” الحامة ”
دخل حليم إلى المقهى وهو ينظر يمنة ويسرة بحثا عن صديقه الذي استقبله ببشاشة قائلا: ” وصلتني دعوة من أحد الاصدقاء لزيارة مدينة الحامة، ما رأيك أن ترافقني ونقوم بجولة سياحية في الجنوب ؟
أحس حليم بوخزة في صدره وبقي صامتا لبعض الوقت ثمّ ردّ باقتضاب” لالالا مستحيل ، لا أستطيع، لدي التزامات عائلية ” واستأذن في المغادرة.
اتّجه مباشرة ألى بيته وهو يشعر بانقباض قي الصدر لازمه منذ أن سمع اسم تلك المدينة. اتّكأ على اريكته وهو ينظر الى لوحة مقلّدة من “نساء في الحمام التركي” للرسام الفرنسي الشهير جون ليون جيروم اشتراها مؤخرا وعلقها بلامبالاة على حائط غرفة الجلوس.مصادفة غريبة انعشت ذاكرته للمرة الثانية هذا المساء لتعود به إلى خمس وثلاثين سنة خلت، إلى آخر يوم زار فيه حمّامات الحامة وهو صغير.
كان أبوه قد تعوّد الاستجمام كل صيف بتلك المدينة الهادئة للاستمتاع بحمّاماتها الطبيعية ومعالجة الروماتيزم المزمن الذي لازمه منذ سنوات. أربعة أيّام كانت قد مرّت على وصول العائلة الى “الحامة “. على غير العادة رافق العم العائلة ذاك العام وعلى غير عادته لم يصطحب معه سالم، ابنه الوحيد الذي امتنع عن مرافقته بتعلّة رعاية اخواته الاربعة طول غيابه.
كان الجميع يستعدّ للذهاب للحمام حين توقفت سيارة الحرس الوطني أمام المنزل.تحدّث الأعوان بعض الوقت مع الأب ليعود مكفهرّ الوجه حزينا ويطلب من الجميع الاستعداد للعودة الى المظيلة.
كم كانت حزينة تلك الليلة ! أبدا لن تمحى من ذاكرته. لم يتوقّف عمّه عن النحيب طول السفر.كان عويله يدمي القلب .تارة ينادي ابنه ويرجوه العودة ” سالم عزيزي أين أنت تعال انا في انتظارك فقد اشتريت لك هديتك التي وعد تك بها” وتارة يشدّ خناق أبيه مردّدا” لالالا… انت مخطئ.ليس سالم من مات. يستحيل ان يذهب ابني للمسبح دون إذني.هل انت متأكد ان سالم هو من غرق…” وتارة يلطم وجهه دون رحمة ويعود للنحيب من جديد.لم يتوقّع يوما أن يرى عمّه بذاك الانكسار وهو كبير العائلة وذو الهيبة البهية في كلّ المجالس.
ما إن وصلت السيارة أمام المزل حتى انبرى الشيخ يجري الى الداخل وهو يتعثّر في جبّته وأبوه خلفه يرفعه كلّما سقط .تعالى النديب والنحيب في أرجاء الحي واتسعت حلقة النساء أمام الحوش الكل يلطم وجهه، رجالا ونساء، وكثيرات غرزن اضافرهن في خدودهن وهو يصرخن باعلى صوت حتى تقاطر دمهن على الأديم.
كم كانت بشعة حفلة اللطم والنديب ! ابدا لم تفارق خياله.كره الموت ومجالس العزاء وكان يتجنبها منذ تلك الليلة المشؤومة.هو يذكر أنه بقي يومين دون أكل يشكو الغثيان بعد أن انتبه إلى وجود بعض الدماء على قطعة خبز في فطور الصباح.
انتهى العزاء الذي طال أكثر من العادة.الكل تأسف لموت سالم غريقا في مسبح سيدي أحمد زروق .كان سالم الإبن الوحيد لعمّه رزق به بعد اربعة بنات.وتفرّق جمع الأقارب وبقي العم يجترّ دقائق الذكريات مع ابنه الغريق . المسكين كانت صدمته عنيفة. واظب لفترة على زيارة قبر سالم صباحا ومساء ولزم بيته لفترة طويلة لا يغادره. ثم بدأ في الخروج تدريجيا وزيارة أبيه والجلوس معه وهو لا يكفّ عن البكاء في صمت وترديد “لقد انكسر ظهري بموت سالم.من سيحمل اسمي بعده لمن ساترك رزقي ” وكان ابوه يخفف الوطأ عنه بمشاركته البكاء أو بدعوته لقبول قضاء الله والتسليم به.
لكن روحه الثكلى كانت اتعس من ان تواسيها كلمة طيبة
كان العمّ يحضن حليما دامعا ،كلما رآه،ويدعوه لزيارة المنزل واللعب مع بناته ويعطيه بعض النقود لشراء ما طاب له من الحلويات.يا لطيبته وهو يحضنه قائلا ” انت صديق سالم لهذا احبك ” !
كان حليم يزور منزل عمّه كل صباح نزولا عند رغبته ويمضي اليوم بطوله يلعب في الحوش الواسع والعريض مع بناته. وفوجئ،في احدى الايام،بعمّال البناء يبنون حائطا في وسط الحوش ويقسمونه.ترى لماذا ؟ علم لاحقا أن عمّه قد اتفق مع زوجته على طلاق بشرط ان يكتب لها نصف المنزل ليتزوّج أخرى تنجب له الولد
وتزوّج العم من جديد.وكان أسعد الناس حين علم بان زوجته الجديدة حبلى.وانتظر الولادة على أحر من الجمر لكن للقدر رأيا آخرا.كانت الولادة عسيرة الزمت الاطباء على استئصال رحم الزوجة الجديدة لانقاذ الابنة الخامسة.
اشفق يا رب وارحم جميع الاجنحة المتكسرة.