البحث عن إصغاء لشهرزاد
(قراءة في “كتابة صحو ثان” للشاعر صلاح عجينة)
النصوص الشعرية مثابات حلمية، لا خلاف على ذلك، ولكنها تقتص حاجاتها من الإصغاء ولا تساوم عليها لأنها رهانها الأوحد.. وهي أيضا عملية إختلاء (خلوة غير شرعية!) بشهرزاد ما بعد الحكي لمواجهتها بهوية الزبد الذي طفى على زاويتي فمها من أثر الحكي.
لن نتصدى هنا لكتابة (مبتدأ) لـ (مفتتح خبر الشاعر صلاح عجينة) ولن نتصدى لتأطير وجه له، إنما سنحاول الوشاية بحلمه ورصد مفازاته الأيقونية… ولغة الشعر – كما يعرف الجميع – متحرزة ومدافعة عن حيازاتها الأيقونية بصبر رهباني مرير.
الإرتهانات بعدد ألسن البشر؛ ولكن الرهانات تجد في طلب إستحقاقاتها رغم ضيق مساحة ظهورها في الصورة؛ وعلى هذا الأساس يدفع شاعرنا هنا (مفتتح خبره) كمنشور سري لـ (صحو ثان).
هي ليست غواية حلم ولا غواية لغة، رغم إلحاح كلتا الغوايتين، إنما هي فعل ولوغ في وبفعل تحصيل (إصغاء كافيا لأحلام سيئة الطالع) من قبل كل أبناء السبيل، سيئي الطالع لقول (ربع حقيقة بمرآة محدبة)..، أما ما تعكسه المرآة المحدبة فربما سنجد كلمة عنه فيما لم تذعه شهرزاد من حكاياها… ليس ضنا منها به إنما لأنها لم تجد له (إصغاء كافيا لأحلامه سيئة الطالع)… ترى (من أين نبتدئ مادمنا لا نملك إصغاء كافيا، ولو لقول ربع حقيقة)؟
تقول حكايات شهرزاد الألفية أو تخلص إلى، على وجه الدقة، أن ثمة خريف أصفر وخريف مهزوم… والشعراء يتحينون الخريفات المهزومة على ندرتها، بحثا عن الإصغاء الكافي، رغم صفير الريح التي تجاهد في إزاحتها من تحت خطو الحالمين.
ربع الحقيقة التي بحثت لها (شهرزاد الحكاية) عن إصغاء كافي هي: (ثمة حلم عاهر يطوي شوارع الله الفسيحة في مدينة جسدها يتنمل إبتغاء مرضاة مهب جسور، إجتاحته خيانة وبعض الخيبات وتكفله الريح لموسم آخر، وثمة أيضا حلم آخر أنهكه الإعياء من الإعداد لحياة لن يعيش فيها قرير العين، وثمة ثالث يفزعه التشظي إلى إرب شوهاء، وثمة رابع بمثابة فاجعة مستطيرة فقد للتو لوازمه الأولية..)… وهذه ليست شكوى، بل تقرير إلى غريكو (بتعبير نيكوس كازنتزاكي) وإلى (غودو) بتعبير صموئيل بكت… وإلى جهة ما، بتعبير الشعراء المقرورين، من محمد الماغوط إلى صلاح عجينة … وإلى آخر صلاح عجينة مصلوب على لوح الشعر!
والسؤال هو: لماذا حلم الشعراء عاهر ووفق أي ثوابت، والمدينة – كل المدن قطعا… بمن وما فيها لا موضعا ولا موقعا طبعا – جسدها يتنمل إبتغاء مرضاة مهب جسور؟
الوشايات نزيف ووقيعة تعوي!، وما نوشي به هنا ليس حكاية لشهرزاد، بل حلم (عاهر!) وناصية لكلمة الحكاية… وليؤل المؤلون ما طاب لهم… و(ما أسوأ إصطياد الأسود لحظة القبض في دورات مياه عمومية)!
طبعا هذا ليس وجها، ولن يكون، كما أكدت جلجلة إبن مريم وهو ينوء تحت صليبه… الوجه إننا (نقضم تفاح جنة وهم على عاجل من أمرنا)، وطبعا هذه ليست مرثية بل إحدى مفتتحات الخبر… وهي تجد في طلب إستحقاقها لأن تكون وجه من وجوه (المبتدأ)… واللغة مازالت قائمة وتطالب بإستحقاقها رغم تعذر مطر الحوار وشتائه، تحت سماء يمتد صيفها منذ لحظة أول سؤال ممنوع من الصرف!
وحدهم الشعراء من يختلف مع مواضعات المؤلين على أن (قضم تفاح جنة وهم على عاجل من أمرنا) لم يكن إشتهاء، إنما كان إحدى إرتكاسات اللغة التي بددت الحلم… وطبعا، وفي (بلاد اللاكتابة/ اللاحلم، كل شيء جائز وكل شيء لا يجوز.. اوفي مثل هكذا ظرف تتجمهر طوابير الأسئلة وحشود الأفواه السائلة وفصول الخريف) الصفراء والمهزومة… ولكن الشيء الوحيد غير المسموح به هو إيقاظ شهرزاد لأنها تمتلك ناصية الحكي… واللغة عري فاضح!… ولكم يا من ذبحتم (على سفوح الألم: أوبة الرسل)!
ونعود لنؤكد أن هذه ليست مرثية بل إرتكاسة لغوية منبوذة لأنها لا تنتظر أوبة الرسل، بل تتشوف لمكامن تسمع لها صريرا و(أوراقنا المدعوكة).
فأين نحن من المطر وتركة الربيع؟!
ولأن علينا التربص بالريح قبل نثر ما تحت وسادة شهرزاد، فإننا سنفاجأ بأن لا طريق إلى المكامن وإننا (نؤسس لأسف أرضعته مزابل أدعية وصلوات منحنية)… لنتسائل: (فأين نحن)… وكم مضى علينا ونحن في إنتضار
أوبة الرسل؟
هل إكتمل مفتتح الخبر بهذا الصحو الثاني، كما إقترح الشاعر صلاح عجينة؟ الشاعر إقترح النص ومضى ليتركنا لشؤون القراءة وإعادة إنتاجه وتأويله وإستثماره، ولوغا وولوجا ودفاعا عن ممكنات الفكرة… فكم معطف سنحتاج لحين أوبة الرسل… وكم رصيف سيبتزنا إلى ذلك الحين و(نحن كما نحن، نسعى نحونا وما بيننا وبيننا أفق شبهة واحدة وزخات فتوحات قديمة، وما تحت أيدينا غير أصابعنا المنثنية)؟
أظن إنه آن لنا أن نترك شهرزاد لشؤون لياليها وأن نمضي للبحث عن إصغاء كاف لما تبقى من ليالينا نحن!