هناء نور تكتب :
الصعلوك العالمي
داخل المقال شهادات حول الكاتب محمد شكري للأدباء العرب
رءوف مسعد – حمدي أبو جليل – سوزان كاشف – فاضل القيسي – إدريس علوش
وقعت في غرام رواية “الخبز الحافي” من القراءة الأولى؛ فرغم الآلام الروحية والبدنية التي عاشها “محمد شكري” وعالم القاع الذي عاشه مرغما، وقسوة الأب، والقدر؛ إلا أنه لم يفقد الأمل في التغير، وظل متشبثا بالجزء المضيء في روحه؛ ففي نهاية الرواية يعاهد “شكري” نفسه في ظلمات السجن بأن يتعلم مبادئ القراءة والكتابة إن كتب له الخروج من محبسه. كان في هذا الوقت في العشرين من عمره.. وقد قضى كل ما مضى في وحل القذارة والخسة واللامعنى.. وكان قراره الداخلي بالصمود والبدء من جديد، والبحث عن معنى وحياة حقيقية، أشبه بصمود “سيزيف”. وظلت بالنسبة لي نهاية الرواية نقطة ضوء؛ فكلما ضاقت بي الحياة تذكرت “شكري” الذي قاتل قسوة ظروف لا تشبهها أية قسوة. وتشبث ببصيص أمل من صنع النقطة المضيئة في روحه، ولم أقرأ الرواية مرة أخرى؛ ليظل جمال القراءة الأولى طازجا في روحي؛ لكنها دفعتني بقوة للاهتمام بتجربة “محمد شكري”.
يقول شكري: قل كلمتك قبل أن تمضي؛ فإنها ستعرف حتما طريقها.
مضى صعلوك طنجة تاركا عدة أعمال ملهمة.. ثلاثيته في أدب السيرة الذاتية (الخبز الحافي – الشطار – وجوه) روايات “مجنون الورد” مجموعة قصصية “الخيمة” مجموعة قصصية “السوق الداخلي” رواية “السعادة” مسرحية “غواية الشحرور الأبيض” رؤية نقدية “بول بولز وعزلة طنجة” مذكرات “جان جينيه في طنجة – تنيسي وليامز في طنجة” مذكرات “ورد ورماد” رسائل بين محمد شكري ومحمد برادة..
وتظل تجربة “ورد ورماد” من التجارب التي تقربني من حياة شكري اليومية.. رسائل تحمل الكثير من العتاب للواقع غير المنصف؛ للأصدقاء، للأهل، الأيام المتشابهة.. للظروف؛ كل الظروف.. خاصة الظروف الصحية.. غير أنها لا تخلو من جماليات أيضا؛ فتسمع مع الكاتب موسيقاه التي يحبها، تعرف الأطعمة التي يحبها، وكيف يتلذذ بطهيها.. رسائل عن الحب، والكره، والعادي والممل. والأمل؛ الأمل رغم كل شيء.
ومن الأعمال التي أحبها لشكري.. رواية “وجوه” الجزء الأخير من ثلاثيته في أدب السيرة الذاتية.. هي تماما مثل اسمها.. وجوه عاشت في ذاكرة الكاتب.. وبقي الكثير منها في ذاكرتي.. وربما في ذاكرة العديد من القراء. أيضا مجموعته القصصية الأولى “مجنون الورد” أتذكر منها الآن قصة “الضاحكون الباكون” قصة تصلح لكل الأماكن والأزمنة؛ فهي عن أزمة فهم الآخر، وصعوبة القدرة على التكيف.. وهي إشكالية باقية حتى النهاية.. عبر عنها شكري بأسلوبه الساخر المشحون بالألم. ويقال إن شكري اشترى وردة من فتاة حسناء.. لكنه فكر كثيرا، فلم يجد من يهديها إليها، أو إليه، فأخذ يستنشق عطر الوردة الطيب بمتعة.. ثم دفعه جنونه المعتاد إلى أكل أوراقها.. ظنا منه أن رائحتها الطيبة باستطاعتها أن تخلص البطن من روائحها الكريهة، ثم ظل يأكل الورد متبعا نفس الظن، حتى أصيب ذات مرة بالتسمم.. فأطلق عليه لقب مجنون الورد.
ولأنني أكثر الحديث عن محمد شكري كلما سمحت الفرصة.. وأحب أن أنصت للذين كونوا رؤية حول الكاتب الذي أحبه.. كان من الجميل جدا مشاركة أدباء عرب بشهادات حوله..
يقول الكاتب المصري رءوف مسعد:
يتميز محمد شكري كشخص بأنه “خارج السرب” بطريقة ثيابه وسلوكه في الأماكن العامة حيث يعطي لنفسه حقا وقدرا كبيرا من “الحرية” بعدم التقيد بسلوكيات الطبقة الوسطى التي لم ينتم إليها في يوم من الأيام بالرغم من ظهوره ككاتب مغربي له أسلوبه الخاص وثيماته “الشخصانية”.
فروايته الأشهر “الخبز الحافي” أثارت ضجيجا لم ينته بعد، وعانت منه أستاذة مصرية في الجامعة الأمريكية، وهي الدكتورة سامية محرز التي ما تزال تعمل بالجامعة .. الضجة أثارها أولياء أمور الطلاب الذين يدفعون “الغالي” لكي يتعلم أبناءهم، وبناتهم (على الأخص) بطريقة أمريكية تؤهلهم للحصول على المراكز الرفيعة في مصر والعالم لكن “أولياء الأمور” يفاجئون بأن أولادهم -الذين تدرس لهم الدكتورة سامية محرز- عليهم مقرر يجب أن يقرؤونه، ويكتبون ملخصا له، وهو كتاب و رواية “الخبز الحافي”.
وقد طالبت الدكتورة محرز المثقفين المصريين أن يساندونها حتى لا يتم فصلها من الجامعة.. وقد ساندناها بشكل جماعي في عرائض إلى إدارة الجامعة حتى أوقفوا التحقيق معها..
.. كان في المغرب في تلك الأيام وفي طنجة تحديدا كاتب أمريكي متمرد وقد ترك أمريكا كلها ليستقر في طنجة حيث أيامها لم تكن داعش قد ظهرت لكن “الغلمنة” كانت منتشرة في المغرب بدون أية مشاكل خاصة أن هذا الكاتب “بول باولز” Paul Bowles الذي اشتهر برواية Sheltering Sky ضاق بأمريكا المتزمتة فاختار طنجة المغربية مأوى له حتى وفاته بها.
ولأنه كان كشخص يعيش ويغرد خارج السرب فقد تعرف على المثقفين المغاربة من الذين يعيشون على الهامش، وتعرف بالطبع على صعلوك متمرد هو محمد شكري.. الذي تشجع بحماس باولز له فأسلمه عملا كتبه بالعربية بصعوبة هو “الخبز الحاف” – دون ألف مقصورة- من وجهة نظري إذن المراد هنا خبزا “حافا” أي كما نقول في العامية المصرية بدون “أدام” وهو اصطلاح يطلق على هذا النوع من الخبز ليس على البشر الذين يسيرون “حفاة” الأقدام؛ أي بدون نعال ومفردها كما نعرف جميعا هو “الحافي”.
هكذا قدم باولز إلى وكيله الأدبي في أمريكا رواية شكري هذه بعد أن كتب لها ملخصا وافيا وشجع وكيله أن يبحث لها عن ناشر.. وبالفعل تم نشرها أولا في أمريكا ثم حققت شهرة فتم نشرها بالعربية بالعنوان “الخاطئ” وهو بالمناسبة عنوان لطيف وموح!
شهرة محمد شكري جاءت من تمسكه بأسلوبه الخشن “الشوارعي” في الكتابة العربية؛ التي كان معظم كتابها يكتبون بالفصحى المنفلوطية أو فصحى العقاد وطه حسين.. ليجيء شكري فيضع في نصه “لغة الشارع” في طنجة الميناء الساحلي الذي يعج بالبحارة والمومسات و”الغلمان” وكل شيء متاح الثمن المتفق عليه!
الأهمية الأساسية لشكري هنا هي ثيماته المتمردة في أعماله خاصة في “الخبز الحافي” حيث يعطي القارئ العربي إحساسا بأنه يكره والده الذي يغصبه على أفعال يعتبرها الصبي والشاب محمد شكري منافية للتقاليد المغاربية السائدة بما فيها “السرقة”.
لذا كان لرواية الخبز الحافي صدى واسعا للغاية في أوساط المثقفين العرب وكثير منهم رفضها لأنها “خارجة عن الخطوط الحمراء” المجتمعية والأخلاقية والدينية!
وإذا التفتنا إلى ذات الفترة تقريبا لنجد كاتبا مصريا هو صنع الله إبراهيم كتب نصه الأول القصير “تلك الرائحة” في منتصف الستينيات يتحدث فيه عن رائحة مدينة القاهرة المختلطة برائحة المجاري الطافحة أيامها! وبالتالي تحفظ البعض في استقبالها بينما حياها يوسف إدريس وكتب لها مقدمة الطبعة العربية الأولى التي تمت مصادرتها لأنها غير مقبولة سياسيا (بعد هزيمة67) ولا أخلاقيا بمقاييس الطبقة الوسطى المصرية!
والفرق بين كتاباتي (بيضة النعامة مثالا) وكتابات شكري إني أومئ ولا أفصح كثيرا لقناعتي بأن الكتابة الإيروتيكية التي “أتعاطاها” مع شكري وآخرين لا تحتاج إلى الإفصاح قدر ما تحتاج إلى “المعرفة” بالجسد البشري وخاصة الأنثوي..
كتابة شكري “إيلاجية” إذا استخدمت هذا التعبير بينما كتاباتي “تلمس” ولا تلج وتترك للقارئ فرصة أكبر لكي يحرك فانتازياته المختبئة تحت أقنعة أخلاقية ومجتمعية ودينية!
ويقول الكاتب المصري حمدي أبو جليل:
محمد شكري أيقونة من الأيقونات القليلة في الرواية العربية، فرغم أن إنتاجه قليل إلا أنه ترك أثرا كبيرا في الرواية العربية، بالنسبة لي اعتبره صاحب البدء في الصفحة الأولى لكتابة الذات المسماه بكتابة السيرة الذاتية؛ أي أن الكاتب يكتب عن نفسه باسمه. صحيح أنه وقف عند حد الاعتراف، الفرح بالاعتراف، الاعتراف بالسيرة الذاتية، أو ما يعتبر مخجلا لعامة الناس، ولم يتجاوزه إلى حد الفهم، أي محاولة الفهم، أي تحويل السيرة الذاتية إلى رواية، ربما ذلك هو الذي جعل سيرته تخص شكري نفسه. ولا أقول إنها رقصة في الفراغ، ولكنها لم تؤسس لاتجاه روائي، أو تيار روائي يعتمد السيرة الذاتية مشروعا روائيا؛ فظلت رواية شكري تخص شكري، ولا تخص تطور الرواية العربية من أساسها حتى الآن.
وتقول الكاتبة السودانية سوزان كاشف:
“الخبز الحافي” لا تريد أن تموت، وهى تسحقني، فالخبز الحافي لا تزال حية، الأطفال في الشوارع لا ينادوننى شكري؛ بل ينادوننى بالخبز الحافي، هذا ما قاله الكاتب المبدع محمد شكري عن روايته “الخبز الحافي”.
استطاع محمد شكري برواية “الخبز الحافي” الأوتوبيوغرافية أن ينقل واقع معاش إلى رواية تعالج هذا الواقع من منظور تخيلي روائي بديع.
رواية ملئية بالصدق، والعنف معا، العنف البيتي العائلي، وعنف عوالم الشوارع التى عاشها كاتنبا الرائع، أسرار أزقة طنجة، وعالمها المثير، رواية أمتعتني حد التعب، وأتعبتني حد الإمتاع، وتظل “الخبز الحافي” تلك الرواية العظيمة التى صنعت مجد كاتبها، وبؤسه أيضا، فقد كتبها بحبر من دمه. وكما ذكر هو بأنه لو لم يكتبها لأصابه الجنون أو انتحر، لكل ذلك يظل محمد شكري من أشجع وأصدق الروائيين في عالمنا العربي.
ودع محمد شكري الحياة في 2003 بعد أن ترك لنا إرثاَ عظيما نرجع إليه كلما شعرنا بأن بؤس هذا العالم لا نهاية له، اختفى شكري، ولكنه لم يمت.
ويقول الكاتب العراقي فاضل القيسي:
يقول بول ويست: حين يرمي البطل نفسه في المغطس عليه أن يشعرنا برذاذ الماء المتطاير.
لقد استطاع شكري في روايته “السوق الكبير” والتي هي امتداد للخبز الحافي والشطار؛ اصطحابنا في جولة في العالم السفلي لمدينة طنجة. حيث مجموعة من الهيبيين من جنسيات شتى باستثنائه هو المعلم (علي التمستاني) المغاربي الوافد إليها.
كان يصور لنا الأمكنة من بارات وملاهي ومباغي وفنادق بائسة وأزقة ومقاهي حيث نجح بتحويل السرد الكتابي إلى سرد بصري مشعرا المتلقي بالتقزز وأحيانا بالغثيان، ومن أقدر منه على وصف تلك العوالم وهو قد عاش فيها ردحا من حياته. فروايته “السوق الكبير” شأنها شأن أعماله الأخرى أقرب للسيرة منها إلى العمل الروائي، وبطلها وجودي وعدمي أحيانا، (ساعة المتجر مازالت عاطلة، إنها في عطلة صدئة. المدينة في عطلة، أنا في عطلة، لكن عطلتي قد تطول أكثر من الساعة والوافدين على المدينة).
وحتى قراءاته (معنى القلق لكير كيغارد، والزمان الوجودي لعبد الرحمن بدوي وشيطان الفردوس لهنري ميلر). عوالم الرواية وأجوائها تقع تحت سقف موجة الروايات الوجودية فبطلها يقترب من شخصية (ميرسو في رواية الغريب لكامو) في الكثير من المواضع ومناخ الرواية يقترب من رواية (ضياع في سوهو لكولن ويلسون).
لقد نجح محمد شكري في كسر التابوهات التي هيمنت على الرواية العربية. لكنه سقط في فخ البورنوغرافية في بعض المواضع.
باثا سيرته الذاتية في مجمل أعماله؛ سنظل نلاحقه في عوالمه السفلية، وحمامات طنجة والفنادق الرخيصة والمطاعم المكتظة والشوارع المزدحمة لأن مسؤلا سيمر موكبه.
ويقول الكاتب المغربي إدريس علوش:
ظل محمد شكري حتى الرمق الأخير من حياته يردد: أنا كاتب “طنجوي” وهذا يكفيني فخرا وشرفا، ولم يكن يميل إلى أن يردد ويهتف: أنا كاتب عالمي؛ فرغم أن روايته الأشهر “الخبز الحافي” ترجمت إلى حوالي 38 لغة، إلا أنه ظل معتزا بلقب كاتب “طنجوي” فطنجة ألهمته أقصى ما يمكن أن يرسخه كنصوص، وطقوس، وهي حاضرة وبكل قوة في جل كتاباته، ولم يترك فرصة للحديث عن أهمية “طنجة” في مساره الحياتي، والإبداعي إلا وتحدث عنها باعتبارها رأسماله الرمزي الذي لا يفنى، ولا يقدر بثمن، وسر حضوره القوي في المشهدين الإبداعيين المغربي، والعالمي، أو بمعنى أدق: سر نجاحه الذي جعل منه أسطورة، وظاهرة أدبية.
وفي نهاية هذا الحديث أحب أن أضيف: إن الكثيرين من المثقفين “كتاب، وقراء” قد لا يعرفون أن لمحمد شكري أعمال أخرى غير “الخبز الحافي”، وربما يعود هذا الأمر للشهرة الطاغية التي حققتها الرواية؛ أي هذه الرواية بالذات من بين أعماله، ولعل هذا الأمر ليس بالمسألة السيئة؛ إذ إن من الجميل أن يترك المبدع عبارة واحدة تبقى في ذاكرة قارئ ما، فما بالك بعمل ترجم إلى 38 لغة! وعرفه الكثيرون وأثر بهم سواء بشكل سلبي أو إيجابي، ومما اتضح لي أيضا من خلال قراءة تجربة شكري.. أن الكاتب لم يكن من هواة الشهرة؛ بل كانت مسألة قدرية بحتة، وظل الكثيرون يرون أنه لولا الكاتب الأمريكي “بول بولز” لما كان محمد شكري، وأجاب شكري عن هذا الأمر في أحد الحوارات الصحفية التي أجريت معه قائلا: عندما عرفت “بول بولز” لم أكن كاتبا معروفا، لكنه لم يكن السبب الأساسي في شهرتي؛ فقد أمليت عليه “الخبز الحافي” بالإسبانية، وترجمها هو إلى الإنجليزية، لكنها لم تحدث ضجة، وتحقق لي شهرة كبيرة، إلا مع ترجمتها من اللغة العربية إلى الفرنسية، ثم توالت الترجمة بعد ذلك إلى لغات متعددة.
وفي النهاية نختلف، أو نتفق مع محمد شكري، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أنه أثر بشكل أو بآخر في تاريخ الأدب العربي، وسيظل بأعماله الباقية مثيرا للجدل؛ الجدل الذي يثبت بشدة أن كلمة الكاتب أطول من عمره.