الأحلام العظيمة…والانكسارات الكبيرة
في رواية “أحلام النوارس”
الناقد أمين دراوشة/ فلسطين
مع كل رواية أقرأها للكاتب المغربي مصطفى لغتيري، أجد نفسي في عالم سحري جميل، يأخذني على أجنحة الخيال، وعلى بساط اللغة المنسابة كشلال عذب، برفقة شخصيات أشعر بما تعانيه، وأخطط معها للمستقبل المنتظر.
في روايته “أحلام النوارس” استخدم لغتيري أسلوب الرسالة في توصيل حكايته، وما يؤمن به، لذا كان ضمير المتكلم هو الأنسب والأجمل، فمن خلال هذا الضمير استطاع الروائي أن يجعل القارئ يتقمص شخصية أحمد ويتماهى معها، حيث أذاب ضمير المتكلم كل الفروق والحواجز الزمنية والشخصية بين مكونات العمل الروائي.
فقد كان لاستخدام الروائي ضمير المتكلم، أن جعل روح الحكايات ممتزجة بروح الروائي، وبالتالي يتلاشى السد الذي يفصل بين زمن السرد وزمن السارد. وكما يقول عبد الملك مرتاض في كتابه “في نظرية الرواية” فإن ضمير المتكلم يجعل القارئ يلتصق بالعمل السردي ويتعلق به أكثر، متوهما أن المؤلف هو فعلا أحد شخصيات الرواية، فالمتلقي لا يشعر بوجود المؤلف، وضمير المتكلم يهب ما يسمى بالمناجاة، بحيث يتعمق في النفس البشرية ويبدي مظاهر قوتها وضعفها، وتظهر كما هي على أرض الواقع. فضمير المتكلم يمنح الروائي الرغبة في كشف ما يعتمل في نفسه، وفي بث ذكرياته التي يحبذ أن يطلع عليها الناس.
الرواية تتحدث عن رجل كانت له أحلامه الصغيرة والكبيرة، هذه الأحلام تتحطم على صخرة الواقع البغيض، فالأحلام الكبيرة تنكسر أمام جبروت السلطة، فيقبض على أحمد بطل الرواية ويعذب ويزج به في السجن ليخرج حاملا عاهة مستديمة تجعله غير قادر على الاستمرار في حياته دون مساعدة. فالحلم بحياة مستقرة تجلّلها الحرية والآمان والمحبة بين الناس ذهبت أدراج الرياح. وعندما يقرر التخلي عن حلمه الكبير ليطارد حلمه في الاقتران بمحبوبته نجوى لبناء أسرة صغيرة، قد يفلح إنتاجها في تحقيق ما عجز هو عن تحقيقه، يصدم بأن المحبوبة التي احتمل سنوات السجن لأجلها قد تزوجت وهاجرت إلى فرنسا، فيعيش على ذكراها، حتى يصل إلى مرحلة الاكتفاء، فيمزق صورتها ويلقي بها أدراج الرياح. فهو يتملكه كما قال في تداعياته “الشعور بأن العالم يرفضني يعمق الجرح في وجداني، ولن يشفي غليلي إلا رفض مقابل أكثر فظاظة وقسوة ..” ويضيف ” أن الخلاص لابد أن يتحقق يوما إذا تملكنا مصيرنا بأيدينا..”. وأوصد أبواب الذات، وانكفأ في غرفة قصية يجتر مرارته.
في رسالته إلى محبوبته، يبث فيها حبه، وآلآمه التي لا تنتهي نتيجة إخفاقه في تحقيق شيء ذي مغزى بحياته، وكذا فلسفته حول الشعر والمثقف العضوي، والسجن الذي وإن خرج منه إلا أنه ظل يطارده، ” السجن الحقيقي داخلنا.. نحمله معنا أينما حللنا وارتحلنا.. فكري فقط في تلك القيود التي تكبلنا..”. إن الماضي يجب أن يكون جزءا منا، ولا نكف عن التطلع إلى المستقبل. غير أن الحلم كي يتحقق يلزمه “نجوى” ففيها وبها يتحقق الحلم.. “في أعماقك الطاهرة ترسو البذرة، وتدريجيا تنمو ثم تتمدد لتتفتح براعمها وتزهر وبعد ذلك تثمر..”
فالإنسان الذي يساهم في بناء الغد يجب أن يكون معافى، واضح الرؤيا، وهو الآن تكتسحه العاهات الجسدية والنفسية، لقد كان فيما مضى يملك كل شيء، أما اليوم فهو مجرد بقايا.. “شبه إنسان، الحياة أضحت عبئا لا يحتمل ويوما بعد يوم يزداد العبء ثقلا، ينوء به الجسد الآيل للسقوط والانهيار.. والأمل في البداية من جديد يلامس العدم لأن الرغبة في ذلك ما فتئت تخبو…وليس هناك ما يمكن أن يعيد إليها توهجها..”.
كان من الممكن لو كانت نجوى بجواره وبين أحضانه أن تعيد له توهجه ولكن كل شيء ضاع وانتهى، وحياته ليس أكثر من خواء مقيت في غرفة نائية عن المدنية التي كرهها.
تنتهي الرواية بأن يقوم أحمد بوضع حد لحياته، فكما كان يقول: “أفكر دائما أن من ابتدأ وحيدا لابد أن ينتهي وحيدا”.
-مصطفى لغتيري- أحلام النوارس- رواية-داالأمان – الرباط 2016.
ويورد الروائي في الخاتمة جزء بسيط من مذكرات نجوى، تبرر قرارها بالرحيل، فهي بذلت كل ما تستطيع لجلب أحمد من عالمه الخيالي إلى أرض الواقع غير إن محاولاتها باءت بالفشل، فبقي يردد أحلامه حتى وهو في السجن، لذا خطت نجوى لنفسها طريقا آخر، قد تستطيع أن تحقق فيه ما لم تستطع تحقيقه مع أحمد. وتختم مذكراتها حول أحمد، وقرارها بالزواج والهجرة بالقول: “مرت الأيام الأولى ثقيلة وصعبة.. ظل خيالك يراود ذهني…”. إلا أنها كانت أقوى وأشد مراسا من أحمد الذي لم يستطع أن يفهم أن الحياة قاسية كصخور مدينة لا حياة فيها، وأنها بحاجة إلى المرونة وإلا فأن الإنسان سيكسر. إن أحمد يمثل الجيل العربي الذي يحلم بالمستقبل الزاهر، ولكن الحلم تحطم على حواف صخر الحياة، وبقيت نجوى وأطفالها دلالة الاستمرار بالحلم الذي لا يكف يعود.