الغائب الحاضر بين المألوف والعجائبي ..
قراءة في قصة “غدا ” لمرفت البربري .
دكتور محمد سيد الدمشاوي
تأتي قصة ( غداً ) للكاتبة ( مرفت البربري ) في إطار ما يمكن تصنيفه في قائمة الأدب العجائبي ، أو أدب ( الفانتازيا ) الذي يعالج قضاياه متحررا من قيود المنطق وحدود المألوف ، حيث يبحر الكاتب من خلاله عبر الخيال اللامحدود إلى مساحات أرحب ، ومناطق أبعد، متجاوزا الغرائبية الممكنة ، إلى العجائبية غير الممكنة ، يستشرف من خلالها رؤى جديدة تحلّق بالإنسان بعيدا عن محدودية الواقع ، ومساحة الممكن في طريق البحث عن حلول لقضاياه.
وتكمن أهمية هذا النص في أنه يقدم أدبا نسويا من نوع آخر ، أدبا يجسد تجاوز المرأة للمساحات الضيقة التي يحاول الكثيرون حصر المرأة / الأنثى في حدودها وأسوارها بدعوى الحرية والتنوير والدجل المصطنع، حيث تنزع الكاتبة إلى خوض القضايا الإنسانية المحضة التي ترتبط بإنسانية الإنسان ، دون التعصب لجنس على حساب الآخر، حتى وإن كانت هذه الطروحات تمس صميم القضايا النسوية.
عتبة العنوان :
غدا … عنوان غامض يشي بالجديد وبالترقب والانتظار ، يشارك في تكوين أبعاد القصة عبر التأويل المسبق ، كما يشارك في دينامية الحبكة ، وصيرورة الحكاية ، فضلا عن دوره في تشكيل رؤية النهاية.
عتبة الاستهلال :
تبدأ بدلالة شبه الجملة ، ودلالة المرآة المصقولة ” التي تتوسط ـ بطبيعتها ـ بين الحقيقي والزائف ، لتكون مدخلا معبرا عن حقيقة الثنائيات الضدية الواردة فيما بعد عبر دينامية الأحداث وتحوّل الشخوص وتجاور الأضداد.
وإن لم توفق الكاتبة في استخدام لفظ (إستبرق) الذي حل في غير مكانه .
الشخوص:
خليط من الموتى الأحياء ، والأحياء الموتى
أما الموتى الأحياء فسترى الزوجة / الأم / التي تتنقل بين الموت والحياة ، والحياة والموت لتجسد بالحكي أبعاد القصة العجائبية
وأما الأحياء الأحياء فالابن البار أو الابن / الزوج / الذي يشارك الأم محورية الأحداث ، ويتقاسم معها البطولة ، بل يتقدمها كثيرا بفعل قدرته على التحول والاستنساخ /استنساخ وعي الأب والأم معا ، ثم حلوله في شخصية الأب / الزوج ، ولكن بالصورة المعدّلة التي تتجاوز العيوب والمثالب، وترسخ للحب والحنو المفقود ، والبر المتواصل مع الأم في حياتها ومماتها ، ومن ثم يتفوق على الأم في العمر ويكبرها بعشر سنوات، وفي قدرته على استعادتها وعلى إخفائها ” فصل البطارية.. كي أنسى ما شاهدت” ، ويتفوق على الأب والإخوة في المشاعر والأحاسيس ، ويتفوق على الجميع بالفاعلية المطلقة.
وأما الأحياء الموتى فمنهم الزوج الأناني القاسي، الذي فقد رجولته ومروءته وتحول إلى مجرد (ذَكر) ، ومنهم الأبناء العاقون الذين تبلدت مشاعرهم ، وغلظت أكبادهم ، وقست قلوبهم “وجدت ذكرًا اقترن بأنثى فأنجبا ذريةً، غليظةَ القلوب “، ومن ثم وضعتهم الكاتبة موضع التهميش والثانوية ، وأسقطتهم عبر ثقوب الذاكرة.
بنية الحبكة :
فكرة معقدة لحكاية يمتزج فيها الموت مع الحياة ، والدنيا مع الآخرة ، والممكن مع المستحيل ، والبر مع العقوق في حكاية لزوجة تنعم في الجنة بعد أن حرمت من نعيم الدنيا ، وشربت من كأس الحرمان بسبب زوج متبلد المشاعر ، أناني التفكير ” كنت في وعيه، مجرد أنثى يريح جسده بأوجاعها، ويملأ كأس نشوته بدموعها ” رغم كل ما فعلته من أجله ، تفانيا في حبه ، وتواضعا لسطوته ، وبسبب أبناء عاقين باستثناء واحد فقط ” فلم يكن بهم من حنون سواه ” ، وهي في ذات الوقت تمارس الحياة الدنيوية عبر الوعي المخلّق بفعل الابن البار ، أو الزوج البديل ، أو المعادل الموضوعي الذي صنعه خيالها الفوقي ، وأمنياتها الحالمة عبر زمن الحرمان.
وتكاد القصة تنتمي إلى عالم العجائبي الذي يشكل خروجا على العادي والمألوف من السرد ، لكن الكاتبة تحاول إيجاد حلول بديلة لكسر الهوة بين المألوف والغرائبي وبين المألوف والعجائبي ، حلا وسطا تضع فيه قصتها بين إمكانية الممكن وسطوة المستحيل ، ومن ثم تبدأ أحداث القصة في إطار (الجنة) كوسيط مقبول للتأويل ، يتواجد فيه الممكن باعتبارات العقيدة والإيمان ، والمستحيل بفعل طبيعة القدرات العقلية الدنيوية المحدودة التي لا يمكنها سبر أغوار عالم لا يخطر على قلب بشر. ومن ثم تلجأ الكاتبة إلى وسائط تعبيرية تقرب هذه الثنائيات المتنافرة : ” وقفت أتأنق وأضبط هندامي “، ” ملابسي التي أرتديها الآن طفرة من طفرات (الموضة) ” ، ” ولا آذانهن سمعت بأسماء مصمميها” لتتعامل مع مفهوم الجنة بمفاهيم الدنيا وتعبيراتها.
وفي هذه العوالم المتناقضة بين الممكن والمستحيل ، تعكف الكاتبة على تصوير تجاور الأضداد بأسلوب الممكن والمقبول ، فتصف الملابس بأنها : “رقيقة لا تشف ولا تصف” ، ” تضفي الدفء في ليالي الشتاء، وتمنح في الصيف جسدي لمسة باردة ” وبين الواقع الممكن لبدايات الحكي ، والواقع المستحيل للمتخيل السردي عبر دينامية القص ، التي تبدأ من النهاية حيث العجائبي ، وعالم الجنة ، والعودة للحياة بعد الموت ، بينما تصاغ الأحداث المنقضية بآلية (الفلاش باك) لبيان ما أخفي من فصول الحكاية ، وما غاب من أحداثها قبل الموت.
وبين هذا وذاك تختلف طبيعة التبئير لدى الراوي من التبئير الصفري للراوي العالم والمحيط بفصول الحكاية ودواخل الشخوص ، والقادم من عالم فوقي مطلع على كل شيء ، إلى الراوي مثقوب الذاكرة الذي يعتمد التبئير الداخلي للشخوص وما يعتمل في صدورها من مشاعر وأحاسيس ، بل من تفكير ونوايا ، إلى الراوي المعتمد على الوسيط الآلي ( ملف الكمبيوتر ) الذي يرمم جزءا من الذاكرة المثقوبة ليتمم الأجزاء المفقودة من الحكاية ، لكنه تبئير يفتقد للاستمرارية ، وينطفئ مع انتهاء عمر الوسيط الآلي “فصل البطارية.. كي أنسى ما شاهدت “
فضلا عن التبئير الخارجي الذي يحاول بين الفينة والأخرى أن يوقع القارئ في إشكالية الخلط والمزج بين الممكن والمستحيل ، سواء في وصف أزياء الجنة ونعيمها ، أو جمال الزوجة وفتنتها ، أو المتجاوز لحدود العقل عبر مسارات العجائبي ، كالابن الذي يكبر أمه ، واستنساخ الوعي للأب والتماهي معه ، إلى استنساخ حياة أخرى للأم/ الزوجة ، والزوجة / الأم ، بما لا يسمح للقارئ برهة واحدة أن يريح ذهنه ، أو أن يركن لتبريراته ، لا سيما مع استمرار العجائبي مع كل حدث طارف ، ومع ديمومة التنقل وبين المعقول واللامعقول في آن.
اللغة :
تعتمد القاصة الفصحى لغة للقصة ، لغة تجمع بين السلاسة والسهولة من ناحية ، وبين عمق الدلالة والإيحاء من ناحية أخرى ، حيث تميل الكاتبة إلى استخدام الألفاظ والتعبيرات المكتظة ، المحمّلة بإرث كبير من المفاهيم والرؤى عبر جمل قصيرة تكتظ بالمعاني وترفل في الإيحاءات ” ولا خطر على قلوبهن ” ، ” محرِمة أنا ” ، ” أوامره كانت فروضي ” ، “عناقه كان وضوئي ” ، ” ما زاد اعوجاج ضلعي انكسارا ” لتختزل بها مساحة القص ، وتبتعد من خلالها عن سطحية التعبير ، وتحملها أيديولوجية شخوصها
النهاية :
باهرة ، وغير متوقعة ، وإن كانت الصياغة تحتاج إلى إعادة النظر ، ولو قالت القاصة : ( وفجأة .. انطفأ الجهاز ونسيت كل ما شاهدت ” لكان أكثر تأثيرا في المتلقي على حد رأيي المتواضع ؛ حيث لا يتساوق الفعل الأخير مع طبيعة البِرّ والحُنُو لدى الابن…..وفي النهاية أقدم بالغ التحية والتقدير لهذه المبدعة الرائعة بحق ، ولهذا النص الفائق الماتع دون مجاملة.