الغموض والتطعيم في قصيدة “دعيني.. أُقَـشِّرُ لِحَاءَ عَـتْمـتِكِ”
للشاعرة آمال عوّاد رضوان
بقلم: عبد المجيد جابر
التحليل الأدبيّ
جوُّ النّصّ: يتمثّلُ في الخلاف والاختلاف بين الدّولِ العربيّة، فمنها مَن تَحالَفَ مع الغرب لتدمير دولٍ عربيّة، تعتبرُها الدُّولُ الغربيّةُ حجَرَ عثرةٍ أمامَها في تنفيذِ سياساتِها المُتمثّلةِ في إضعافِ العرب، والسّيطرةِ على أموالِهم، والاستيلاءِ على مَنابعِ النّفطِ ووارداتِهِ.
العنوان “دعيني.. أُقَـــشِّـــرُ لِـــحَـــاءَ عَـــتْـــمَـــتِــــكِ”: يتكوّنُ من جُملتيْن فِعليّتيْن، الجملة الأولى فعلُها فِعلُ أمر “دعيني”، والثانيةُ فِعلُها فِعلُ مضارع “أقَـــشِّـــرُ”، فاعلُها ضميرٌ مُستتِرٌ “أنا”، ومفعول به “لِـــحَـــاءَ عَـــتْـــمَـــتِــــكِ”، والعتمةُ رمزٌ لدَياجيرِ الظّلامِ وتَدميرِ القلاع العربيّة، بأيدٍ عربيّةٍ وتخطيطٍ أجنبيّ، ومَردُّ ذلك الخلافاتُ العربيّة العربيّة. العنوانُ مُوحٍ بانزياحِهِ الإضافيّ، فللعتمةِ لِحاءٌ، وللعنوانِ أهمّيّةٌ كبيرةٌ في النّصّ، ويرى “رولان بارت”: “أنّ العناوينَ عبارةٌ عن أنظمةٍ دلاليّةٍ سيميائيّة، تحملُ في طيّاتِها قِيَمًا أخلاقيّةً واجتماعيّةً وأيديولوجيّة، هي رسائلُ مصكوكةٌ مُضمّنةٌ بعلاماتٍ دالّة. و”بارت” يهتّم بالعنوان، وكُلُّ هذا الاهتمامِ كوْنُهُ مُقتنعًا، بأنّ مهمّةَ السّيميائيّاتِ هي البحثُ عن الخفيّ والمسكوتِ عنه، وعن المُوحَى إليهِ إيحاءً.”(1)
“دعيني.. أُقَشِّـرُ لِحَـاءَ عَتْمَتِكِ”/ للشاعرة آمال عوّاد رضوان
عنوانُ النّصّ عندَ شاعرتنا آمال عوّاد رضوان دالٌّ، “فالعنوانُ طاقةٌ حيويّةٌ مُشفّرةٌ، قابلةٌ لتأويلاتٍ عدّةٍ قادرةٍ على إنتاجِ الدّلالة”.(2)، “وعمومًا، فالعنوانُ هو مجموعُ العلاقاتِ اللّسانيّةِ التّي يُمكنُ أنْ تَرسُمَ على نصٍّ ما من أجلِ تعيينِهِ، ومن أجلِ أن نشيرَ إلى المحتوى العامّ، وأيضًا من أجلِ جذبِ القارئ”. (3)، و”العنوانُ يحظى باهتمامٍ بالغٍ في الدّراساتِ السّيميائيّة، فيُعتبرُ “أكبرَ ما في القصيدة، إذ له الصّدارة، ويَبرزُ مُتميّزًا بشكلِهِ وحجْمِهِ” (4)، كما في قصيدتِنا هذه.
إنّ الإحساسَ الصّادقَ في شِعر الشاعرة آمال عوّاد رضوان هو انعكاسٌ لنبضاتِ قلبها وخَفقاتِ وجدانِها، وتَوْقِ روحِها إلى خلاصٍ ما، ويجبُ احتواءُ الشّعر على ديباجةٍ قويّةٍ وأسلوبٍ ممتاز؛ ليمكن قراءته، ولكي يُثير المَسامع والروح معًا، لهذا فقد تميّزَ شِعرُها بالجَماليّةِ والعنايةِ الفائقةِ، فتقولُ الشاعرةُ في مُستهَلِّ نَصِّها:
“مُنْذُ ظَمَأٍ بَعِيدٍ/ وَأَغْبِرَةُ صَمْتِي/ مَا نَفَضَهَا شِتَاءُ دَلَالِكِ! رُحْمَاكِ/ أَعِينِينِي عَلَى ظَمَئِي/ وَلَا تُصَافِحِي بِالنَّارِ .. سَبَئِي! /هَا نَبْضُ صَوْتِكِ/ حَبِيسُ أَدْرَاجِ هَيْكَلِي المَسْكُونِ بِكِ/ يُذْكِي وَجَلِي الْمُؤَجَّلَ/ ويَفُضُّ خَوْفِيَ الطَّاغِي!”.
“مُنْذُ ظَمَأٍ بَعِيدٍ“: كنايةً عن أنّ الشاعرةَ آمال عوّاد رضوان ترنو إلى الوحدة العربيّة، ونبذِ الخلافِ فيما بين دوَلِها منذُ شبابها، وفي السّطرِ انزياحٌ إضافيّ؛ فالموصوف “ظمأ” يتوقّع المتلقي عند سماع تلك الكلمة، أن يتلوها صفةٌ ككلمة “شديد”، لكنّهُ يتفاجأ بسماعِ كلمةِ “بعيد”، والانزياحُ أو الانحرافُ عن المعيارِ مِن أهمّ الظواهرِ الّتي تُميّزُ اللّغةَ الشّعريّةَ عن السّرديّة، معَ منْحِها شرف الشّعر وخصوصيّته، وهذا النّوعُ مِنَ الانزياح يتّسمُ ببعضِ السّماتِ المُصاحِبةِ لهُ، كالابتكارِ والجِدّةِ والنّضارةِ والإثارة. ومِنَ الأمثلةِ على الانزياحِ الدّلاليّ ما يُسمّى بانزياحِ النّعوتِ عن منعوتاتِها المُتعارَفِ عليها، وهذا مثالٌ على ذلك.
ونلاحظ عند شاعرتنا آمال عوّاد رضوان توظيفَها للانزياح بشتّى أشكالِهِ، ولا شكّ أنّ قمّةَ الانزياح تَحدُثُ في قصائدِها، حيث تعتمدُ على الكثافةِ والغموضِ الشّعريّ، وعلى الصّوَرِ المّتخيّلةِ الّتي تبتعدُ عن الصّورِ الواقعيّة، كما في الشّعرِ الرّمزيّ أو المدرسة الرمزيّة في الشعر.
“وَأَغْبِرَةُ صَمْتِي/ مَا نَفَضَهَا شِتَاءُ دَلَالِكِ!“: كنايةً عن أنّ صمتَ الشاعرة آمال عوّاد رضوان على التفرقة العربيّةِ كان صمتًا قلقًا، و”الكنايةُ مِن أجملِ فنونِ البلاغةِ العربيّة، لأنّها ترمزُ لمراد البليغ، بشكلٍ يُعجبُ السّامعَ والقارئَ ويُسافرُ بخيالِهِ، وهي في الاصطلاحِ (تعبيرٌ أُطلِقَ وأُريدَ بهِ لازمُ مَعناهُ معَ جوازِ إرادةِ ذلكَ المعنى)، فالكنايةُ إذن؛ تجعلُ النّصَّ مُكُثَّفًا لهُ ظاهرٌ وباطنٌ، ممّا يُحرّكُ فِطنةَ المُتلقّي ويُثيرُ خيالَهُ..”(5). وهنا تتوالى الصّوَرُ الشّعريّةُ والانزياحاتُ، فللصّمتِ والسّكوتِ غبارٌ، وللشّتاءِ دلالٌ قابلٌ للنّفض.
“رُحْمَاكِ“: تنتقلُ الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان للأسلوبِ الإنشائيّ المَعروفِ في العبارةِ (بلادي رُحماكِ)، وهي مفعولٌ بهِ ثانٍ لفعلٍ مَحذوفٍ تقديرُهُ (أسألُكِ)، وهذهِ جُملةٌ مُعترضةٌ تُفيدُ الدعاء.
“أَعِينِينِي عَلَى ظَمَئِي“: وتلجأ الشاعرة إلى الرمز، و“الظمأ” يَرمزُ لتوْقِها للعربِ أنْ يَتركوا الخلافاتِ والفرقة، وتتطلّعُ للسّعيِ إلى الاتّحاد، والسّطرُ صورةٌ شِعريّةٌ جميلة.
“وَلَا تُصَافِحِي بِالنَّارِ .. سَبَئِي!“: كنايةً عن انشغالِ العرَبِ بخُصوماتِهم وقتالِ بعضهم بعضًا، كما انشغلتْ بهِ (سبأ) بعدَ انتهاءِ فترةِ ازدهارِها، وتشتُّتِ كلمةِ قبائلِها ومُحاربةِ بعضِهم بعضًا، وتُكثِرُ شاعرتُنا مِن توْظيفِها لفنّ الكناية، “فإذا كانت الكنايةُ معنى المعنى، فإنّ لفْظَها مُحتملٌ للمَعنى، ولمعنى المعنى في الوقتِ ذاتِهِ، فمَنْ وقفَ على المعنى، فهو في إطارِ الحقيقةِ ومُحيطِها، ومَنِ انتهى إلى معنى المعنى، فقد تجاوَزَ الحقيقةَ والتّعبيرَ المُباشر” (6)، فالقارئُ الناقدُ “يَعلمُ إذا رجَعَ إلى نفسِهِ، أنّ إثباتَ الصّفةِ بإثباتِ دليلِها، وإيجابِها بما هو شاهدٌ في وجودِها، آكد وأبلغ في الدّعوى مِن أنْ تجيءَ إليها، فتثبتها هكذا ساذجًا غفلًا، وذلك أنّكَ لا تدّعي شاهدَ الصّفةِ ودليلَها، إلّا والأمرُ ظاهرٌ معروفٌ، بحيث لا يُشَكُّ فيه، ولا يُظَنُّ بالمخبر التجاوز والغلط” (7).
الكنايةُ مِنَ التّعبيراتِ البيانيّةِ الغنيّةِ بالاعتباراتِ والمزايا، وأمّا الملاحظاتُ البلاغيّةُ فهي تُضفي على المعنى جَمالًا، وتزيدُهُ قوّة، ويستطيعُ الأديبُ المُتمكّنُ والبليغُ المُتمرّسُ أنْ يُحقّقَ بأسلوبِ الكنايةِ العديدَ مِنَ المَقاصدِ والأهدافِ البلاغيّة، وهي لفظٌ أو تعبيرٌ لا يُرادُ ظاهِرُ مَعناهُ، ولكن ما يَرمزُ إليه، تأتي بالمعنى مَصحوبًا بالدّليل في إيجازٍ وتجسيم، والكنايةُ مِن الوسائلِ والأدوات الّتي تتشكّلُ منها الصُّوَرُ الفنّيّةُ، و”الصّورةُ الشّعريّةُ كيانٌ فنّيٌّ نابضٌ بالحياة الإنسانيّة”.(8)
وشبّهت الشاعرة الشاعرة التقاءَ السّيوفِ بالمُصافحة؛ استعارة تصريحيّة، وكاتبتُنا تتسلّحُ بوسائلِ عِلمِ البَيان، فإنّ “البَيانُ مَلَكَةٌ يَهبُها اللهُ تعالى لمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فيستطيعُ أنْ يصدَعَ بحُجّتِهِ في المَقامِ والأحوالِ الّتي تقتضي الإبانةَ والإفصاح، مِن ذلاقةِ اللّسانِ وقوّةِ القلب ورباطةِ الجأش، والقدرةِ على التّصرّفِ في القول.” (9).
وفي السّطرِ أيضًا تناصٌّ أدبيٌّ يُذكّرُنا بالمثل القائل: “تفرّقوا أيدي سبأ، وذهبوا أيادي سبأ”.. الذّهابُ مَعروفٌ يُقالُ: ذهَبَ بالفتح يذهبُ ذهابًا، والأيادي جمْعُ أيدٍ، والأيدي جمعُ يدٍ، وهو بمعنى الجارحة وبمعنى النعمة وبمعنى الطريق. وسبأ قيل أبو قبائل اليمن، وهو لقبٌ واسْمُهُ عبد شمس بن يشجب بن يعرب، وسُمّيَ سبأ، قيلَ لأنّهُ أوّلُ مَن سَبى السّبي. وقيل سبأ اسم أمِّهِم، وتُسمّى البلدةُ سبأ باسم سكّانِها، وكانت أخصبَ بلادِ الله كما قال الله تعالى: “جنّتانِ عن يمينٍ وشمال”، فلمّا تفرّقتْ قبائلُ سبأ هذا التفرّق، وتمزّقوا هذا التّمزّق، ضربت العرب بهم المثل فقالوا: ذهبَ القوْمُ أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي تفرّقوا في كلّ طريقٍ ووُجهةٍ، أمّا على أنَّ اليد بمعنى الجارحة، لأنّهم كانوا، إذ كانوا مُجتمعين، يدًا واحدة. فلمّا تفرّقوا صارت اليدُ أيادي كثيرة؛ أو بمعنى النعمة، أي تفرّقوا تفرّقَ نعم سبأ، أو كائنين كنعم أهل سبأ، أو بمعنى الطريق، أي تفرّقوا في كلّ طريق أهل سبأ، حيث تمزّقوا، وأيدي سبأ جعل اسمًا مُركّبًا كمعدي كرب، وسُكّنت الياءُ تخفيفًا وإن انتصب. ذهبوا تحت كوكبٍ.
جاء في لسان العرب باب سبأ: “وقال كثير: أيادي سبا، يا عز، ما كنت بعدكم/ فلم يَحْلُ للعينيْن بَعدَكِ مَنظَرُ. وضَرَبَت العربُ بهم المَثلُ في الفرقة، لأنّه لمّا أذهبَ اللهُ عنهم جنّتَهم وغرقَ مَكانَهم تَبدّدوا في البلاد. التّهذيبُ: وقوْلُهم ذهبوا أيدي سبا أي مُتفرّقين، شُبّهوا بأهلِ سبأ لمّا مزّقهم اللهُ في الأرض كلّ ممزق، فأخذ كلّ طائفةٍ منهم طريقًا على حِدَة.
قال اللَّه تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ). لكنهم كفروا بأنعم اللَّه، وأعرضوا عن اتّباعِ رُسُلِهِ، وعبدوا الشمسَ والكواكبَ، فعاقبَهم اللَّهُ بسيْلِ العرم، فخرّبَ سَدَّهُم، وأتى على أموالِهم وزُروعِهم وبُيوتِهم فدمّرها، كما قال القرآن: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}، وقد تفرّقوا بعدَ خرابِ السّدّ في البلاد مِزَقًا، كما قال اللَّه عنهم: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
وضربَ العربُ بتَفرُّقِهم الأمثالَ فقالوا: واليد الطريق، يقال: أخذ القومُ يدَ بحر، فقيلَ للقوم إذا تفرّقوا في جهاتٍ مُختلفة: “ذهبوا أيدي سبأ”؛ أي فرّقتْهم طُرُقُهم الّتي سَلَكوها، كما تفرّقَ أهلُ سبأ في مذاهبَ شتّى. والعربُ لا تَهمزُ سبأ في هذا الموْضع؛ لأنّه كثر من كلامِهم، فاستثقلوا فيه الهمزة، وإن كان أصلُهُ مَهموزًا. وقيل: سبأ اسم رجل ولَدَ عشرةَ بنين، فسُمّيت القرية باسم أبيهم. والسبائيّة والسبئيّة من الغلاة، وينسبون إلى عبد الله بن سبأ”.(10)
“هَا نَبْضُ صَوْتِكِ“: و”ها” حرفُ تنبيهٍ، وفي عبارة “نبض صوتك” انزياحٌ إضافيّ، فللصّوتِ نبضٌ كنبضِ الكائنِ الحيّ.
“حَبِيسُ أَدْرَاجِ هَيْكَلِي المَسْكُونِ بِكِ”: كنايةً عن هُمومِ الشّاعرة في أمْرِ العرب، وحُبِّها الشّديدِ لهم ولوِحدَتِهم. والصّوَرُ الفنّيّةُ نابضةٌ بالحيويّة، فللشّاعرةِ هيكلٌ له أدراجٌ تحتفظُ بحُبّها فيها للعرب.
إنّ ما يُميّزُ شعر الشاعرة آمال عوّاد رضوان عن غيرها، هو الصّدقُ الفنّيُّ الشّعريُّ النّابعُ الصّاعدُ مِن القلب إلى العقل وليس العكس، إذ نلحظُ بأنّ مُخيّلتَها الشّعريّةَ ليست مُخيّلةً مَحضة، وهذه خصيصة واحدةٌ مِن أهمّ خصائصِها الشّعريّةِ المُتمثّلةِ بتيّارِ التّجربةِ الروحيّة، مقابلَ التّجربةِ الشّكليّة، فمُخيّلتُها الشعوريّةُ والشعريّةُ هي ثمرةُ رؤيةٍ باطنيّة، تمتصُّ جذورُها مِن أعماقِ عواطفِها ووجدانِها المُتلظّي.
“يُذْكِي وَجَلِي الْمُؤَجَّلَ“: كنايةً عن شدّةِ اشتعالِ نار حُبّها للعرب، فللشّاعرة وجلٌ قابلٌ للاشتعالِ كاشتعالِ النّيران، وهذا الوجلُ أو الحياءُ قابلٌ للتأجيل. صوَرٌ شِعريّةٌ مُتتابعةٌ وانزياحاتٌ مُتتالية.
“ويَفُضُّ خَوْفِيَ الطَّاغِي!“: كنايةً عن شدّةِ المَخاوفِ الّتي تُحيقُ بالشاعرة وتعصفُ بقلبها، خوفًا مِن فرقةِ العرب وافتراقِهم وحروباتِهم الداخليّة. صورةٌ شعريّةٌ جميلة، فالخوفُ يُفَضُّ ويَطغى، وازدادَ عن حَدِّهِ كثيرًا. فشاعرتُنا تجعلُ مِن الشعر عالَمًا مُوازيًا لعالَمِ الواقع، إذ يمتازُ أسلوبُ الشاعرة آمال عوّاد رضوان بعدَ كلّ هذا، بما يُعرَفُ بالتّعبيرِ بالصّوَر، أو محاولة إيجاد المُعادل المَوضوعيّ في الأدب، لذا فقد كانَ شِعرُها بمثابةِ العالم البديل لعالم الواقع المرفوض، فالشّعرُ يَكشفُ عن هُويّتها وهُويّة الإنسان الّذي وراءها، بصورةٍ تبدو أحيانًا طبيعيّة وغريزيّة.
لم تستخدمْ شاعرتُنا الشاعرة آمال عوّاد رضوان أدواتِها الفنّيّةَ في سُطورِها، إلّا بعدَ أن غمَرَتْها بألوانِها الرّوحيّةِ القلِقةِ الدّافئة، فكانت أكثرَ تميّزًا وفرادةً، إذ جاءَ شِعرُها ليُشكّلَ ظاهرةً فريدةً في شِعرنا العربيّ الحديث، تجلّت في جوانبَ كثيرة، لعلّ أبرزَها وقعًا وأكثرَها فاعليّة، ما كان في عمليّةِ الخلق الشعريّ عندها في تعبيرٍ مُتطوّرٍ مُتجدّد، وتوصيلٍ غنيّ بالإحساس، وثريّ بالدّيناميكيّة التي تستثيرُ المُشاركةَ والغليانَ الاجتماعيّ والضّياعَ السياسيّ. ولعلّ سياق القصيدة عندها ما زالَ في حاجة إلى دارسٍ، يستطيعُ استقصاءَ صياغتِها الفنّيّة وعناصرِها الحيويّة التي طوّرت الإحساسَ واتّسعتْ بالمعنى، وشكّلت الصّورَ الشعريّة ذاتَ الانفعالِ الحسّيّ، وهو أمرٌ يرتبطُ بمِعماريّةِ القصيدة، وبنسيجِها الدّاخليّ، وعلاقتِها بالحركةِ الشعريّة الجديدة(11).
وما يُميّز شاعرتنا آمال عوّاد رضوان، أنّ الشّعرَ قد وَجَدَ في روحِها وطنًا نما فيها وترعرعَ بينَ أحضانِها، فـما يبدو جميلًا لديها، هو الحقائقُ الجديدة والمُفاجِئة في خِبرتِها الداخليّةِ الفريدة، لا في صُوَرِهِ الجديدةِ المُفاجِئة، إنّ الجمالَ لا ينفردُ في الصورة، بل هو الّذي يَنفردُ في حالةِ الكشفِ عن معنًى عَبْرَ مَشاعِرِها، والغموضُ سمةٌ مِن سِماتِ هذا النّصّ الشّعريّ، ونرى أنّ في الغموض إثارةً وجمالًا، ويُعرَفُ الفرقُ بينَ رؤية النقدِ الحديثِ ورؤيةِ أغلب النقد القديم، وقصيدةُ النثر تتميّز بالغموض. ويرى الدكتور عبد الفتاح صالح نافع أنّ “النّقّاد القدامى وجّهوا اهتمامَهم إلى الوضوح، وجَعلوه مُهمّةَ الاستعارة، ولم يَدُرْ بخلدِهِم أنّ جمالَ الاستعارة في خفائِها ودِقّتِها»(12). ولعلّ مَرَدَّ الغُموضِ في هذه القصيدة “هو السّمةُ الطبيعيّة الناجمةُ عن آليّةِ عملِ القصيدةِ العربيّةِ وعناصرِها المُكوّنة مِن جهة، وعن جوهرِ الشّعرِ الّذي هو انبثاقٌ مُتداخلٌ مِن تضافرِ قوّاتٍ عدّةٍ مِن الشّعورِ والرّوحِ والعقل، مُستترةً وراءَ اللحظةِ الشعريّة»(13).
وتقول في المقطع الثاني: “أَيَا آسِرَتِي .. تَرَفَّقِي بِي/ أَطْلِقِي حَفِيفَكِ.. مِنْ قُمْقُمِهِ/ لِيُمَارِسَ رَقْصَتَهُ/ وَلِتَشْحَذَ نَايَاتِي.. أَنْهَارُكِ الْمَدْفُونَةُ!”:
“أَيَا آسِرَتِي .. تَرَفَّقِي بِي”: الشاعرة في هذا المقطع تستخدمُ الأسلوبَ الإنشائيّ، والنّداءُ في هذا السّطر يُفيدُ التّمنّي، فتتمنّى من الأمّةِ العربيّة التي استحوذتْ على حُبّها وملأتْ وجدانَها، أنْ تُرفِقَ بها، فتتّحدَ وتبتعدَ عن الخصوماتِ والفرقة.
“أَطْلِقِي حَفِيفَكِ .. مِنْ قُمْقُمِهِ”: فعلُ الأمر هنا أيضًا يُفيدُ التّمنّي، فتتمنّى الشاعرةُ من العرب أن يخرجوا من قمقمهم ويَنطلقوا، ليَصلوا الرّكْبَ الحضاريّ العالميَّ فيبدعوا، وفي عبارة “أَطْلِقِي حَفِيفَكِ” انزياحٌ إضافيٌّ يُثيرُ لهفةَ المُتلقّي.
“مِنْ قُمْقُمِهِ”: كنايةً عن عزلةِ العرَب.
“لِيُمَارِسَ رَقْصَتَهُ”: كنايةً عن التّطلُّعِ لتطوّرِ العرَب، وابتعادِهم عن الفرقة والاختلاف.
“وَلِتَشْحَذَ نَايَاتِي.. أَنْهَارُكِ الْمَدْفُونَةُ!”: تتزاحمُ الصّورُ الشّعريّةُ في هذا المقطع، فالناياتُ تُشحَذُ وتُسَنّ كما السكّين، والأنهارُ مدفونةٌ وتعملُ عمَلَ المِبرَد. في السطر انزياحٌ تركيبيّ، والتقديمُ والتأخيرُ في النّحوِ مَظهَرٌ آخرُ مِن مَظاهرِ الانزياح، فقد قدّمَت ما حقّه التأخير المفعول به وهو “ناياتي“، على ما حقّهُ التقديمُ وهو الفاعل “أنْهَارُكِ الْمَدْفُونَةُ” والانزياحُ لهُ دوْرٌ في رسْمِ صورة فنّيّةٍ راقيةٍ للعبارة، “فمنح الصورة الفنّيّة لغة إيحائيّة خاصّة، هذه اللغة هي ما أسماهُ الناقد الأسلوبيّ جان كوهن اللغة بالانزياحيّة، أمّا بيار جيرو فقد أورد تعريفًا للأسلوب (نسبة إلى بول فاليري) فحْواهُ، أنّ الأسلوبَ هو انزياحٌ écart بالنسبة إلى معيار norme، و “كلّ انزياحٍ لغويّ يُكافئ انحرافًا déviation عن المعيار على مستوى آخر، مزاج، وسط، ثقافة..”، وقاموس جون ديبوا فيُشيرُ إلى أنّ الانزياحَ حدَثٌ أسلوبيّ، “ذو قيمةٍ جماليّةٍ يَصدُرُ عن قرارٍ للذات المُتكلّمةِ بفعلٍ كلاميّ، يبدو خارقا transarressant لإحدى قواعد الاستعمال التي تُسمّى مِعيارًا norme، يتحدّد بالاستعمال العامّ للغةٍ مشتركةٍ بين مجموع المُتخاطبين بها” (14).
ولعلّ مرادَ الشاعرة آمال عوّاد رضوان في لجوئها للغموض، خلقُ حالة من التوازن، «ولكن التوازن والهدوء الوجوديَّ غايةٌ لا تُدرَكُ عندَ الشاعر في رؤية الشعر، والفنُّ سيختفي عندما تصلُ الحياةُ إلى درجةٍ أعلى من التوازن»(15)
وفي المقطع الثالث: “هَا تَوَحُّدُنَا لَيْسَ يَكْتَمِلُ/ إِلَّا فِي وَهَجِ الْجُنُونِ/ وجُنُونِي.. لَيسَ يَشْحَذُهُ/ إلَّا دَبِيبُ نَبَرَاتِكِ النَّقِيَّةِ!/ دَعِينَا نَأْتِيهِ/ مِنْ حَيْثُ تَكُونُ لَذَائِذُهُ/ فِي انْتِظَارِنَا”.
“هَا تَوَحُّدُنَا لَيْسَ يَكْتَمِلُ”: وتكرّرُ الشاعرة حرفَ التنبيه “ها” في قصيدتِها مرّتيْن، وللتّكرارِ وظائفُ فنّيّةٌ وجماليّةٌ ينهضُ بها في النّصّ، و”الشاعرُ مِن خلالِ تكرارِ بعضِ الكلماتِ والحروفِ والمقاطعِ والجُملِ، يمدُّ روابطَهُ الأسلوبيّةَ، لتضمَّ جميعَ عناصرِ العمل الأدبيّ الّذي يُقدّمُه، ليَصلَ ذروتَهُ في ذلك إلى ربط المُتضافراتِ فيه ربطًا فنّيًّا مُوحِيًا، مُنطلِقًا مِن الجانب الشّعوريّ، ومُجسّدًا في الوقتِ نفسِهِ الحالةَ النفسيّةَ الّتي هو عليها، والتّكرارُ يُحقّقُ للنّصّ جانبيْن، الأوّلُ يتمثّلُ في الحالة الشّعوريّةِ النّفسيّةِ الّتي يضعُ مِن خلالِها الشاعرُ نفسَهُ المُتلقّي في جوٍّ مُماثِلٍ لِما هو عليهِ، والثّاني: (الفائدة الموسيقيّة)، بحيث يُحقّقُ التّكرارُ إيقاعًا موسيقيًّا جميلًا، ويجعلُ العبارةَ قابلةً للنّموّ والتطبيق، وبهذا يُحقّقُ التّكرارُ وظيفتَهُ، كإحدى الأدوات الجماليّة التي تساعد الشاعر على تشكيل موقفه وتصويره؛ لأنّ الصّورةَ الشعريّةَ على أهمّيّتِها، ليست العاملَ الوحيدَ في هذا التّشكيل”(16).
قد يُسهمُ تكرارُ الحروفِ، إضافةً لدوْرِهِ الصّوتيّ وحضورِ الحالةِ الموسيقيّةِ أو النغميّةِ للقصيدة، في ربط الجُمَلِ ليَدخلَ في تكوينِها، وربطِ الجُمل فيما بينها، فيكونُ لتكرارِ الحروفِ دوْرٌ بُنيويٌّ يتعدّى الحالةَ الموسيقيّةَ ليدخلَ في تركيبها، و”التكرارُ لا تقتصرُ وظيفتُهُ على تلخيص الغرَض أو توْكيدِهِ، بهدَفِ التأثيرِ في المُتلقّي وتنبيهِهِ، ولا على اعتبارِهِ لازمةً تفصلُ المقطعَ عمّا يَليه، وإنّما يُؤدّي التكرارُ دوْرًا بنائيًّا داخلَ بُنية النصّ الشّعريّ، بوَصْفِهِ يَحملُ وظيفةً إيقاعيّةً وتعبيريّة؛ الغرضُ منها الإعلانُ عن حركةٍ جديدةٍ تكسرُ مَسارَ القراءة التّعاقبيّة، لأنّها توقفُ جريانَهُ داخلَ النّصّ الشّعريّ، وتقطعُ التّسلسُلَ المَنطقيَّ لمعانيه، وهذا كلُّهُ يَتطلّبُ البحثَ عن عُمقِ الدّلالةِ النفسيّةِ لأثرِ التكرار، في تحقيقِ جَماليّةِ النّصّ وقوّتِهِ البلاغيّة”(17).
“إِلَّا فِي وَهَجِ الْجُنُونِ”: كنايةً عن العمل الخارق للعرب في نفي خلافاتِهم، والشروع في لحق ركب العالم المتحضّر، فعلى العرب الانطلاق نحو التّوحُّد والانطلاق بالسير بشكل جنونيّ؛ ليصلوا مُرادَهم ويشاركوا في الرّكبِ الحضاريّ العالميّ، عِوَضًا عن التفتّت والتشتّت وتضييع ثرواتهم للأجنبيّ المُمَزِّق، والصورةُ الشعريّة جليَّةٌ واضحة، فللجنون وهج كما لقبَساتِ النّار.
“وجُنُونِي.. لَيسَ يَشْحَذُهُ”: صورةٌ شعريّةٌ تتمثّلُ في جنونٍ يُشحَذُ ويُسَنّ كالسكّين.
“إلَّا دَبِيبُ نَبَرَاتِكِ النَّقِيَّةِ!”: وقد شبّهت الشاعرة آمال عوّاد رضوان دَبِيبَ نَبَرَات العرب النَّقِيَّةِ بالمِسَنّ (استعارة مكنيّة)، وللنّبرات دبيب، وهذا انزياحٌ إضافيّ، “فالمُتلقّي عندما يسمع كلمة “دبيب”، يتوقّع مُضافًا إليه مناسبًا ككلمة “الدابّة” مثلًا، لكنّه يتفاجأ بمضاف إليه “نبراتك”، ومنه أيضًا “نَبَرَاتِكِ النَّقِيَّةِ! فجاءت “النقيّة” صفة للـ“نبرات”، وهذا الانزياحُ يولّد الإثارةَ في نفس المتلقي، وهو من جماليّات الانزياح بمختلف أشكالِه، وذلك بخلخلةِ بُنيةِ التوّقعات، وإحداث فجوة تُعمّقُ حسَّ الشعريّة في نفس المتلّقي، ممّا يُكسب النصَّ توتّرًا وعُمقًا دلاليًّا خاصًّا، فقد تفجّر المُركَّب بالشّعريّة، باعتباره نقطة التحوّل ومنبع اللذّة والإمتاع.
“دَعِينَا نَأْتِيهِ”/ “مِنْ حَيْثُ تَكُونُ لَذَائِذُهُ”: وتنتقل الشاعرة للأسلوب الإنشائيّ وهو الأمر الّذي يفيد التمنّي، فتتمنّى الشاعرة من العرب التوحُّد، والابتعاد عن التفرقة والتشتّت والتمزّق، وفي هذا تتجلّى اللذّة النفسيّة والروحيّة.
“فِي انْتِظَارِنَا”: انزياحٌ، فاللذائذُ تنتظرُ كما ينتظرُ شخصٌ مِن شخصٍ اللقاءَ والالتقاء. وللشاعرة آمال عوّاد رضوان حرّيّةُ لجوئِها للسرياليّة والغموض، فنحن “إذا حدّدنا للشاعرة أُطُرَ الصّورة، وألزمناها بهذه الأطر واضحة الحدود، وطلبنا منها أن تقدّمَ صورةً واضحةً ضمنَ هذه الأطر، فإنّنا بهذا الإلزام نَحدُّ مِن خلقها وإبداعها، ونقفُ حائلًا دون حرّيّتها في التصوّر”(18).
وتستمر الشاعرة آمال عوّاد رضوان في قصيدتها قائلةً في المقطع التالي:
“أَيَا قَصِيدَتِي الْخَالِدَةَ/ دَعِينِي/ أُقَشِّرُ لِحَاءَ عَتْمَتِكِ/ أُضِيءُ كُلَّ تَفَاصِيلِكِ/ لِتُكَلِّلِينِي بِالْفَرَحِ/ فَمَا انْتِظَارِي/ إِلَّا وَجَعَ لَذَائِذِي الْمُؤَجَّلَةِ/ الْــ مَا عَرَفَتْ طُرُقَ الْتِحَامِهَا”.
“أَيَا قَصِيدَتِي الْخَالِدَةَ/ دَعِينِي/ أُقَشِّرُ لِحَاءَ عَتْمَتِكِ”: وتستمرُّ الشاعرةُ في شدْوِها مُوظِّفةً الأسلوبَ الإنشائيَّ الّذي أنهت بهِ مَقطعَها السابق، والنداءُ يُفيدُ التمنّي، وكذلك الأمر في قولها “دعيني“، وقد أوضحنا ذلك سابقا في حديثنا لعنوان النصّ.
“أُضِيءُ كُلَّ تَفَاصِيلِكِ”: صورةٌ جميلةٌ وانزياحٌ عذبٌ، فللعتمةِ تفاصيل والتفاصيل تُضاء، والشاعرة تُعنى بصُوَرِها الفنّيّة، “فقيمةُ الشعرِ تنبثقُ غالبًا مِن لغتِهِ التصويريّةِ المَحسوسةِ الّتي تُجسّدُ المَعاني والمَشاعر، في هيئاتٍ وأوضاعٍ بشريّة، عن طريق التشبيهِ أو الاستعارة أو التمثيل، ومعنى ذلك؛ أنّ الشّعرَ إنّما يقومُ بوظيفتِهِ الفنّيّة، حين يقدّمُ صوَرًا يُدركُها المُتلقّي إدراكًا حسّيًّا، فتؤثّر في وجدانِهِ وتَنفُذُ إلى مشاعرِهِ، فالحواسُّ هي أبوابُ المشاعر والنوافذِ الطبيعيّةِ إليها(19).
“لِتُكَلِّلِينِي بِالْفَرَحِ”: كنايةً عن فرح الشاعرة وهي تتحدّثُ عن واقع العالم العربيّ الّذي تنتمي إليه، وتضعُ الأصبعَ على الجُرحِ لتضميدِهِ، وللفرحِ إكليلٌ كما للعروس، فلا يَغمرُ قلبَ الشاعرة الفرحُ إلّا بتوحُّدِهم وتقدُّمِهم.
“فَمَا انْتِظَارِي/ إِلَّا وَجَعَ لَذَائِذِي الْمُؤَجَّلَةِ“: وها هي الشاعرةُ تنتظرُ زوالَ الخلافاتِ العربيّة، وتصهلُ الصورةُ الشعريّة، فلِلّذائذِ وجعٌ، والوجعُ قابلٌ للتأجيل.
“الْــ مَا عَرَفَتْ طُرُقَ الْتِحَامِهَا”: تلجأ الشاعرة لتوظيف تقنيّةِ الانزياح بالحذف في قولها “الـ” والتقدير “التي”، وللانزياح مُتعةٌ يتلذّذُ بها المتلقي، وتزخرُ السطورُ بالصور الشعريّةِ بشتّى أنواعِها، ومنها الصورة السرياليّةِ الغامضة الّتي “تفور فوَرانًا من أعماق اللّاوعي. إنّها الصورةَ الشراريّةَ اللّامعةَ المُتفجّرةَ من أعماق العقل الباطن.” (20). والنصُّ الشعريُّ “تركيبةٌ مُعقّدةٌ ومُحصّلةٌ لعواملَ مُتعدّدةٍ؛ فيها الأيدلوجيّ والاجتماعيّ والسيكولوجيّ والثقافيّ وغير ذلك، وإنّ اللغة هي الوعاء الّذي تنصهر فيه” (21). وتختتمُ الشاعرةُ آمال رضوان النصّ بالمقطع الخامس قائلة: “أَيَا سَلِيلَةَ هذَا الْقَلْبِ الْمُعَنَّى/ حَسْبُكِ.. أَمَسُّكِ مَسًّا/ فَتَشْتَعِلِينَ خَفْقًا/ كَحَالِ قَلْبِي.. الْــ تَمَسُّهُ أَطْيَافُكِ!”
“أَيَا سَلِيلَةَ هذَا الْقَلْبِ الْمُعَنَّى”: وتستهلُّ الشاعرةُ هذا المقطعَ مُوظِّفةً الأسلوبَ الإنشائيّ، مُستخدِمةً النداءَ ومخاطبةَ نبضِ قلبِها المُتمثّلِ في قصيدتها هذه، والنداءُ يُفيدُ التمنّي في وصفِ واقع العالم العربيّ المُنقسم على نفسِه، وتتأسّى وتحزنُ، والحزنُ دوْمًا مُتربّعٌ على قلبها، على هذا الواقع الأليم الّذي يخدمُ الطامعَ والعدوَّ.
“حَسْبُكِ.. أَمَسُّكِ مَسًّا”: وتتمنّى توفيقَها ونجاحَها في وصفِ مُكابَدةِ العالم العربيّ.
“فَتَشْتَعِلِينَ خَفْقًا”: كنايةً عن أنّ الحزنَ والمرارةَ حاضران في ثنايا حروفِ القصيدة، كحضورِهما في أقبيةِ قلب الشاعرة.
“كَحَالِ قَلْبِي.. الْــ تَمَسُّهُ أَطْيَافُكِ!”: كنايةً عن أنّ القصيدةَ انعكاسٌ عن رؤى الشاعرة وما تُكابدُهُ، وفي السطرِ انزياحٌ بالحذفِ في قوْلِها “الـ”، وقد أوضحناهُ آنفًا.