الذات والمكان
في ديوان “رذاذ” لإليان أبي حاطوم
تقول الأسطورة في مذهب التاسوع بمصر القديمة، أن الأرض والسماء عشيقان، كانا ملتصقين زمانا بعيدا، فصلهما إله الهواء عنوةً، ومنذ ذلك الحين والسماء تبكي ماءً.. وفي القرآن أنهما كانتا رتقا ففتقهما الله، فصارت السماء تمطر، وصارت الأرض تُنبت.
وسواء أكان المطر دمعا نازلا، أو كان النبات دمعا صاعدا، فإنهما معا يشكلان مدًّا يشبه السير نحو العناق، سيرٌ في اتجاهين متقابلين. فيما ستشكّل الأرض ونباتها، والسماء وماؤها تراكمات دلالية للخصب والولادة والجنس في مجتمعات وثقافات لاحقة، حيث الخلق كله “من ماء دافق”، وحيث الأنثى “حرث”، وحيث السماء مكان “تأتلف فيه الأرواح أو تختلف” وحيث “النبات الحسن” ذرية صالحة.
وستستند الشاعرة إليان أبو حاطوم في أضمومة “رذاذ” إلى هذا تراث الرمزي لبناء عوالمها الشعرية التي تستضمر المحبة والتواصل والاتصال الحميمي. واختيار “الرذاذ” عنوانا للمجموعة هو اختيار للإيحاء، وللاقتضاب، إذ الرذاذ الذي ليس غير مطر في مستوى الاقتضاب والندرة والقلّة هو في الآن نفسه ماء سيؤسس لعلاقات كثيرة وتوازنات في الحميمية المضمرة بين مكونات متعددة.
المجموعة تقدّم نفسها في الغلاف الخارجي باعتبارها (شعرا)، وترتّب نصوصها صغيرة مثقلة بالتأمل والبُعد، ومغسولة بشعرية واضحة، ومربوطة إلى خط الرؤية نفسه. ورغم أنها مقاطع مرقّمة تشبه الهايكو والشذرة والوومضة إلا أنها تتصل ببعضها معجميا ودلاليا واشتغالا فنيا، إضافة إلى وحدة الدفقة الشعرية وقوتها، بحيث يصير الديوان كله نصا واحدا بأنفاس مقطّعة، أو قصيدة تتشذّر بإمعان، فيما يمثل صياغة لغوية وشعرية للرذاذ في اقتضابه وفي حباته الصغيرة.
ومِن “أعشق أزهارك” في أول مقطع في القصيدة/الديوان إلى “آهات صامتة” في آخر مقطع، لن يُخطئ القارئ ترتيب هذا النص الطويل على سلّم العشق بدأً والحميمية امتدادا والجنس الخفي إضمارا. فعند غفوة الشمس “تبدأ طقوس الغروب” (ص9)، والغروب -على عكس الشروق- هو التحام الشمس والبحر، أو الشمس والأفق ومغيب ذاك في ذا، وذوبانٌ يصير فيه الأفق لباسا للشمس وتصير الشمس ولباسا له، هناك “خلف أسوار المدينة [حيث] تضحك الشمس” ( ص12 )، وحيث “النوارس تخطف القبل من شفاه الصخور” (ص11)، في تنامٍ حميمي وجميل لكل مكونات المكان والجوار من ماء وصخر وقوارب وألوان وريح ونوارس ومد وجزر إلى أن “تحجب ستائر الدانتيل ضفائرَ الشمس” (ص15) ، كي تبدأ الشاعرة امتطاء أحلامها التي تشبه “زعترا بطعم فنجان الصباح” .
إن هذه الوشائج والأنسجة الحميمة تظل دائمة في اكتمال الطرفين وفي النقصان معا، لذا فحضور الماء/الموج و السماء/النوارس إضافة إلى حركةٍ ما، تفضي كلها إلى الخصب والولادة حيث “البحر يعلن المخاض” ( ص13) ، في حين أن فضاء الصحراء حيث لا ماء ولا موج ولا نوارس ولا وصف للبحر يستمر الارتواء مع ذلك، وتستمر حميمية ما ولو ذاتية إذ “جملٌ يرتوي من نبيذ سنَمه” (ص16).
هذه الأرضية التي تستند إلى ما أسّسته الأسطورة، ستعمد الشاعرة إلى تشييد رؤيا الديوان فيها عبر دائرتيْ: الذات و الأرض.
ففي الديوان ضميران مهيمنان: الغائب لعناصر الطبيعة، والمتكلم للذات الشاعرة، هذه الذات تصير منظورا إليها بعين الطبيعة ذاتها، كما لو أن تفاصيل البحر والسنونوات والأزهار والشجر هي أجزاء غير مستقلة عنها: “أنا الكرمة والعنب” (ص19 )، أو منظورا إليها كحلقة بالغة الهشاشة والضعف والرقة : “أرجوكم لا تأخذوا صورة لي.. إنما.. خذوا بيدي”، و “أيها الليل، كن رحيما.. واجعلني أغمض عيني” (ص45 )، ورغم أن الذات المتكلمة ستغدو أقوى في المقطع ما قبل الأخير من الديوان: “ضحكت شفاه قلبي لإشراقة شمس” (ص80)، إلا أن أغلب حضورها طبعته الهشاشة ذاتها.
فيما تحضر الأرض كمكوّن طبيعي بكثافة في الديوان، وتحضر كأمكنة أيضا. الأمكنة محصورة في جغرافيا فلسطين : “حيفا، القدس، جبل الكرمل…” ، هو حضور شبيه بحضور الذات من خلال توحّدها مع العناصر الطبيعية التي تكررت هنا وهناك، كالبحر والسماء، كما في المقطع: “حيفا عروس البحر، تغفو كي تنام في سرير السماء” (ص18 ).
وكلا العنصرين يلتقيان في محور واحد هو محور “الانتماء”، فالشاعرة التي ” تحلق شوقا في ربيع السنونوات وتزهر” (ص28)، تشتغل على تذويب الذات في السنونوات وفي النوارس كي تعيد سيرة الأرض في الأسطورة، وقد تربح الرهان حينما “حصان جريح اقتحم مملكتي، ضفائره تنزف” (ص23)، نزف يشبه دمع السماء الذي سيمتد إلى ما لا نهاية.
لهذا فانصهار الشاعرة في مكونات الأرض هو انصهار أيضا في الأمكنة الفلسطينية التي تتو ق للسحاب والسماء في كثير من النصوص مثل: “تعانق قباب القدس أبواب السماء وتقبّلها” (ص30)، أي بمعنى آخر فامتداد الأمكنة هذا هو امتداد للذات المنصهرة فيها، ورغبة الأمكنة في وصال السماء هو رغبة الذات نفسها لعناق الحبيب، وهنا نلِج استبطانا جميلا وتناصا عميقا للأسطورة الأولى.
فإذا كانت السماء والأرض رتقا تم فتقهما – والفتق يفترض قوة وقهرا-، فإن الذات والمكان في الديوان أيضا كانا ملتصقين ببعضهما وتم فصلها بقوة وبطغيان، وسيظل تشبثهما ببعضهما رغم كل شيء، ولو في حلم أو في قصيدة: “لقاؤنا لم يتعدّ محبرة وريشة وحلما” (ص72)، غير أن السماء التي تمثّل الحبيب لا تظل باكية فقط داخل الديوان، بل تراقب وتقرأ وتفكك وتغار وتعاتب في انتظار عودة الوطن، والتصاق الحبيبين.
ولأن روح الذات في المجموعة “تبقى معلّقة بأرجوحة الانتظار” (ص 75)، فإن خطاب القسوة من الحبيب هو خطاب لوم ، ومادامت “السماء لأجلك تغار من التراب، وكلامك عن الوطن علّه حلم.. علّه سراب” ( ص74 ) فإن الرسالة تغدو “رسالة وداع من السماء لعلّكم تتوبون”( ص36).
لقد إستطاعت الشاعرة إليان أبو حاطوم أن تقدّم رؤية الثورة من بوابة العشق، ورؤية النضال من نافذة الأنثى، وخطابَ الانتفاضة في مقاطع سلسة مائية منثورة كرذاذ يشمل الفضاء والمكان والذوات.