البحث عن موضع ظل
(قراءة في قصة “وظيفة شاغرة” للقاص رزق فرج رزق)
لطالما كانت البداية بحث.. بحث عن خارطة للأشياء.. بحث عن موقع (لنتوئنا) بين تضاريس الخارطة… البحث عن موضع لظلنا… والبحث عن هوية لتخوم ذلك الظل… والبحث عن مرآة لتلك التخوم.
البداهات تقول أن الخارطة ثابتة في موضعها أبدا، تظللها شجرة الحنو عينها..، فكيف تتبدد ظلال كثيرة في رحلة البحث عن مواضع خطوها؟
لسنا هنا بصدد تأسيس أو تأطير فاتورة جدلية، وإنما نحن بصدد الوشاية بمساحة ما يغطي الغبار من خارطة المرآة.. هل هي جدلية مبطنة أو سعي مشذب الحواف لتأسيسها؟
لنتبع خطو القاص (رزق فرج) وهو يدلف بنا عبر عتبته، التي حرص بدأب نملة، على تسكين حوافها بالتنكير (وظيفة شاغرة)، ولنرى عبر أي بوابة حاول إيقاظ فعل الدهش فينا، وتحت أي سماء رغبت مخيلته أن تقلب لنا ألوان قنص تلك المخيلة من بهجة اللغة.
وظيفة شاغرة.. رغبة لم ترتسم ملامحها في حاجة محددة المعالم والوظيفة.. ومجهولية هدف هذه العتبة، فنيا، هي من أجل سحبنا إلى داخل النص عبر مواربة ناقرة بإحتمالية الحدوث: هل هو إعلان عن وجود وظيفة شاغرة محددة الوجود فعلا، أم تراه هو إعلان عن حاجة لوظيفة، أم هي رغبة إهترأت تحت سوط الإنتظار وباتت حلما بعيد المنال، بعد أن جلدها اليأس بسياطه الخانقة لوظيفة الحلم؟
عبر هذه العتبة المفخخة بتعدد وجه طريدة القنص، يستحوذ القاص رزق على مساحته من زمننا – إغراء” – من أجل أن يواجهنا بألوان الوجه الثاني لرغبة الحياة: تحقيق أسباب البقاء وديمومة الحياة… وفي أول ما يعنيه هذا هو إختزال الحياة في هامش مواصلة العيش، وإحالتها إلى دوامة من السحق لإنسانية الانسان وتهميشه كذات وكيان، من قبل سلطة تمتهن حياة الناس إلى الحد الذي تحيلها معه إلى جولة من اللهاث الممض خلف لقمة العيش، ولتحيل كل ما عداه من تطلعات وأحلام وطموحات إلى ترف أو كوابيس ليلة باردة سقط فيها الغطاء عن جسد النائم المحموم بحسرات تبدد الأفق من أمام عينيه.
“”””””””””””””””””””””””
لطالما قلنا أن ليس المهم أن تروي لنا قصة أو حكاية، وإنما المهم هو الكيفية التي تروي أو تقول لنا القصة بها..، بمعنى: ما هو حجم عناصر الإدهاش والإيهام التي يوفرها لنا القاص في جسد النص، طرحا ومعالجة
وتقانات ولغة ويتمكن من خلالها إعطائنا صورة إيهام جمالي تمكننا من إستساغة الواقع وقبول فجاجة ألمه بطريقة وصورة ممتعتين.. وعليه فلننظر في الكيفية التي روى لنا بها القاص (رزق فرج) قصة بحث بطله عن وظيفة شاغرة، إستنادا إلى الفكرة الجمالية القائلة أن العمل الابداعي ليس صورة فوتوغرافية عن الواقع، وإنما هو معالجة فنية وطرح بديل، أقل إيلاما وأمضى أثرا: توصيل صورة الألم والمعاناة بطريقة (جميلة) أو بصورة شعرية!، وبالتأكيد هذا متوقف على مساحة التخييل لدى الناص، وطريقة قبضه وتعامله وتوظيفه لمسارب تلك المساحة..، وأظن هذا هو ما دعاه الروائي الكبير (غابريل غارسيا ماركيز) بمتبلات العمل الابداعي: حبة ثوم وحبة بصل وباقة معدنوس ورشة البهار التي لا يطيب طعم طبخة من دونها!
متبلات القاص رزق جاءت عبر مقابلة تجريها معه (موظفة خافتة الابتسامة) لتعلق حاجته على حافة المستحيل، ولتحلق بنا في سماء الادهاش الفني، عبر سلسلة من الأسئلة المنافية لمنطق الواقع، والتي لا هدف لها غير أن توصل لعاطل قصة رزق غير: أنت تطلب مستحيلا يا رجل، بعد أن حولت عمليات التجريف السياسي وإغتصاباته، حق العمل، من حق طبيعي إلى حلم بعيد المنال..
وهذا ما عبر عنه القاص رزق بسلسلة أسئلة الرفض والا ستحالة التي تحيل الحياة إلى محاولة إتقاء خاسرة لعملية سقوط من أعلى قمة برج على وجه الأرض، وصدر الحكم بها مسبقا… واكتسب قرارها الدرجة القطعية منذ ما قبل ولادة صاحبها بدهرين من الألم..
هل تعرف مسك الدفاتر والمحاسبة؟
لا.
للأسف نحن نبحث عن خريج يعرف مسك الدفاتر والمحاسبة.
ما هو مؤهلك العلمي؟
خريج جامعة عربية.
للأسف نحن نريد خريجي جامعات أوروبية وأمريكية..( طبعا لو كان طالب الوظيفة خريج احدى تلك الجامعات لأتهم بالعمالة ولكان الطلب نحن نريد خريجي جامعات وطنية لم تلوث رؤوسهم أفكار الغرب الاستعماري)!
وطبعا يأتي سؤاليّ الجغرافيا والتاريخ ليؤكدا، بلا معقوليتهما، على عمق عملية التصميم على إغتيال حق الحياة وتضييق مساحته إلى الحد الذي تصبح، مجرد عملية التفكير بتحقيقه، ضربا من القهر القاتل:
سؤال في الجغرافيا
× كم تبلغ مساحة اليابسة؟ وكم عدد سكان العالم؛ مع ذكر أسماءهم وأعمارهم وهوياتهم ودياناتهم… وإذا أمكن أرقام هواتفهم وأفكارهم المستقبلية!
ومقصد هذا السؤال هو إن إجابتك أيها الكادح، المحروم من حق العمل بمرسوم رئآسي، غير صحيحة ومرفوضة، حتى لو كنت عالما بكل العلوم وتمكنت فعلا من الإجابة الصحيحة على كل فروعه… ببساطة لأننا لا نراك ولا نعترف بوجودك أحيانا!، وأنك عبء علينا وعلى أرض مملكتنا في أحيان أخرى!، وإن وجودك، من الأساس يزعجنا في الأحيان الأخر ،!،وإنك تحلم بما أكثر مما تستحق في كل الأحيان!
أما سؤال التأريخ فيأتي ليقول للمتطفل على أسوار ضيعة صاحب الفخامة: لقد سقطت على أسوار مملكتنا بطريق الخطأ، ولذا عليك دفع ثمن هذا الخطأ حتى آخر حلم في حياتك!
×الاسكنر المقوني ، من العصر الهيلينستي، هل تحثت إليه شخصيا؟ وإذا كانت إجابتك (نعم) فاذكر طبيعة الحديث الذي دار بينكما؛ وإذا كانت إجابتك (لا) فاذكر المانع؟
مثل هذا التطعيم الفنتازي الكفيل بإعطاء المتلقي للحظة لنفث توتره، والتخفيف من حدة ضغط مرارة الحدث على خاطره، هو من بين أهم العناصر الفنية التي تمنح العمل الابداعي، والسردي منه على وجه الخصوص، ميزة الخروج على القوالب وكسر محدداتها، والخروج بها إلى فضاءات أكثر إتساعا، تمنحها متسعات لحرث البحر وزراعة عناصر الإيهام اللذيذ الذي جبلت عليه مخايلنا وتوسلت آلاف (الخدع) من أجل الاسترخاء في ظلاله في الكثير من أحلام يقظتنا، والتي لطالما طفونا في بهجة لحظاتها المسروقة، على مرارة الواقع وصرامة قوانيه وجهامة قسماته المفزعة التي تحشر الحياة وألوانها وآفاقها في ألوان بوابة قصر وثياب صاحب الفخامة… وكوة الواقع التي ضيع غبار حاجاته هوية ألوانها..، ودفعنا في أوقات كثيرة، كزمن بحث بطل القاص رزق عن ظيفة شاغرة، إلى التساؤل إن كان لها لون من الأساس، غير لون العتمة، الذي لم يسمح له برفع رأسه لرؤية حتى لون السماء التي تظلله..
× لا لم أتحدث إليه لأني كنت مشغولا بالبحث عن عمل!
وبما إن إستمرار الحياة وديمومة البقاء صارت مرهونة بفرصة العمل التي توفر لقمة العيش ودوام الوجود، فبالتأكيد لن تسمح الحال معها برؤية غير موضع القدمين والرمال التي تتحرك تحتها!
هل شاهد أحد شخصا حرم من العمل يملك متسعا لمحادثة الاسكندر المقدوني؟ لا لأن الاسكندر مات منذ قرون، بل لأن المحروم من فرصة العمل وسبل تحقيق ذاته لا يرى الاسكندر حتى لو جلس في المقعد المجاور له في الباص الذي يقوده إلى باب بناية آخر إعلان عن وظيفة شاغرة!
ولعل هذا الاسكندر، شارك بطل قصة وظيفة شاغرة مقعده اكثر من عشر مرات… إلا أن التفكير في إجابة أسئلة الموظفة (خافتة الابتسامة) القادمة، منعته من رؤيته، وليس الحديث معه وحسب… فثمة موظفة خافتة الابتسامة في إنتظار حلمه… وأيضا ثمة فيل يجب أن يطير… ولو من أجل سواد عيني صاحب الفخامة أو لمعان أحمر شفاه إحدى موظفاته!