المنهجية النقدية عند الدكتور نبيل طنوس
للدكتور نبيل طنوس جهود بحثية، استهدف بها دراسة أعلام من الشعر الفلسطيني، عدا ترجماته المتعددة، وكتابته الشعر. وهذه الكتب الثلاثة هي: “اقتفاء أثر الفراشة”، و”راشد حسين ويسكنه المكان”، و”سميح القاسم شاعر الغضب النبوئي”، عدا كتابه المعد للطباعة “اختراق النص- دراسات في الأدب المحلي” وبذلك فهي تشكل مشروعاً بحثياً متكاملاً للدكتور طنوس.
أما الكتب الثلاثة المطبوعة الوارد ذكرها أعلاه فتجمعها ملامح واحدة في طريقة البحث والدراسة، وفي طريقة بناء الكتاب، ومادة كل واحد منها، والهدف من كل كتاب، وتتكون مادة الكتب الثلاثة من ثماني مقالات في الكتاب الأول، وثلاث في الثاني، وأربع في الثالث، وجاءت متقاربة في عدد الصفحات: (196، 184، 198) على التوالي.
يتضح لدى الدارس أن هذا المشروع على هيأته هذه، تبلورت لدى الدكتور طنوس بعد كتابه الأول “اقتفاء أثر الفراشة” الصادر عام 2019، ثم تبعه كتابه عن راشد حسين عام 2021، وأخيرا كتاب سميح القاسم عام 2022. كتابا راشد وسميح يتقاطعان في المنهجية، ويتقاربان في المصطلحات، وصدرا عن دار نشر واحدة، والهيأة العامة لكليهما كمنتج ورقي، وصياغة العنوان، وتصميم الغلاف الذي كان في الكتابين من إبداع الفنان الشاب المرحوم محمد جولاني، وترتيب المادة البحثية، وإيراد قصائد مختارة لكلا الشاعرين.
أما في كتاب اقتفاء أثر الفراشة الذي سبق لي أن أعدت تحريره منذ ما يزيد عن سنتين آملا في إصداره على هيأة جديدة في طبعة ثانية. فكان الاختلاف شكليا أولا في الكتاب؛ الهيأة العامة كمخرج ورقي، وصدوره عن دار نشر أخرى، ما جعل الدكتور نبيل يفكر بإعادة طباعة الكتاب على هيأة هذين الكتابين، وأن تكون صورة “درويش” على الغلاف أيضا من إبداع الفنان نفسه؛ محمد جولاني، لما تحمله فكرة التشابه الخارجي من إيحاء تؤشر نحو مضمون مشترك، إنني أشبهها بأعضاء الفريق الرياضي الواحد أو طلاب المدارس الذين يلتزمون بلباس موحد. إن هذا الشكل- وإن كان خارجياً- إلا أنه ذو دلالة على هوية الانتماء، والاشتراك في تحقيق أهداف معينة أو وظائف محددة، فالشكل يحمل جزءا من المضمون في هذه الحالة، وفي حالات مشابهة متعددة.
كما لم يحفل الباحث طنوس في هذا الكتاب بإيراد قصائد مختارة للشاعر محمود درويش، واكتفى بتضمينه قصيدة لم تنشر في دواوينه أو في الأعمال الكاملة. على الرغم من هذه الناحية الشكلية، إلا أن الكتاب لم يبتعد عن فكرة الباحث الأساسية التي اتسعت وتبلورت في الكتابين اللاحقين، ليتشكل منها جميعها هذا المشروع النقدي؛ إنها حول ثلاثة شعراء فلسطينيين من الرعيل الأول لشعر المقاومة، تحدثوا عن القضايا ذاتها وبأساليب متقاربة أحيانا، ولهم ذات الهموم، وذات الحساسية الشعرية والأفكار السياسية، وعاشوا الظروف ذاتها في فترة ما من حياتهم، عدا ما تجمعهم من علاقة صداقة، ظلت ممتدة على طول حياة هؤلاء الشعراء، وهم أعلام حاضرون في أغلب الدراسات النقدية- إن لم يكن كلها- التي تتناول الشعر الفلسطيني المقاوم، ويشكل كل واحد منهم صوتا شعريا مميزا مختلفا عن غيره، كثيرا أو قليلاً.
يظهر كذلك بعض الاختلاف في استراتيجية العنوان في الكتب الثلاثة، في حين أن الكتابين الثاني والثالث استندا على اسم الشاعر “راشد حسين” و”سميح القاسم”، واعتمد طنوس بالمقابل على أحد نصوص درويش “أثر الفراشة” في عنونة الكتاب الأول؛ معبرا عن العملية النقدية بأنها اقتفاء؛ أي تتبع، فلم يكن اسم الشاعر متصدرا عنوان الكتاب الأول، بل جاء آخر كلمة في العنوان، العنوان الفرعي “دراسات في شعر محمود درويش”، بينما اتفق الكتابان الآخران في العنوان الفرعي “دراسات وقصائد مختارة”. أما عنونة الكتاب الثاني، العنونة الرئيسية فاستندت إلى البحث الأول في الكتاب حيث درس طنوس المكان في شعر راشد حسين، وعند قراءة الكتاب بأبحاثه الثلاثة سيكتشف أن “المكان يسكن راشد حسين”، بل ويسيطر على الباحث أيضا، فالألوان والمرأة مجالا البحثين الآخرين في الكتاب كان المكان حاضرا بمستوى معين أيضاً.
في هذين العنوانين اتصال بجهد الباحث الخاص، بينما في عنوان الكتاب الثالث ربما تأثر الناقد بما وُصف به سميح القاسم من النقاد الآخرين، وأعني بالضبط ما وصف به الدكتور إميل توما سميح القاسم بأنه “الشاعر النبوئي”، وبما وصف به الناقد رجاء النقاش سميح القاسم بأنه “شاعر الغضب الثوري”، فيستبدل طنوس الثوري ويضع بدلا منها “النبوئي”، وهكذا يصبح عنوان الكتاب “سميح القاسم شاعر الغضب النبوئي”، وبناء على ما يثبته الناقد طنوس من مقولات في حق سميح القاسم عند النقاد والكتاب الآخرين يصبح العنوان مقولةَ وصفٍ احتفاليةً للباحث الدكتور نبيل طنوس بالشاعر سميح القاسم، جاءت بعد رحيله بسبع سنوات، كما كان الكتابان الآخران أيضا بعد رحيل الشاعرين بسنوات كذلك.
في كتابة طنوس هذه- في هذا المشروع- يعيد الأسلوب ذاته، ويلتحم بالنص ويعمد إلى تفسيره بناء على ما لديه من معرفة خاصة، ممتدة حول حقول أخرى غير نقدية وغير أدبية، لتصل أحيانا إلى تخوم “النقد الثقافي”، ويستعير المصطلحات النقدية من النقد الاجتماعي، ومن البنيوية، والأسلوبية والسيميائية، كما يستند بقوة على التراث النقدي البلاغي العربي القديم خاصة في تفسير بعض نصوص الشاعر سميح القاسم، فيدرس المجاز والطباق والجناس والاستعارة بالكيفية التي ترد فيها في كتب التراث القديمة، فيعيد المقولات التراثية ذاتها في هذا الجانب، كما فعل أيضا بدراسته للتكرار الذي جاء بسيطا في الشرح والتوضيح، مكتفيا بوظيفة واحدة له، كثيرا ما ترد في كتب النقد القديم، وأعني بذلك “التوكيد”، علما أن التكرار شكّل ملمحا أسلوبيا بارزا في قصائد شعراء الشعر الحر أو شعر التفعيلة، وكان ذا دلالات متنوعة أضاءت عليها بإسهاب وتنظير نقدي مشفوع بأمثلة الشاعرة العراقية نازك الملائكة في كتابها المهم “قضايا الشعر المعاصر”.
هذه الكتب، كتب طنوس الثلاثة، رسخت أسلوبا بحثيا خاصا لديه في قراءة الشعر الفلسطيني المقاوم، بناء على محمولات ثقافية مغايرة، يجد الدارس شيئا منها في الكتب الثلاثة، فاكتسبت تلك النصوص أهمية إبداعية واضحة، تفصح عن أنها ذات قدرة على الإشعاع في وقت آخر غير وقت إنشاء النص، بمعنى أن تلك النصوص ما زالت قادرة على أن تفعل فعلها في الباحث، وتستفزه وتحثّه ليفكك النص ويحلله ويعيد بناء مقولاته من جديد، وكشفت طريقة طنوس التحليلية هذه أن تلك النصوص قادرة على استيعاب التأويل الثقافي بناء على ثقافة الناقد، ما يعني أن مجال الاختلاف وارد بينه وبين غيره من الناقد الذين يتقاطعون معه في هذه الطريقة، فالثقافة الشخصية للناقد في هذه الكتب كان لها أثر واضح وإيجابي في تفسير النصوص أكثر من منهجية الدراسة ذاتها، بل إنها صنعت من نفسها منهجية خاصة للناقد سار عليها في تحليل النصوص هذه الكتب.
مع هذه الطريقة البحثية التي حضر فيها النص مع التحليل والامتدادات المعرفية للناقد وانطباقها على النصوص، والكشف عن جمالياتها، اجتمع معها نبرة تقدير عالية للشاعر والنص، جعلت الدكتور نبيل طنوس ناقدا جماليا مستندا على أرضية من البحث الأكاديمي وخاصة الأسلوبية الإحصائية كما في كتاب “راشد حسين ويسكنه المكان”، وإلى حد ما في الكتابين الآخرين، لكنه لم يكن ملزما نفسه بمنهجية صارمة تذهب عنه انفعاله بالكتابة عن هؤلاء الشعراء الثلاثة، فجاء هذا المشروع النقدي حيويا، منضبطا نقديا بالمصطلحات المستخدمة، فكان ناقدا حراً، ولم يستعبده الشكل الأكاديمي للبحوث، وعليه فقد كانت لغته النقدية لغة سلسة واضحة لا تعتمد على الجملة المعقدة التي قد يقرأها المرء عند نقاد البنيوية والأسلوبية والتفكيكية من النقاد المنهجيين ذوي اللغة المركبة المصطلحية المغلقة على أبناء المنهج النقدي أو النقاد الأكاديميين، أمثال كمال أبو ديب، ومحمد مفتاح، أو رولان بارت، وجيرار جنيت على سبيل المثال.
وبناء على هذا التحرر القصدي من الالتزام بالمنهج الصارم لا يصح تقييم هذه المقالات/ الدراسات بمنطق التقييم البحثي الصارم الذي يبحث في الشكليات العامة المؤطرة للبحث، وضرورة الاستقصاء أحياناً، أو العودة إلى مراجع ومصادر أكثر أهمية مما اعتمد عليه الناقد.
لهذه المنهجية النقدية كثير من الإيجابيات، وربما أميل شخصيا إليها في كتاباتي النقدية، وأوليتها اهتماما في كتاب جديد وضحت معالمها بالتفصيل تحت عنوان “نظرات في الكتابة النقدية”. هذه المنهجية- كما تظهر عند الدكتور طنوس- ذات بعد تعليمي، إذ تحرص اللغة الواضحة للنص النقدي على أن تعلم القراء أو الباحثين المبتدئين وطلاب الجامعات على كيفية التعامل مع النص، وكيفية الكشف عن مضامينها وارتباطها بالأحداث العامة السياسية والاجتماعية والثقافية، وتوضيح مكامن جماليات النصوص، وكيف وممَّ تصنع تلك الجماليات. إنها بصورة أو بأخرى تكشف عن شخصية الناقد المشتغل بالتدريس الجامعي فترة طويلة، فقد انعكست تلك التجربة في التدريس على منهجيته في التأليف وتوظيف اللغة؛ لتكون عملية قادرة على إيصال رسالتها دون تعقيد، ودون بساطة مخلة كذلك بشروط الكتابة الجيدة، إنه يكتب المقال النقدي بروح علمية منضبطة، لكن دون الإغراق في هذه الناحية التي ربما أفقدت المقال متعته لدى القارئ العادي أو المتذوق للشعر، فيعيد بذلك إلى دائرة القراءة والنقاش مفهوم “النقد التطبيقي” بطريقة عملية وعلمية في آن.
كما أن هذا النوع من الكتابة النقدية السلسة التي تزاوج بين النص والقراءة النقدية تتيح للقارئ اختبار قدرته الشخصية- هو ذاته كقارئ- على مناقشة الناقد، فلربما دفعه ذلك ليخالفه الرأي والنتائج وطريقة الدرس، والنظر إلى النص، وكأن الناقد يوفّر للقارئ- بوصفه الناقد المحتمل القادم- فرصة ليعارضه، معززا من ديمقراطيته النقدية، تلك الديمقراطية التي يتمتع بها الدكتور نبيل طنوس، ويجب أن تتوفر لدى كل كاتب، لا أن يضيق أحدنا ذرعا بمن ينتقده ويخالفه الرأي، إن النقد له هذا الفعل وهذه النتيجة في عقول النقاد، أما المتطفلون على النقد فليس لهم من هذه الميزة العقلية أي نصيب، وإن انجرّ إليها كثيرون منذ العقاد وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي بما عرف عنهم من “معارك أدبية” كانت حامية الوطيس، وكانت قاسية في أحكامها وهجوميتها، لكنها خلّفت ميراثاً نقديا محترماً، ما زال زادا معرفيا للباحثين، وينهل منه الدارسون ويتعلمون منه الحجاج والاختلاف والمنطق، وأسست لبناء قاعدة مشتركة من احترام الآراء مهما كانت غير منصفة من وجهة نظر الكاتب المعنيّ.
إضافة إلى هذا أيضا فإن توفر النص المدروس بين يدي القارئ وعدم ذهابه للبحث عنه ليقرأه من مصدر آخر، وربما لم يجده إلا بصعوبة، إن في هذا الفعل ما قد يمنع عن القارئ إفساد مزاجيته المندمجة بالنص النقدي، هذا حرص على القارئ انتبه له الدكتور نبيل طنوس وأشار إليه عندما تحاورنا في هذا عندما صدر الكتاب.
أما عملية اختيار النصوص ذاتها فتنطوي على بعد نقدي في الأساس، حتى اختيار نص ما ليقرأه نقديا ناقد ما لا يخلو من توجه نقدي جمالي تأثريّ انطباعيّ، لكنه انطباع مؤسس على ذائقة خبيرة بالنصوص وطبيعتها، وقد توفّرت للناقد نبيل طنوس هذه الذائقة، لاسيما أنه شاعر ومترجم شعر، ويهتم تبعا لذلك بالنصوص ذات السوية العالية من وجهة نظره كناقد خبير، فهو على ذلك يقدم في هذه الاختيارات ما يعتقد أنه الأجمل إبداعيا لدى الشاعر، وليس الأجمل فقط، بل أيضا ما يمثل الشاعر ومحطاته في الكتابة وتطوراته عبر رحلته في الكتابة. إن الناقد في هذه العملية يضيء الطريق أمام الباحث والمتذوق ليتعرفا على الشاعر وأشعاره، ومن أراد الاستزادة فعليه بالمراجع الأصلية من دواوين الشاعر وكتبه، وكتب الباحثين.
لقد أولى الدكتور نبيل طنوس في هذا المشروع اهتماما لحضور الشاعر المتصل عبر زمن الكتابة والوجود الفعلي إلى الزمن الحاضر والمستقبل، ولذلك تجده يهتم بإيراد جوانب متعددة من هذا الحضور، ويركز الدكتور طنوس على حضور هذين الشاعرين (راشد وسميح) في دراسات الآخرين عبر مسرد خاص بالدراسات التي تناولت أشعارهما أو أعمالهما الأدبية وسيرتهما الذاتية. وأضاف الباحث في كتاب راشد حسين مراجع تخص قصائده المغناة، هذه المراجع التي اختفت في الكتابين الآخرين؛ اقتفاء أثر الفراشة، وسميح القاسم شاعر الغضب النبوئي. ربما لأنه أراد أن ينصف راشد حسين، فمن يعرف بقصائده المغناة من جمهور القراء قليل، وفي هذا ما يحسب للناقد لكي تكتمل الصورة، هذه الصورة التي يجدها المتلقي كاملة لدى درويش والقاسم وليست بحاجة إلى إضاءات حسب تقدير الباحث نفسه، وبهذه العملية أيضا يظهر أثر طنوس التعليمي في تقديره الحاجة المعرفية اللازمة للقارئ.
إن العملية النقدية في هذا المشروع عملية احتفالية، وليست عملية “اغتيال” كما يقول درويش في نصه الذي يستهل فيه طنوس كتاب “اقتفاء أثر الفراشة”، فطنوس منذ بداية المشروع وهو يفكّر كيف يكتب عن الشعراء الثلاثة بطريقة بعيدة عن فكرة الاغتيال الدرويشية، وخالية من أية نوازع سلبية، بل العكس من ذلك تماماً.
هذا يعني أن الناقد يحدد مهمته النقدية التي تؤشر إلى الإعجاب بالمنجز الإبداعي بهؤلاء الشعراء، وغيرهم من المستهدفين وللنصوص المختارة من أدبهم؛ شعرا ونثراً، في كل كتابة نقدية عند طنوس، وعند غيره من النقاد، وهذه رسالة إلى القراء والنقاد والباحثين أن من يُكتب فيه نقد فإنه جدير بأن يقرأ ويستمتع بأدبه غالباً، إذا ما كان منتهجا هذه الطريقة- أو قريبا منها- التي سار عليها طنوس في هذه الكتب، بل إن للنقد مهمة إشهارية عندئذٍ، تتمحور حول تقديم شهادة صريحة أحيانا وتلميحية أحيانا أخرى بهذه الجدارة، وفي حالة طنوس مع هؤلاء الشعراء الثلاثة، فإنه يحمل تجاههم تقديرا عاليا جدا، بحيث يتسرب في الحديث عن القصائد موضع الدراسة بعض العبارات ذات البعد الانطباعي التأثري التي تدل على مدى تقدير الناقد لهؤلاء المبدعين، لكن هذه العبارات لم تكن لتخرج المشروع عن موضوعيته ومنهجيته النقدية التي بينت شيئا من ملامحها في ما سبق، ولا أن تُنقص من أهمية هذا العمل النقدي النبيل، نبل الناقد ذاته اسما وأخلاقا وعملا نقدياً.