تحت سماء زرقاء
المساء المربدّ يتكاثف ويلتصق بالأشياء ضبابه المترع برطوبة نافذة. تضيق جدران غرفتها وتضيق .
ثِقل فضيع يكاد يُطبق على ضلوعها ..تُسرع الى نافذتها تشرع ستائرها. تتسلل ذرات البرد مع الظلمة وتتحوّل إلى مخارز تنغرز بعظامها .
تسرّح بصرها نحو امتداد أفق ساج تعرف ان لاشيء وراءه أبدا.
تسري مع البرد أولى قطرات المطر .. وتستقرّ همساتها النديّة بالخلايا . يهِل بطقسه الليلي المعتاد. تظهر صُورته فجأة وتُضيء ابتسامته المكان : –
“مهما كان انشغالي ..لايمكن أن اسمعَ صوت المطر ولا أعلِمُك بأننا الآن تحت صوت واحد..ونغتسل بحليب غيمة واحدة”
-” ماأجمل الليل يئن من ثقل شوقك ..مااجمل المطر ينسكب فتهمي بمخيلتي فنمرّ بروحينا على دروب عبرناها معا ..وتتراءى بقربي تطعمني رغيف المودّة..!”
-” تعبتُ جدّا من البحثِ واصبتُ بخيبات امل متكررة وختاما وجدتُ حروفا تليق بعطركِ الذي علِق بيدي يوم افترقنا”
-” لمساتُ يدكَ الهادئة تتلاشى كالغيوم بكفيّ ..كما أن لقاء الشفاه لا يشكل مجرد قبلات ..فإن لقاء الانامل يتعدى اللمسات الظاهرية ليكوّن لغة ونصوصا بالغة الإيحاء والرمزيّة ..”
-“ليس سهلا ان اعثر على الورود اللائقة بكِ..وبصعوبة اكتبُ القصائد التي تشتعل بوجداني ..وأقفُ عاجزا عن كتابة رواية تشبه حبنا السرمديَّ”
-” دمي يطلّقُ أوردتي كي يتفجّر في الفراغ بين الكواكب ..لأول مرة أرى دمي يستحيل الى شماريخ ..!”
-“أحاول ايصالكِ الى رئتي انتِ رفيقةُ المدى الذي تعجبُ له نسائمُ الليل ..أنت نجمةُ الليلِ الشاردة في السنى المبثوث .وجهك بحيرة وقلبي طائر عطشان..!!”
-” تلك الذبذبات التي تبعثها لمسات الأنامل لأوتار الكمان كم تشبِهُ تردُّدَ النّبض بأوردتي حين يلامسك قولك بعضي ! حنيني سيرافقك دوما وأشواقي ستكون إزارا يلفّك ويحميك من برد المسافة ..وكونكَ السحريّ سيُسيّجني بدثار من ورود وأنغام رؤى..”
-“مهما افرطتُ في الغيابِ ؟؟..”
-“كلما افرطتَ في غيابك …أفرطتُّ اكثر في ضم صورتك لصدري ..وكلما اخرسني الحنين ..اتلعثم لكأن الهواء الذي بيننا زورق للفراق ..فأرغبُ في سحب المحيطات من تحته لأديم العناق ..”
يكوّر برد المكان جِسمها كنورس يتيم بين ضفتي حلم وخيبة .. نظرت الى هاتفها بعد أن انهت كتابة رسالتها الأخيرة و ضغطت زر الارسال .. رنّة خافتة واشعار صغير كانت ترقبهُ أكدَ وصولَ بريدها على جدار حسابه الإلكترونيّ. ..اقتربت من الحاسوب بلهفة… …….
لم يعد شيء يريحها اكثر من هذه العادة الخفية في ظل رقابة والديها الصارمة.
سحبت أمها إطار صورته الوحيدة التي هرّبتها من بيتهما يوم استعرت سورات غضب ابنتها و احترق صبرها فأضرمت النيران بعش الزوجية البارد ..
يقف بالصورة فتيّا مزهوّا بكامل زيّه الرّسمي تلتمع النياشين على كتفيه يرسل نظرة ثقة نحو الأفق ويرفع يده للرّاية بتعظيم سلام ..
عشقت تلك التقاطيع وادمنت الحديث معها. رجل يتقد حياة أخصب زوايا نظرها و ملأ أفق إنتظارها ، يصبح فجأة جزءا من أثاث البيت . سرقت حروب الجبال الصامتة وقع خطوه وقبرت وِهاده وشِعابه فجر يوم ثقيلٍ ظِلَّهُ وحُلمَهُ بحياة اكثر أمنا انتظرت عوده ..فآب مساء تدثر أشلاءه الراية القانية ..استقر الإطار المذهب قبالة سريرها أياما تحادثه تعاتبه ..تشكوه وحشة بيت تتناوبها به جرذان الحيرة تقرض صبرها وتفتت جلدها ..و سحالي الخيبة تدس سم الفراغ بايامها كل حين ..لا يجيبها فتثور وتنكش شعرها وكثيرا ما تقدم غدائرها قرابين لِمِقصّ آثم ..
تعبثُ بجسمها بتشفّ . تُكسّر الاواني ، تدلق عطورها و تهشم المرايا ..تمزق شراشفها المخرّمة.. ….
سحبت الأم الصورة رأفة بروح تناجي قبرا معلقا بالجدار .
تأملت صورة وجهه الباسم على جدار آخر ، على شاشة حاسوبه الشخصي . لحظاتٌ أوقفت الزمن.. اشرقت شموس بدمها وبين دمعها واختلاج الشفاه كانت الأنامل تكتب له كلمات كثيرة و ترسل قبلات عديدة .
قبل ان تغلق بحاسوبه نافذة التراسل ….و قبل أن تغلق بشاشة هاتفها نافذة الأوهام الزرقاء كانت قد كتبت لنفسها كل ما اشتهت قراءته ..قلبها يعاوده النبض الهارب و خطاطيف الرببع تزور رباها.. فتلقف حبّها قمحا زكيا ..تعرش أزاهير الرغبة بالحنايا لتظلل اسرابا من الأماني وتمدّ جسورا من الحكايا . تتّقد بالعيون وبالأنامل مشاعل الشوق .. ويسري بالحشا فتيل يمتص حرفها .. يحرق مهجتها.. ويضيء سماء زرقاء
. نجاة نوار