أضواء على قصيدة (أنا مشكاة حلم )
للشاعر التونسي محمد برهومي
كانت القدس وما زالت محلاً لإهتمام الشعراء العرب، الذين رسموا صوراً لواقع المدينة، التي تبرز قداستها وطهارتها تارة، وتبين معاني الحزن والألم التي تحياها المدينة تحت ظل الإحتلال الصهيوني.
حظيت القدس بإهتمام كبير وخاص من الشعراء التونسيين.
لقد أحب الشعب التونسي فلسطين، فغنى لها المغنّون وكتب لها الشعراء قصائد كثيرة، فبين فلسطين وتونس علاقة جذروها ضاربة في أعماق الأرض والتاريخ، علاقة قويّة قوّة صدق الشعبين اللّذان يتشاركان في كثير من الصفات والطباع، بين تونس وفلسطيـن قصص حب وعشق لا ولن تنتهي، فلسطين هي قلب تونس وروحها.
عبّر عن هذا الحب الشاعر الكبير محمود درويش حين قال :
كيف نُشفى من حب تونس!
كيف نشفى من حب تونس الذي يجري فينا مجرى النفس
لقد رأينا في تونس من الألفة و الحنان والسند السمح
ما لم نرى في أيّ مكان آخر.
ومن أبرز الشعراء التونسيين، التي كانت القدس محل إهتمامهم :
الشاعر محمد صغيّر أولاد أحمد – الشاعر أدم فتحي – الشاعر قيس الشرايطي – والشاعر محمد برهومي ..الذي شدتني قصيدته عن القدس لما تتّسم به من شفافية وقوة ووضوح. (أنا مشكاة حلم) التي سنتناولها بالدراسة والتحليل.
عنوان القصيدة يشير إلى دلالة معبرة، فكوّة الأمل ما زالت في حائط الأمة .. والظلام المخيف إلى زوال، والحلم سيتحقّق وفجر الحرية والتحرير، لن يطول إنتظاره ..
عند قراءتنا لهذه القصيدة نرصد إشارات كثيرة، نلمس فيها ثورة داخلية عارمة تجتاح الشاعر، لما يحسّ به من قلق واحباط نتيجة الوضع العربي الراهن والصراعات التي تحيط مجتمعنا وأمّتنا العربية من محيطها إلى خليجها .. معبّراً عما يجيش ويعتمل بنفسه، من عواطف وانفعالات ورفض. حاله كالحال أي إنسان عربي ..
لولا وميض ( أمل ) لاح وتسللت خيوطه من بين ظلام عارض مطبق على أمتنا .. لأمضيت نصف عمري بحالة توهان و إغماء فاقداً للحسّ والحركة
(إشارة لحالة الجمود والركود العربي ) ولأمضيت النصف الأخر من عمري سجين الحرقة والألم، متعطشاً برغبة شديدة (بعد سنوات طويلة من الركود والسكون والإستسلام والتراجع)، لزخات من مطر الكرامة والرجولة والنخوة العربية .. فيقول :
لولا وميــض لاح من ظلمائـــــــــي = لقطعت نصف العمر في إغماء
والنصف في سجن الجوى متعطشا = بعد الجفــــاف لزخـــة الأنواء
بعد سنوات طويلة من الجفاف ..قاحلة قاحطة عاشتها أمتنا، يرسم الشاعر صورة تعبر عن عواطفه ومشاعره (كأنّ الصورة هي الشعور، والشعور هو الصورة) كما يقول جلّ النقاد. .صورة في منتهى الجمال الفني
( كوة خالية من مصباحها الذي نقذ زيته، نورس عائد لشواطئ رحيبة ممتدة ).
فالشاعر يعيش على أمل الرجوع لموطن نبت الأمن والسلام في ربوعه. نخلاً يعانق السما و الشهبا سلاماً و أماناً .
“ هذا أنا مشكاة حلم أفرغت من زيتها “..
” محجوبة الأضواء ..أحيا على أمل الرجوع كنورس لشواطىء ممدودة الأرجاء” “
“ولموطن نبت السلام بأرضه ..نخلاً يعانق أنجمي وسمائي”
–
ثم ينتقل الشاعر لمخاطبة القدس .. مؤكداً أنها خلاصة أوجاع شعر الشعراء العرب الأحرار ووجع المثقفين العرب, وأنت يا قدس أنفس وأحسن قصائدنا . .. من دمي قطرت عشقك .
إخلاصا ووفاءُ وأمانة، وثباتا على العهد ضدالغدر.
ولأن قلب الشاعر متعلق بالقدس فقد رسم قبّة مسجدها الأبيّة التي ترفض الذلّ والهوان، رسمها وشماً وخطوطا في جبهته،, وعبّر عن مأساتها في شعره، وفي جُلَّ ما كتب بعباراتٍ أَدبيّة بليغة مؤثرة وثائرة…
–
“يا قدس يا ” وجع القصيدة ” من دمي قطرت عشقك مترعا بوفائي
ورسمت قبّتك الأبيّة وشمة
في جبهتي بالشعر و الإنشاء..
–
بعد أن عبرالشاعر محمد برهومي عن عشقِ ومحبهِ القدس، يؤكد وبالرغم من تراكم الحزن والغضب داخل أرواحنا ونفوسنا، وبرغم أمراضنا العربيّة ظاهرها وباطنها، ومصائبنا الشديدة الوطاءة .. برغم هذا الواقع المر، سأظل أنتظر إضاءة وإشراق فجر جديد، يطل من خلال سواد ليل أمتنا الذي طال إنتظاره.. فيقول :
رغم احتقان الحزن داخل مهجتي
وبرغم كل الداء والأرزاء
سأظل أنتظر انبلاج النور من غسقي
وأنشد للصباح غنائي.
هذا ما فاضت به قريحة الشاعر محمد برهومي. تعبيراً عن روح الأمة، وتوصيفا لواقعها، وتذكيراً لمنجزها الحضاري والنضالي, لقد أجاد الشاعر برهومي التعبير والبوح عن مشاعره الوطنية والقومية بكل صدق واقتدار.
ونستذكر في هذا المقام “الشعار” الذي رفعه الشاعر الفلسطيني الكبيرالمرحوم ابراهيم طوقان في وقت مبكر، ليكون شعاراً لكل فلسطينني..
“لنا البُراقُ والحرمُ لنا الحِمى، لنا العَلَمْ
أرواحُنا، أموالُنا فِدى البُراقِ والحَرَمْ “
وقد حاول الكثير من الشعراء التحذير من الخطر المحدق بفلسطين وخاصة القدس، ومنهم الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود يخاطب الأمير سعود أثناء زيارته لفلسطين قبل احتلالها، منبهاً إلى الخطر الذي يحيط بالقدس ومسجدها الأقصى فيقول:
–
يا ذا الأميرُ أمامَ عينكَ شاعــرٌ .. ضُمَّتْ على الشَكْوى المريرةِ أضلعُهُ
المسجدُ الأقصى أجئتَ تزورَهُ ..أم جئْـتَ منْ قـبلِ الضياع تــودعـهُ ؟
–
أما على صعيد الشعر الفلسطيني المعاصر, قلما نجد شاعراً لم يولِ اهتماماً للقدس، فالقدس لدى الشعراء الفلسطينيين رمز عزة وكرامة، وهي كذلك مركز الصراع العربي الصهيوني الذي يعد امتداداً للصراع التاريخي الذي شهدته المدينة على مر العصور.
أخيراً، أهنىء صديقنا الشاعرالمجيد محمد برهومي متمنياً له مستقبلا شعرياً واعداً..