العيون.. ثراء لغوي و متعة فنية
احتفاء بعيدها العالمي الحادي عشر، يسرني أن أشارك القراء رحلة و سفر في العيون بين الثراء اللغوي، و المتعة الفنية، للوقوف على كثرة الألفاظ، و دقة المعاني، وجمال الصورة، و براعة البلاغة و المجاز…
يقول الشاعر :
“وإذا العيون تحدثت بلغتها *** قالتْ كلاما لم يقله خطيب”
جاء في معلقة امرئ القيس:
“و ما ذرفت عيناك إلا لتضربي *** بسهميكِ في أعشار قلب مقتل”
استعار السهم للتعبير عن التأثير في القلب و جرحه إلى حدّ الموت أو القتل و منه قول الشاعر معاتباً:
“أعيناي كُفا عن فؤادي فإنه *** من البغي سعي اثنين في قتل واحد”
وللبحث عن حالة فيزيائية مستحيلة يستوي فيها الفعل و رد الفعل في القوة يقول إيليا أبو ماضي متمنيا:
“ليت الذي خلق العيون السّودا *** خلق القلوب الخافقات حديد”
و هذا محمود درويش في استعارة جميلة:
” نيرون مات، و لم تمت روما
بعينيها تقاتل”
و هو من أدخلته البندقية في الحب الممنوع و في حالة بالغة القدسية يقول:
“بين ريتا وعيوني بندقية
و الذي يعرف ريتا ينحني و يصلي
لإله في العيون العسلية”
أما بدر شاكر السياب و في مطلع واحدة من أروع قصائده: “أنشودة المطر” و في انزياح غير مسبوق:
“عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينئا عنهما القمر”
للتعبير عن حالة من التيه و الضياع. وهذا نزار قباني يختزل كل ما يملك موظفا اسلوب الحصر:
“أ أقول أحبك يا قمري؟
آه لو كان بإمكاني
فأنا لا أملك في الدنيا
إلا عينيك وأحزاني”
و الشاعر السوداني ادريس جماع الذي مات و هو يعشق الجمال عبر بكلمات رقيقة و أسلوب رهيف في قصيدة “أنت السماء”:
“و نظرت في عينيك
آفاقا و أسرارا و معنى”
و صدق عباس محمود العقاد لما عرف أن الشاعر بمستشفى المجانين عندما قال:
“هذا مكانه، لا يقول هذا الكلام عاقل”
و الشاعر نفسه ما يقول على عيون الممرضة في لندن بنظرتيها أو بدونهما:
“و السيف في الغمد لا تخشى مضاربه
و سيف عينيك في الحالتين بتّار”
حين ترجم لها ما قاله بكت، و اعتبر أبلغ بيت في الغزل في العصر الحديث.
و امتدادا لأثر العيون و في استعارة جميلة يقول كُثيّر عزّة:
“رمتني بسهم ريشه الكحل لم يجز *** ظواهر جلدي وهو في القلبِ جارح“
و في صورة شعرية ملفتة يقول الشاعر:
“قد يخطئ رأسك قناص، فتصيبك عيون امرأة
لتهديك الحياة”
عيون تنقذك من الموت، لتدخلك على الفور في غيبوبة دائمة. و للعيون معاني لغوية كثيرة منها:
- الطرف: ج أطراف و طوارف، و امرأة مطروفة فاترة العين، ونظر بطرف خفي، نظرة في استحياء أو خوف:
“نظرت بطرف العين خـيــفة أهـــلــها *** إشـارة مـذعــور و لـم تـــتــــكـــــــلـــــم
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا *** و أهلا و سهلا بالحبيب المتيم”
و جاء في المقدمة الغزلية لقصيدة البردة :
“وما سعاد غداة البين إذ رحلوا *** إلا أغن غضيض الطرف مكحول”
- المقلة: ج مقل، و هي شحمة العين التي تجمع البياض و السواد، و هي الحدقة و قيل هي العين كلها، وسمية مقلة لأنها ترمي بالنظر، و المقل: الرمي. يقول امرؤ القيس:
“لها مقلة لو أنها نظرت بها *** إلـــى راهـــب قد صـــــام لله و ابـــتــهــــل
لأصبح مفتونا معنى بحــبها *** كأن لم يصم لله يوما و لم يصل”
و في قصيدة “راحلة”:
“وهذا المساء و حمرته من لظى وجنتيك
يحادثني الصمت في مقلتيك
و نظرتك الحلوة الذابلة بأنك عن حينا راحلة”
- الجفن: ج الجفون والأجفان، يقول الشاعر:
“رحلت منكم باك بأجفان شادن *** علي وكم باك بأجفان ضيغم”
و يقول أمير الشعراء:
“مضناك جفاه مرقـده *** و بـــــــكـــاه و رحـــــــــم عــــــــوده
حيران القلب مـــعـــــذبه *** مقروح الجفن مسهده”
- اللحظ: ج ألحاظ و هو النظر بشق العين أو مؤخرها:
“له خال على صفحات خد *** كنقطة عنبر في صحن مرمر
و ألـــــحاظ كأســيــاف تــنادي *** على عاصي الهوى الله أكــبر”
و في تشبيه ضمني لا أروع و لا أحلى يقول ابن الرومي:
“نـظـرت فـأقـصـدت الفــــــؤاد بلحــــــــظها *** ثـــم انـــثــــنـــت عـنـه فـظـــــل يـهـيـم
فالموت إن نظرت وإن هي أعرضت *** وقــع الســــهام و نزعـــــــهـنّ ألـيـــــم”
- الحور: اتساع العين مع شدة بياض لبياضها و شدة سواد لسوادها فرجل أحور و امرأة حوراء:
“حور سقتني كأس الموت أعينها *** ماء سقـتـنـيه تلك الأعين الحور”
و يقول بشار بن برد:
“وحوراء المدامع من مــعد *** كــأن حـديـــثـها ثـــمر الجنــان
إذا قـامت لـمشـيـتها تثنت *** كأن عظامها من خيزران”
إن هذه الثروة المعجمية، منحت الأدباء و الشعراء طاقة تعبيرية هائلة، فوقفوا على مواطن الجمال لإثارة الذوق في سلاسة وعذوبة وانسجام. و تبقى العربية دائما بأعيننا و كلّ عام و لغتنا الجميلة بألف خير.