حوار مع الروائي الأردني الدكتور فادي الموّاج الخضير.
الروائي فادي الموّاج الخضير: علاقتي بالنص تنتهي – مثل نجيب محفوظ- لحظة تسليمه للمطبعة
جاءت انتصارا لقيم الحب وانقاذاً لما تبقى منه من نير الاهتمام بالجسد على حساب الروح
فادي الموّاج الخضير. الروائي الأردني أطلق صرخته الأولى في عمان في مستهل عام 1979، ورافقت « الخاطرة» بداياته في «ملتقى الإبداع والمبدعين العرب» عبر نافذة الشبكة العنكبوتية، ثم كتب المقالة، فاحتفظت ذاكرة صحف (الرأي والدستور والعرب اليوم والغد) بمقالاته الوجدانية والوطنية والاجتماعية، مثلما احتفظت صفحة «دراسات» في الرأي بكثير من مقالاته السياسية، وكتب القصة القصيرة، فاحتفظت خزانة الأدب بمجموعته القصصية «دموع متأخرة» عام 2009، وأنجز كتابا بعنوان « الرفض في شعر المتنبي». تنقل في محطات الحياة الوظيفية معلما، فمسؤولا للنشاط الثقافي في وزارة التربية والتعليم، فرئيسا لعدة أقسام فيها، فمديرا لوحدة مكتب الامين العام للوزارة، فمديرا، بالوكالة، لمكتب وزير التربية والتعليم حتى نهاية عام 2013، ليلتحق بدار رئاسة الوزراء رئيسا لقسم القرارات في الأمانة العامة لمجلس الوزراء. أنهى الماجستير في الدراسات اللغوية، وملتحق ببرنامج الدكتوراة في التخصص ذاته. أصدر مؤخرا روايته « أنثى افتراضية» وأوجدت حراكا نقديا وادبيا حولها. نلتقيه لنحاوره في تفاصيل « أنثى افتراضية» من العتبة الولى العنوان مرورا بالشخصيات و الأبطال، وقوفاً عند الفضاء الروائي ما بين الواقعي والمتخيل:
حاورته رانيا بخاري
رانيا بخاري: هل يعتبر عنوان الرواية إعلانا عن إزاحة الأنثى الوجودية وإحلالا لأخرى تخييلية؟
الموّاج: لعل العنوان العتبة النصية الأولى التي تواجه القارئ ومفتاح العمل الأدبي وكتلة الإشعاع الأولى التي يمتد وهجها ليسيطر على القارئ ويضعه في منطقة من الرؤية يتحرك في ظلالها، ولذلك فإن عنوان الرواية ” #أنثى_ افتراضية ” جاء حاملا الــ ( #، _) ليأخذ المتلقي إلى منطقة العالم الأزرق الافتراضي بوصفه عالما موازيا للعالم الحقيقي، بما فيه من وجود افتراضي لا ينفصل – حقيقة – عن الوجود الحقيقي، إنما جاء ليسلط – فيما يسلط عليه الضوء – ضوءا على هذا العالم الذي بتنا نفتتح به صباحاتنا ونختتم به مساءاتنا من خلال هذه الشاشة التي يستولي المتصفح الافتراضي ( الفيسبوك) على مساحاتها، حتى رأى عدد من النقاد العرب الذين تناولوا الرواية بالدرس والتحليل أن ” أنثى افتراضية ” تكاد تكون الرواية الأولى التي يخلصها مؤلفها لتسلط ضوءا كاشفا على هذا العالم الموازي. أما الأحداث فيتقاسمها العالمان الواقعي والافتراضي لولا أن مساحة الأحداث في الفيسبوك تطغى على الأحداث في الواقع، وقد أشار لذلك الناقد الاردني فوزي الخطبا بقوله ” وتكاد الرواية تكون أول رواية تعالج أدوات التواصل الاجتماعي”.
رانيا بخاري: هل جاءت ” أنثى افتراضية” مكملة للواقع أم أنها مستقلة عنه؟
الموّاج: لا ينفصل وجودنا الفيزيقي عن وجودنا الافتراضي في عالم (الفيسبوك)، ذلك أنه أصبح الناطق الإعلامي عن منجزاتنا والمعبر الشفيف عن مشاعرنا والحاضن لرؤانا، تماما مثلما بات في كثير من الحالات المكان المفضل لترويج وجبات الطعام اليومية وإقامة الولائم الافتراضية دون رائحة، وبات محطة للزهور التي نطالعها دون عطر، ومكانا لمعجم لغوي جديد متغير الدلالات، ذلك أن لفظة مثل ( أعجاب) لم يعد لها ذلك المعنى الذي كانت تحمله قبل ظهور هذا العالم الأزرق. والحقيقة أن ” أنثى افتراضية ” تنتمي إلى المدرسة الواقعية، فهي تطرح مسألة مهمة وموجودة، تطرحها بشفافية وصدق، وهي مسألة أهمية التكامل بين الروحانيات والماديات لاستدامة العلاقات الإنسانية، فالبيت الذي لا حب فيه بيت خرب لا حياة فيه، وهو مرشح للموت على ذمة الحياة. وقد أشارت الأديبة المغربية هند بومديان والأديبة التونسية لطيفة الزوالي إلى بحث ” أمل” عن الحب العلوي السامي، مثلما أشارت الصحفية الاكاديمية التونسية إشراف محمد بن مراد إلى أن الرواية تعد مبحثا ثريا للباحثين فيما يعرف بعلم النفس الافتراضي، وتنبهت الاديبة الاردنية دينا العزة إلى ” تكنيك ذكي في أنثى افتراضية يؤكد ان الافتراض واقع حقيقي لا ينكر ابدا”، واشارت الناقدة اللبنانية مادونا عسكر إلى أن الرواية نقلت الحالة الفيسبوكية بامتياز .
رانيا بخاري: أنت كسارد، هل عايشت تلك الأنثى في مرحلة ما واختزلتها، ومن ثم جاءت كواحدة من شخوص الرواية؟
الموّاج: من المعلوم أن الأديب إما أديب بالتجربة وإما أديب بالملاحظة، وإما مزيج من التجربة والملاحظة، والحقيقة أننا نتساوى جميعا أمام ثلاثة أشياء: الحب والأمل والموت، فكلنا نعيش على أمل، نحتضر عندما نفقد الأمل، ونموت عندما ينتهي الأجل، ونعيش بالحب وللحب. ومن منا لم يعش حبا من نوع ما؟َ! أما عن ” أنثى افتراضية” فهي حال جلّ إناث الأرض، ممن تذبل الأرواح فيهن بفعل التهميش والإقصاء لهذا الجانب الروحاني المهم أمام تيار الاهتمام بالماديات والوقوع ضحايا لصخب الحياة. كل ما يلزمنا هو شيء من الحب وإشعار الأنثى بكينونتها وأنوثتها والرجل بقيمته. نحتاج لكلمة حب، لوردة معطوفة على احساس دافئ وكلمة شفيفة، نحتاج لتحريك ايقاع النبض فينا، وقلقلة سكونه، لاختزال المسافات الروحية، فالمسافات تقاس أحيانا بالنبض، وغالبا بمقدار اللهفة والاهتمام. فالرواية هذه انتصار للأنثى – مطلق الأنثى- وهو ما اشار اليه المرحوم الدكتور بلال كمال رشيد حين قال” اختار المواج مفردة أنثى لينتصر للأنثى من حيث جنسها وكينونتها”.
رانيا بخاري: صوت الأنثى في متن سردك، هل هو حضور تكافح فيه ضد التغييب السردي الذي تبوأ فيه السارد موقع البطولة؟
الموّاج: البطولة في هذه الرواية كانت للأنثى – مهما بدا صوت السارد كلّي المعرفة واضحا – فالعنوان حمل الأنثى على كتفيه، والبطولة الرئيسة كانت للأنثى ” ممثلة في شخصية أمل ” والبطولات الفرعية برتبة بطولات رئيسة ومارستها الأنثى ” ممثلة بشخصية ميسون” جنبا إلى جنب مع ” الدكتور مازن” و ” ربيع”. وصوت الأنثى كان واضحا ومسيطرا على الحوار بنوعيه: الخارجي ( الديالوج) والداخلي (المونولوج)، وقد أفرد أحد النقاد دراسة خاصة حول ” المونولوج في رواية أنثى افتراضية” لوضوحه فيها، فقد كان المعبر الحقيقي عن مشاعر الأنثى وأحاسيسها التي هي في النهاية تعبيرا عن حاجاتها وانتصارا لها. ولا تنسي أن في داخل كمل منا ” أنثى” تحركه أو يتحرك في فضائها وبتاثير من إلهامها، أما أو أختا أو زوجة أو حبيبة. وصفوة القول إن صوت الأنثى كان حضورا طبيعيا لها ومعبرا عن احاسيسها في رواية حملت الأنثى وهنا على وهن. وأشارت الاديبة الفلسطينية صابرين فرعون إلى أن الحوار في الرواية أسهم في الكشف عن النزعة النفسية للشخوص، واشار الناقد الاردني الدكتور عماد الضمور إلى أن ” المواج جعل العالم الافتراضي عبر الشبكة العنكبوتية وطنا لشخوصه”. وتنبه الاديب الاردني سامر المعاني إلى أدب الومضة في الرواية والرسائل التي جاءت الومضات لتوصلها.
رانيا بخاري: العنوان يشي بصورة ذهنية لدى الرجل ألبسها للأنثى من خلال الأقنعة الرمزية.
الموّاج: لعل سرا ما احتفظ به العنوان ليظل حافزا على الغوص في متن الرواية دون الوقوف عند حافة العنوان، فجاء مقتصدا لغويا ومنزاحا ليفتح أفق المتلقي على سيل من المعاني والدلالات، لكن الغوص في متن الرواية يؤكد للمتلقي أن الرواية جاءت انتصارا لصورة الأنثى الحقيقية وحاجاتها وأحاسيسها، وثورة على الصورة النمطية في ذهن الرجل، فالرواية تعيد الاعتبار لأنوثة الأنثى بوصفها كائنا له أحاسيسه ومشاعره التي لا مبرر لتعطيلها تحت ذرائع الحياة المختلفة، فالأنثى كالنبتة الجميلة تزهر وتفوح رائحتها الزكية كلما حظيت بالعناية والري والاهتمام، والري الروحي ليس أقل اهمية من الري البيولوجي، وهذا ما دفع ” ميسون ” لتحافظ على الرابطة الروحية التي تربطها بزوجها على الرغم من عقمه، وهو الذي دفع ” أمل” لتبحث عن الحب مع غريب غير زوجها في بداية مطاف حكايتها. وقد اشار الناقد المغربي أحمد الشيخاوي إلى ” اعتماد المواج خطابا قناعيا في احتفائه بالأنوثة وخلخلته رمزية الصوت الذكوري الكتواري خلف فحولة زائفة”. فالرواية ديوان العرب المعاصر ومن الطبيعي أن تحمل مشاعر الأديب ورؤاه تجاه محيطه بما في ذلك انتصاره للحب والحياة.
رانيا بخاري: من هي تلك الأنثى الثاوية خلف النص؟
الموّاج: المحبة أنثى والثورة أنثى، والجنة والنار والمودة والصدقة والابتسامة والنبضة والومضة والفكرة كلها إناث، بل إن الحياة كلها أنثى، حياتنا في هذا العالم المفتوح اليوم على الخوف والقلق والثورة، وموتنا في قائمة الحياة أو حياتنا على ذمة الموت كله انعكاس لمخرجات الفكرة والتربية والثقافة، وكلها إناث، والحقيقة – وهي أنثى ايضا- أن هذه الرواية ببعديها الواقعي الرومانسي والسياسي تحيل إلى أنثى هي مصدر الحياة وسر من اسرارها، تصدق على كل أنثى، من خلال مورفولوجيا العمل الروائي التي جاءت لتضع الأنثى على مفترق التأويل، ولهذا تركت أنثاي بين أيدي المتلقين مؤمنا أن دورة حياة الكلمة – وهي أنثى- لا تكتمل دون المتلقي الواعي العميق وأن علاقتي بالنص تنتهي – مثل نجيب محفوظ- لحظة تسليمه للمطبعة. وكل ما استطيع أن ألمح إليه هو أن الأنثى في اللغة ليست مقتصرة في دلالتها على المرأة. ولعل الناقد الأردني ليث الرواجفة أكد ” أن أنثى افتراضية تحمل تحت لغتها الشعرية وعواطفها الرقيقة براكين هائجة ونقدا لاذعا لواقع مظلم ببنيته الاجتماعية ووعيه الثقافي وفلسفته الدينية”.
رانيا بخاري: ما هي الرسالة الموجهة؟
الموّاج: أنا مؤمن بأن الرواية ليست عملا مقاليا أو بيانا حزبيا، إنما هي مولود إبداعي مر بمخاض عسير هو مزيج من الواقع والمأمول وأحيانا المتخيل، ليضع القارئ عند حافة الدهشة ويمنحه مفاتيح للتأمل وإعادة إنتاج المألوف بالنظر إليه من خارج دائرة الإلف.
وهذه الرواية سلطت الضوء على حاجة الكائن للحب، باعتبار الانسان كائنا عاطفيا، تحركه العاطفه وتشكل ضابط الايقاع الحقيقي لسلوكه ومواقفه وانفعالاته، ومدى أهمية إيلاء الجانب العاطفي والوجداني الأهمية اللازمة لاستدامة الحياة. وقد ألمحت الناقدة الاردنية الدكتورة هناء البواب إلى ” أهمية الرسائل المتبادلة من خلال العالم الافتراضي بين الشخوص في ايصال مضامين والبوح عن مشاعر هامة”.
رانيا بخاري: المفاهيم المزعجة والمعلنة عن الجسد الأنثوي فصلت الروح عن الجسد مشوهة الجسد الانساني جاعلة من الجسد الانثوي مرجعية لغوية لكل قاموس الإسفاف.
هذه الرواية مع أو ضد؟
الموّاج: بحمد الله، حظيت رواية ” أنثى افتراضية” حتى اليوم بأكثر من عشرين دراسة نقدية، أكد عدد غير يسير من النقاد فيها على امتياز الرواية بالابتعاد عن الإسفاف والمعجم اللغوي المتعلق بالجسد، وهذا طبيعي ومنطفي – من وجهة نظري – لأن الرواية هذه جاءت انتصارا لقيم الحب والاهتمام الروحاني وانقاذا لما تبقى منه من نير الاهتمام بالجسد على حساب الروح.
فرواية أنثى افتراضية انتصار حقيقي للحب وصرخة في وجه الانكفاء على الجسد. وقد انتصرت – على سبيل المثال- الدكتورة هبه خياري من الجزائر لنقاء الرواية واعلائها من قيمة العاطفة، وذلك من خلال دراستها المعنونة ” الجفاف العاطفي في رواية أنثى افتراضية”، فالجسد يبلى والروح هي التي تبقى.
رانيا بخاري: المكان الواقعي والمكان المتخيل وتداخلهما. ما تأثيرهما عليك عند الكتابة؟
الموّاج: الحقيقة أن عنوان الرواية يوحي – عند النظرة الأولى – بفضاء متخيل، غير أن الغوص في متن الرواية يؤكد أن فضاءها واقعي، ذلك أنها تسلط ضوءا على الواقع، فبنيتها السطحية تحيل إلى واقع العلاقات الانسانية، وبنيتها العميقة تحيل إلى واقع كوني سياسي تعيشه الأمة. وفي الرواية بنى لغوية مفتاحية تشير انزياحاتها الى مكامن خارج فلك البنية السطحية لها.