائد الديوان الأخيرة (الإمبراطور يلقي خطبته الأخيرة) ص 149.
الاقتباس والتناص:
تميز الديوان بتناصات متنوعة، واقتباسات أيضاً، ربطت هذه التقنية الشعرية، الحداثة بالماضوية، وعززت الحكاية، وشدت حبل التفاعل بين السارد والمتلقي، وأذكر بعض مواطن هذا التوظيف:
في النص الأول: مقولة تميم بن مقبل: لو أن الفتى حجر… ومعروف أن الشاعر مخضرم، وقد فرق الإسلام بينه وبين الدهماء، أرملة والده (حيث كانت الجاهلية تجيز للابن الأكبر الزواج من أرملة أبيه)… وعشق الشاعر الدهماء، وظل يتغنى باسمها، وفيما قال: ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر… حيث تمنى الشاعر تميم أن تنتفي المشاعر والأحاسيس عنده…
وأخذ شاعرنا فراس حج محمد هذا المعنى، ليقول: إن الأحاسيس والمشاعر والعواطف، مهما عظمت فإنها لا تفي نصوصي حقها “ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر”!
ص74: قول الحطيئة: الشعر صعب.. وطويل سلمه… وكذلك قصائدي…
ولا يسلم الشرف الرفيع من الأذى .. على سبيل التهكم ص 51
لم تعطني من لحن قيس أو عمرو … ص 104
وقد جاء توظيف الاقتباسات والتناص بشكل موفق في معظم النصوص الاّ أنه (كما أرى) لم يكن التوظيف موفقاً في قصة سيدنا يوسف ص 150، وقصة سيدنا يونس (غريبان هناك… هنا) ص 164، فقد جاء التوظيف متكلفاً، مباشراً خلا من الخيال والجمال… ولم يستطع الشاعر توظيف إمكانات الديني التاريخي إلى شعري جمالي… وازدادت هذه السطحية في توظيف أسطورة (عوليس) بطل هوميروس، في تصوير جهده وتعبه وبلائه.
في حين أجاد شاعرنا في تذويت السندباد الحكائي، وتقمص شخصيته في أسفاره وابتلاءاته.
جاءت القصائد بلسان أنا المتكلم المنحاز، أنا العارف، أنا الشاهد، وتشكلت هذه الأنا (الذات) وتشقق عنها أنا الأخرى ( إياي) “فأنا وإياي القديم على سواء” ص 107.
وفي موطن آخر يتساءل الشاعر: أنا طبعة تجريبية، متى تأتي طبعتي النهائية؟ ص 103. وسؤالي هنا: هل حمّل الشاعر قسماً من سياقاته الشعرية لأنا… وحمّل القسم الآخر لأنا الأخرى… ربما…
ولكن الأكيد أن يعترف الشاعر بــِ (أنا) الكمال و(أنا) النقص، أنا التي تطرح السؤال، ولا تجيد الإجابة، وترسم الممارسات السلبية أحياناً.
وقبل أن نخرج من هذه المماحكات الأدبية لا بد أن نذكر أن ” ما يشبه الرثاء” تطرق إلى: مدينتين: مدينة السلب الموحل كما في “دون جدوى” ص 112.
ومدينة الطهر المقدس، المدينة التي لا تموت “القدس” ص 118
وتوازى ظهور المدينة مع ظهور المرأة، فهي الفلسطينية الواعية التي تقاتل الاحتلال والعنصرية، وهي الزوجة الرائعة، والحبيبة الجميلة، والعاشقة ال…… وعند الخروج من الديوان، فإن العتبة تواجهنا… (العنوان)
العتبة التي ندلف منها إلى النص، ونخرج منها، والتي تفتح احتمالات جمّة وتأويلات كثيرة، لقد أراحنا الشاعر فراس حج محمد من تحليلها وتأويلها، عندما أولّ العنوان وحلله.
قال الشاعر: “ما يشبه الرثاء”… إما أن تكون “ما” للاستفهام، وهل يشبه الرثاء إلا المزيد من الرثاء؟ وقد تكون للنفي، وفي هذه الحالة، تأكيد موارب للرثاء نفسه، أو بمعنى الاسم الموصول “الذي” عندها يصبح العنوان جملة مفتوحة مبدوءة باسم موصول لا يكتمل إلا بالنصوص.
عود على بدء:
نسيت أن أقول: عندما دخلت بستان الشاعر، وتجولت بين أشجاره، ووروده، وثماره، كانت هناك.. هناك في قرنة البستان، مغارة مزوية… مظلمة باهتة.. فيها أصوات كثيرة، وبوح صريح.. ولم أستطع الاقتراب منها.
اقترب منها شيخنا السلحوت، وقال: لم يخرج الشاعر عن سياق الثقافة العربية الإسلامية، بينما قاطعت النزهتان: نزهة الرملاوي، ونزهة أبو غوش مناقشة الديوان في اليوم السابع، لما فيه من ألفاظ إباحية.
وقالت ديمة السمّان: حرم الشاعر المدارس من أن يتوفر فيها كتاب شعر جيد؛ نتيجة وجود هذه الألفاظ الإباحية فيه.
وأطلق إبراهيم جوهر على هذه الظاهرة (المربع الناقص) بحيث تفضي الحالة إلى نسيان جماليات النصوص، وما فيها من سمات رائعة، ولا نرى إلا الثالول في وجه العروس.
قلت في سياق آخر، ربما أصبحت جرأة التعبير الأدبي موضة أدبية، وهناك كتّاب دللوا على الظاهرة، مثل: منى النابلسي، ومروة جرار، وكفاح طافش، وآخرون.. وهنا أطرح سؤالاً: هل هذا مُبَرّر.. فنياً، تربوياً.. اجتماعياً؟… ربما…!
________________
* باحث وكاتب وأكاديمي فلسطيني