بنت عتيق الوجه الآخر للحقيقة
رؤية في مضمون رواية “بنت عتيق” لـ: هيبة إينوبلي“
بقلم / رزق فرج رزق. ليبيا
أقول دائماً أن الرواية قادرة أن تفتعل بنا الأكثر، وتنقلنا إلى عالم الخيال، وهذا وحده لا يكفي، بل الرواية قادرة أن تضعنا أمام أسئلتها مسحورين بفعل الدهشة.
والمطلع على العمل الروائي “بنت عتيق” يجد نفسه متطلعاً إلى فك شفرات أحداث متجسدة في تفاصيل لغة حلم كبير غارق في عمق الثقافة السائدة.
هذا الحلم المُتطلع إليه لم تقوى قوانين وتشريعات إجرائية على إنقاذه، فظل يتنفس تحت الماء لعله ينجو.
“بنت عتيق” ضياع في تفاصيل السّنابل سعياً إلى حياة عادلة و عيش كريم، و حب بلا مزية، بلا شفقة او تعاطف و دونية، لكن هكذا هي طبيعة البشرية عملية بحث مستمرة ، و من زوايا متعددة تضعنا “هيبة” في صورة هذه المعاناة في دهاليز العنصرية المقيتة، و بشجاعة المتمكن تسرد لنا “بنت عتيق” بضمير الـ “أنا” ولعل هذا النفس العميق يأتي في محاولة لتجسيد الوجه الأخر للحقيقة، من مسالك وعرة تخوضها الروائية إلى أن تحط بنا لحظة التنوير في محيط الشعور بالأمان والحرية.
بضمير “الأنا” تروي هيبة روايتها ،”كان المكان يجسّد حرّيتي الكاملة،” ، و في ذلك شجاعة العارف أن المتلقي يحكم أحيانا على الأحداث التي تروى بضمير الأنا إنها “سيرذاتية” ربما يعود فهمها أنها تتماهى ضمنياً مع حياة الكاتب نفسه، خاصة إذا كان الكاتب أنثى – هكذا تحكم بعض عقلياتنا الشرقية- لكن الحلم لا يموت ولن تتوقف ثورته أمام أحكام غارقة في الوهم.
كنت أعتقد أن طقوس الرواية تكمن في القراءة التقليدية التي نبدأها بتتبع الأحداث منذ العنوان و تصاعدياً إلى أخر العمل، هذه القاعدة انكسرت فعلاً مع قراءتي لــ “بنت عتيق” في هذا العمل أعود إلى ما قرأت أكثر من مرة باحثاً عن معنى ربما ضاع في زحمة الأحداث، فالرواية غنية بالتفاصيل الدقيقة و الشخصيات العارضة التي تحدث مخرجاً أو بصيص أمل كالوشم على جبين الماء سرعان ما يتلاشى، كما حدث مع شخصية “اسماعيل” وظهوره العارض كالحلم و يتلاشى دهساً، ” فالوقت لم يكن كافيا ليتحوّل البيض إلى سبائك ذهبية” ، لا يمكننا أن نحاصر الروائية الشابة وأبطالها دون دراية بما يحدث فعلاً من كيمياء التفاعل بين الراوي والروائية التي أرادت لـ”بنت عتيق” أن تنتصر للعلم (أن العلم حفر خندقا عميقا في ظلمات رأسي وظلمات الجهل المحيطة بي ودفع بصيرتي نحو رؤية الحقيقة(.
الإمتاع وحده لا يكفي فالانتصارات للحق والعلم والحرية تأتي بها الرواية مع تدفق أسئلتها، و من مختلف زوايا العمل تصاحبك مأساوية العادات والأعراف الظالمة ” هؤلاء السود لا قلب لهم، لا شرف لهم، لا عقل لهم، هذا قدرهم” هكذا هو السائد، “وسيظل كذلك حتى وإن أعتقتهم كلّ دول الأرض”، “ومع قدوم أحمد باي وسنّه لقانون منع العبوديّة بتونس…”
رائحة الموت تعج بها الرواية على مدار أحداثها لكن صعوبة العيش تجعله يمر مرور الكرام رغم قساوته “للموت هولاُ عظيماُ”، أنها الرائحة الأخيرة والصادقة، و مع فاجعة نجمة التي هزت روحها ستظل عالقة بممرات الروح،
عندما نعود إلى الماضي بالفعل “كان” وأن كان ناقصاً تجدنا أمام اكتمال الروح الفطنة التي تستفيد من اقتناص الفرص وتوظيفها لصالح الرغبة والحلم، و نجد من اللوحات الكثيرة التي تعج بها الرواية هذا المشهد “يوسف كان سجّاني وتعلمت منذ طفولتي كيف أجعل من سجّاني خادما لرغباتي”.
يتشكل لنا الجمال في نمط وهمي أو مصطنع يراه المحروم حلماً، ربما يتمثل في قطعة أثاث أو أسلوب حياة، المعدومات فيها و النفايات هي حلم البسطاء و العثور عليها حتى بمكب الأشياء القديمة ونفايات المرفهين تجلب السعادة ” وبينما كنت أعبث بالأغراض عثرت على قلم الحمرة الأخضر، كانت رغبتي به شديدة” توقاً إلى التغيير و مقت النمطية يفعل بقايا قلم أحمر الشفاه الكثير من الفرح، أو ربما إخفاءه ومتابعة إلقاء الأغراض متعة مؤجلة للاستمتاع به لاحقاً “فتحته بحذر وتفحّصته من الدّاخل فوجدت نصفه موجودا، حشرته داخل حمّالة صدري وتابعت إلقاء الأغراض خارجا”، الحلم يبدأ صغيراً و يكبر، ثم يكبر فيتحقق الوجه الأخر للحقيقة.
ما بين “نجمة” و “يوسف” تداعت كل الأحداث ، وتصاعد الصراع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين العدالة والعنصرية، من يعتق هؤلاء دون شرط من يمنح الحرية كونها حق يرمز إلى الوجه الأخر للحقيقة، من هنا جاءت “بنت عتيق” عملاً روائيا للتونسية المقيمة في تركيا هيبة إينوبلي، تجربة روائية غنية بالأحداث في لوحات و شخصيات متنوعة تدور حول الفكرة لتمنحنا جماليات التلقي وفعل الاندهاش مع لذة القراءة.