يقع مقام الوليّ تحت تلّة هائلة تفصل بين مدشرين مُنتسبَين إلى قبيلة واحدة. القبيلة الجبلية تشتعل فيها صراعات طاحنة بين مدشر آلِ عَبدو على يمين التّل، وآلِ عَمّو على يساره.
تحت قبّة الوليّ تداولت المرأتان أسباب الزيارة. العجوز من آل عمّو تستدر بركة الولي ليعود إليها ابنها المُختفي، بينما الشابة من آل عبدو تستجدي الوليّ خطيبا.
حكت الشابة بإعجاب عن كرامات الولي وقُدراته الخارقة على إشفاء المرضى، و إبعاد النحس واللعنة، وطرد الشر، والنصر على الأعادي…
حكت العجوز بإسهاب عن تاريخ هذا الولي المزعوم، وعادت بالشابة خمس عشرة سنة إلى الوراء:
ـــ هذا المكان، يا ابنتي، يشهد على وضع حجر أساس لمشروع طريق تصل القبيلة بالمدينة البعيدة. هذه الشاهدة العالية عند رأس الولي نَصْبُ تذكار بُنِي بالإسمنت المُسلح ليكون نقطة إطلاق مشروع الطريق المنتظَرة. هنا وقف وزير فارع الطّول ذات يوم ودق عليه بمطرقة، فدُقت الطبول فرحا بالمولود القادم، ودُقّت لأجله أعناقُ خمسة عشر كبشا أقرن. طال انتظار الطّريق، ولم تأتِ. وحدَه النّصبُ التذكاري ظلّ شاهدا، صار مجمع الرعاة عند الغروب، ومزار العشاق، قبل أن يتحول إلى وليّ صالح.
التمَعتِ الدهشة في عينيّ الشابة، قاطعتها:
ـــ ولماذا نُصِّب التذكار تحت التلّ الموحش بعيدا عن المدشرين؟
ـــ المدشران المتعاركان حتى الآن، تنازعا حول شرف ضيافة الوزير. لجؤوا إلى حكيم، فنصحهم بِحَمْلِ ديك إلى أعلى التل، ويخلوا سبيله، والمدشر الذي سيلوذ إليه الديك هو الذي سيحظى بشرف استضافة السّيد الوزير. طبّقوا ما أفتى به الشيخ بالحرف، وفي اللحظة التي بلغ فيها الديك أسفل التلة، هوى عليه صقر فأخذه إلى عنان السّماء. لم يحزنوا على ذلك بل بشرهم الحكيم بأن الديك كان قربانا اتقت به القبيلة شرّا مسطورا. فشيدوا النصب هنا حيث اختطِف الديك، ومعه نُصبت خيام الاستقبال.
النصب متألق في عين الشابّة، يبدو شاهدة قبر حقيقي. رُويَت حوله الأساطير، ثَبُت عند سكان القبيلة أنه قبرٌ لولي صالح جال المشرق والمغرب، رجل لازم الخلوة في زهد وتقشف. فتربى على حُبه الصغار والكبار. كثر زواره وباتوا يأتونه من بعيد للتبرك، حتى من المدن. يغمرونه بالذبائح وبقطع النقود. بُني حول القبر سور في الأول، ثم غُطي بساقفة خشبية، قبل أن تُبنى له قبّة عالية تُلمح من بعيد.
ـــ سيعود ابني (تمتمت العجوز ثم واصلت) سيعود، وسأزوجك به يا فتاة رغما عن أنف “آل عبدو”، بعد أن يزول عنك النحس، وتزول حدبة الوزير.. كل هذا متعلق بكَرامات هذا النّصب العجيب.
ـــ حدبة الوزير؟ أية حدبة؟
ـــ إن السيد الوزير مرض، بان مرضه في شكل حدبة على ظهره، جال مستشفيات العالم عن الدواء، قالوا إن مرضه يحتاج إلى معجزة، بحث عنها في بلدان المعجزات، عاد خائبا، ودلّوه على هذا الوليّ..
ما لم تحكِه العجوز أن السّيد الوزير سار بسيارة رباعية الدفع، في طريق عبدتها الأرجل قبل السواعد، لاعنا حفرها وحدباتها وحدبته. بلغ أسفل التلة. تداعت صور ضبابية في ذاكرته فروّعته. دخل إلى قبّة الولي، انحنى معقوفا على أعتاب القبر يقبل أركانه، ويتمتم أذكارا وأدعية، تمسّح طويلا بظهره على الشاهدة.. جمدت عينه مُصوَّبةً إلى الكتابات المنطمسة على الإسمنت، بدا فزعا ببشاعة أحدب نوتردام. النصب التذكاري ذكّره كيف نَصَبَ على ميزانية المشروع. ميزانية أكلها في بطنه، وأبت أن تُهضَم، فزاغت إلى ظهره في صورة حدبة شبيهة بشكل التلة التي بني في سفحها مقام الولي الصالح.