المتخيل و السيري في رواية الأطلسي التائه
الأطلسي التائه رواية لمصطفى لغتيري صادرة عن دار الآداب 2015، رواية تتناول سيرة الولي الصالح الشهير أبي يعزى الهسكوري أحد أقطاب التصوف في تاريخ المغرب السياسي-الديني، تتكون الرواية من 16 فصلا في 207 صفحة.
أتيح لي وانا أقرأ هذه الرواية.. وانا بموزع بين المتخيل والمَؤَّرخ له، أن أسبر بعمق التساؤلات الجارفة حول حياة أبي يعزى المعروف لدى العامة ببوعزة والملقب بألقاب مثل بوجرتيل أي صاحب الحصير وبولنكوط ويلنور والمتنقل بين جغرافية جبلية وعرة في فترة عصيبة من تاريخ المغرب ما بين نهاية الحكم المرابطي وبداية الحكم الموحدي، والحقيقة ان هذه السيرة صيغت بقدر كبير من الحذر والحياد والموضوعية رغم انها جاءت على لسان أبي يعزى، والأرجح ان الصيغ اللاوثوقية البعيدة عن الادعاء والافتخار والجزم والكمال قد أعطت أكلها لتصوغ لنا حياة رجل بسيط من العباد ، أمي، له اختياراته في الحياة لكن الناس- حسب ما جاء في الرواية- هم من يصنع الأوهام وهم الذين ينبهرون ويبجلون الأشخاص رغم أن هؤلاء البشر يمشون ويأكلون من بقول الأرض ويشربون من عيونها، وقد تكرر هذا الأمر كثيرا في الرواية: “لقد لاحظ الناس ظهوري المفاجيء والمربك لهم، فافتتنوا بذلك أيما افتتان، وأخذوا يدنون مني ويتمسحون بحصيري..” ص153 وحول الكرامات المنسوبة لابي يعزى وهي التي ترسخ في الوجدان الجمعي وتجعل للولي الصالح مكانة عالية نقاش مثير تم التطرق اليه في أكثر من موضع فأبي يعزى يتبرأ حينا مما يروج عنه : “في الطريق تكررت مأساتي مع الناس، فقد نسبوا لي قدرات خارقة، وزعموا كسابقيهم، الذين مررت عليهم في طريقي نحو مراكش بأنني قادر على شفاء المرضى واعطاء الصبيان للعاقر، وغير ذلك من الأوهام” ص162 ويبدي ابي يعزى مرة أخرى امتعاضه من جهل الناس قائلا: ” الناس يصدقون ما يجد هوى في نفوسهم” هذا الكلام على لسان الشخصية الرئيسية في الرواية لم ينف أبدا وجود كرامات أو ينكرها على أبي يعزى وفي الرواية حوار جميل بين أبي يعزى وشيخه أبي شعيب الملقب بالسارية حول الكرامات:
– هل لهذه الكرامات اساس في الدين؟
– لم ينكرها العارفون بدين الله واعتبروها مؤشراً يدل على المعجزات التي خص بها الله الرسل. ص175-176
ويسأل أبي يعزى بإلحاح: وهل فعلاً حدتث الكرامات لبعض الأولياء؟ ص176
ويكون جواب الشيخ معبراً فلا هو ينفي ولا هو يؤكد:
– لا أحد متأكدا من ذلك، فحتى لو وقعت لا أحد يمكنه أن يتأكد من وقوعها، لأن صاحب الكرامة لا يتحدث عنها ولا يشيعها بين الناس في حياته، وإنما يشيعها الناس عنه بعد مماته. ص176
هكذا أجابت الرواية عن كثير من الأسئلة التي تطرحها أي قراءة متفاعلة مع نص متخيل له جذوره في سيرة حقيقية واقعية.
ومن حسنات هذا البناء الروائي الملتزم بكرونولوجيا صارمة أنه وضع في الفصول الأولى البذور التي تبرعمت عنها شخصية أبي يعزى: ولعه بالأعشاب، اهتمامه بالأعمال المنزلية، رهافة حسه.. وظهرت شخصيات الرواية المؤثرة في أبي يعزى: الأب، الأم، الجدة، ابراهيم، الشريف الشرقاوي وابنه ولالا فاطمة الزهراء وشيوخه ممن تتلمذ على يدهم.. ظهرت هذه الشخصيات أيضا بشكل متسلسل مبرزة جوانب عديدة من حياة أبي يعزى.
وفي الأخير فإن تكن حياة الأولياء من المتصوفة اختيارا دينيا يبدو لي مترهبنا فإنها حياة إنسانية تعبر عن المشترك الإنساني الذي يبرز أرقى المشاعر والمواقف، وأحتفظ لنفسي ببعض التساؤلات والملاحظات غير المشروعة حول هذه الحياة، فأنا لا اراها بالضرورة منزهة عن اي انحطاط أخلاقي من دجل وجهل واسفاف فهو أمر وارد جدا وكان من الطبيعي لا على مستوى السارد ولا على مستوى الكاتب أن لا يجعلها سيرة فضائحية أو متحاملة.
من جهة أخرى حري بنا ان نثمن المجهود الذي بذله الكاتب لتحويل مادة توثيقية شحيحة إلى مادة تصويرية متخيلة فنية ونحييه على الذكاء في تمرير رسائل بشكل ضمني دون الوقوع في فخ التقريرية والمباشرة وفي نفس الوقت لا بد من الإشارة إلى مكامن الصعوبة الحقيقية في مثل هذا العمل وهي في رأيي تتجلى في اللغة التي يستعملها أبي يعزى والشخصيات المتحاورة فهي لغة هذا العصر وليس هناك أي محاكاة لإضفاء بعض الخصوصية عليها، لكن هذا مستوى آخر وليس شرطا أساسيا لتقديم هذا العمل.