جمالية الكتابة وقضايا المجتمع البدوي
في “صمت، سنحكي، للقاص، نورالدين قشى.
**
وأنت تقرأ مجموعة “صمت، سنحكي” للقاص نورالدين قشى، سينتابك إحساس أن نصوصها أفلام قصيرة كتبت باللغة بدل الكاميرا، وذلك للاعتبارات التالية:
الخارج نصية:
الطول النسبي للنصوص.
النفس القصصي.
الاحتفاء بالسينما من خلال المعجم الموظف.
عنوان العمل.
اللوحة الفنية لوجه الغلاف.
الداخل نصية:
بعض العناوين.
الحوار.
الاهتمام بالوصف؛ وصف المكان الذي سيكون مسرحا للأحداث، مع التركيز على البادية بشكل أخص؛ وصف الشخصيات التي ستنهض بالأفعال؛ وصف الزمان الذي دارت أو ستدور فيه الأحداث. حضور المعجم المرتبط بالسينما، كالمخرج، والمساعد، أو قيام النص كاملا على الرغبة في إنجاز شريط. إضافة إلى الصراع الدرامي بين الشخصيات. فضلا، عن النهاية الدرامية المخيبة لأفق انتظار الشخصيات والقارئ معا، وخاصة في نص “هفوة السينما” ص 4. أو التي تكون سعيدة بفعل تصالح الشخصيات.
في نص “صور متقاطعة ” ص23
اعتمد النص على حكايتين اثنتين؛ حكاية السارد، وحكاية الطفل.
الحكاية الأولى من الخارج، وعن الطفل، والحكاية الثانية من الداخل، وعن الطفل أيضا، برمزية وإيحاء.
يدخل النص منطقة التوالد الحكائي، مذكرا إيانا بالعمل الرائع “ألف ليلة وليلة”، إذ وظف الكاتب بناء على العمل، القصة الأم، أو القصة الإطار، والقصة الوليدة، أو القصة المؤطرة.
ما يلاحظ أن القصة المؤطرة تنمو بالتدريج بناء على ما سيعرفه الطفل من تجارب في حياته، وكأنه يرسم قصته من خلال معاناته.
السارد….الطفل.
الطفل…..الحمامة.
بعد الجمع بين الطرفين الأخيرين، سنحصل على المعادلة التالية: الطفل يساوي الحمامة.
فالنص يركز بقوة على البراءة يمتدحها، ويعلي من شأنها، ويقدمها على غيرها، ويجعل لها الريادة في الكتابة والرسم، وكل الفنون. والحق أن تشبع القاص بقيم البادية، ونقاء سريرة أهلها جعله يعلي من شأن الطفولة، إذ هي والجمال صنوان؛ بخلاف المدينة التي يقرنها بالفساد والسوء، حيث يفقد فيها الإنسان براءته وعذريته.
كما كشف النص عن التأثير الكبير الذي مارسته كل من الأم كرسامة، والجدة كحكاءة، على شخصية بوعزة، وهي الإشارات التي لتفت إليها الانتباه” لك أم ترسم، وجدة تحكي، لا ينقصك سوى بعض الامكانيات البسيطة تستحق أن تكون في والت ديسني” ص26
تجدر الإشارة إلى أن القاص كان يلح دوما على ضرورة صقل الهواية بالمعرفة، ولا يرى انفتاحا وازدهارا لها من دون تأصيل معرفي: أخذ المعلم الكلمة وأشاد بإنجاز تلميذه مبرزا أن الرسم يمكن أن يكون موهبة، كما يمكن أن يصقل بالمعرفة، وكلما تم الجمع بينهما كان أفضل. ص 23
وحتى بالنسبة للتجارة لابد من ضبط قواعدها حتى يكون بناء المشروع، إذا ضبط وفق منهجية علمية، ناجحا: لاحظ أوعسو هوس صديقه وإصراره على التشبه بالعصاميين السوسيين ورغبته في بناء مشروع تجاري بطريقة منهجية، فساعده على القيام بدراسة تقنية ووجهه بعد الاستعانة بذوي الخبرة في المجال. ص 53، فلا تكفي الموهبة ولا الرغبة، لابد من خلفية علمية، ودراسة منهجية سليمة، ليتحقق المبتغى.
الملح السير ذاتي:
ونحن نتابع مسار الطفل الرسام، الذي تنبأ له المعلم والتلاميذ، بمستقبل زاهر في إنجاز أفلام للرسوم المتحركة، نستحضر القاص نورالدين، وكأن هذا الطفل الموهوب هو نفسه القاص.
ونجدالقاص، أيضا، في “خويا إدريس” المسكون بالفن السينمائي، والذي عمل على متابعة ما تنشره الصحافة من مقالات حوله لكي يثقف نفسه، وتابع أنشطة الشعلة الثقافية في هذا الباب حتى أنه تحدى سلطة المنع بعرض الشريط المثير للجدل لأنه يتوافق مع ما شهدته منطقة خنيفرة من تمر مسلح، فجر سؤال الثورة. ص68.
صورة المدينة والقرية في المجموعة:
تسم النصوص المدينة بكثير من الصفات السلبية، إذ تعدها مجالا لفقدان القيم الإيجابية، ومجالا لتفسخ العلاقات الاجتماعية، وبيئة مفرخة للأنانية، والفردانية ضد الاجتماعية التضامنية، فالدار البيضاء هي عاصمة كل السلبيات؛ فقد الناس فيها كل قيم النخوة والتراحم والتعاون : والسيارة تلتهم الإسفلت….كل منهما يسترجع أحداثا ولت أجبرته على هجر أهله ودياره للعيش في مدينة “متوحشة” تبلع من دخلها وتنسيه أصله وفصله وتوصد أبوابها عليه…، الدار البيضاء المدينة الرمادية التي منحتهما المال والجمال، وسلبتهما أجمل ما بداخلهما من إنسانية وحب وتسامح، وتصالح مع الأهل ومع الذات…” ص 54
في هذا المقطع يتم التأكيد ‘على أن المدينة مرتع الفردانية المقيتة، والتقوقع حول الذات، ونسيان الجماعة وأعرافها، إنها مكان لكسب المال وخسران الذات وما تحمله من قيم إيجابية، بيد أن الدار البيضاء لم تعمل سوى على احتضان من قدم إليها فرارا من ظلم الأهل، وجشع الأقارب، وأفسحت له المجال للكسب وتحقيق الأحلام، وبلوغ الأهداف. وهو ما تم لأوسيدي وأعمو، فلولا إيمان أصحاب الضيعات، والمحلات وغيرهم بأهمية المشروع ما تضامنوا معهما، ولما نجح المشروع، ولما عاد الرجلان إلى المدينة، أصلا، إذ كيف يعود إليها من تصالح مع ذاته، ومع عشيرته إلى مكان موبوء بالمصالح الشخصية؟
وستعرف سعيدة، في هذه المدينة التي وصفت بالرمادية، محنة مع مشغلها الذي فرض عليها عملا هي غير مقتنعة به لكونه سيكون على حساب الطبقة الشعبية، إذ إن الزيادة في أثمنة الشقق الاقتصادية، وهي المدعومة من طرف الدولة، يعد سرقة، ما حذا بها إلى الرفض. قصة “عودة إلى الأصل” ص 57.
ونجد في العنوان بعد النص وبقية النصوص، حيث يتم التأكيد على أن العودة إلى البادية يعيد للشخصيات توازنها بفعل مصالحتها مع ذاتها وجماعتها، تعود لتنهل من نبع القيم الصافي، تتزود بما سيساعدها على مواجهة التردي والقبح، والفساد.
كما أن مدينة خنيفرة وسمت بالسلبيات هي الأخرى، ففيها فقد الإنسان معنى الإنسانية، وسار وراء أطماعه ومصالحه الشخصية، ضاربا عرض الحائط بقيم التضامن الحق، والتكافل الصحيح.
فصديق لحسن في قصة “كيد عجوز” ص 45، استقبله لا لشيء إلا من أجل تدميره، وتدمير صورته في عيني زوجته التي أحبها ذات زمن، وأرادها لنفسه حين رأت فعل زوجها المشين، ظنا منه أنها ستلين له بعد المشهد الفاضح، لكنها خيبت أمله حين استعادت زوجها من كيده، وكيد عمه بفضل حيلة الأم العجوز: انبهر لحسن بالعالم الجديد، فأطلق العنان لكل قيوده، ليستفيق صباح اليوم الموالي متأخرا، دون أن يتمكن من بيع خرافه…ص 54. لقد بدأت خطة الصديق توتي أكلها، وظن أنها بلغت لحظة القطف لما أخبر الزوجة التي رفضت الزواج منه بخسة زوجها قائلا لها: الزوج الذي آثرته علي في بيتي يزهو مع امرأة أخرى. ص 46، ورأت الزوجة المشهد لكنها ما مالت إلى الصديق، بل صدته بعنف، وأعادت زوجها إلى صوابه.
تلك هي المدينة، مكان لإسقاط القادمين في فسادها، والدفع بهم إلى التخلي عن قيمهم وأعرافهم ومبادئهم، وقبل كل ذلك، التخلي عن طهارتهم وبراءتهم.
فماذا عن القرية؟
جل النصوص تحتفل بالقرية، وتجعل منها مسرح الأحداث، وفيها تتجلى المعاني الحقيقة للتضامن والتآزر والتآخي، ومنها يستمد الإنسان قيمه الجمالية الرفيعة، وفيها يتعلم مبادئ المحبة والأخوة. وكأنهم يسرون على هدي الرسول سيدينا محمد: عن أنس رضي الله عنه : أنَّ النَّبيّ ﷺ قَالَ
( لاَ تَبَاغَضُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَلاَ تَقَاطَعُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً ، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ )
متفق عَلَيْهِ.
فنساء ورجال القرية يمتلكون حسا اجتماعيا رفيعا يمكنهم من تجاوز الخلافات، وإحلال الصلح فيما بينهم، ويعترفون بقيم التكافل، ونبل العلاقات، ودفء التواصل. وحين تبلغ الخلافات حدا ينذر بالصراع، تأتي أحداث لتطفئ جذوة الخلاف، وتحل السلام بين المتخاصمين؛ كما في قصة “ترحال” ص 32.
فزوجة حمو أنجبت بخيمة أشد أفراد قبيلة آيت أوعلي أو غانم تشددا، وهي القبيلة التي رفضت النزوح عن المكان رغم الاتفاق الواجب الخضوع له؛ مما أنذر بعواقب وخيمة، لكن الخلاف انتهى بصلح لكون القبيلة الخصم تؤمن بقيم الدم وروابط الرضاعة، وأن ابن حمو هو ابنهم، وبناء عليه، لابد من حل للخلاف: ذبح حمو خروفا سمينا للضيوف وتولى بنفسه مهمة شوائه. أكل الجميع ووزعت عليهم كؤوس الشاي، وتناقش أعضاء القبيلتين في أمر نزاعهم. بعد أخذ ورد، توصل الحاضرون لاتفاق يقضي بتأجيل رحيل المتأخرين من قبيلة آيت علي أوغانم حتى الأسبوع القادم. ص 36
فبفعل نضج الرجال، وحكمة الكبار، تمكن الطرفان من بلوغ حل يرضي الجميع بعيدا عن تدخل السلطة؛ فهم ليسوا بحاجة لتدخلها.
كما أن النصوص تؤكد على قيم التضامن والتآزر والأخوة التي تجمع أعضاء القبيلة، فتذوب الخلافات، وتعيد الصفاء إلى النفوس. هكذا نجد الجميع يساند الجميع في السراء والضراء وحين البأس. ففي الأحزان كما في الأفراح، تظهر القبيلة بكامل توهجها حاثة الجميع على التضامن: ذات صباح خريفي بارد، توفي أحد أعيان قبيلة آيت عمو عيسى بمرتفع الكارة، الكائنة قرب قرية أروكو شرق مدينة خنيفرة. اجتمعت القبيلة وساكنة الدواوير المجاورة للدفن وتقديم التعازي لعائلة الفقيد. ص45.
ومن قلب هذه القيم، قيم النخوة، سيقوم حميد بمساعدة سعيدة رغم أنه لا يعرفها، فقط، لإحساسه بضرورة تقديمه يد العون لكل ضيف. “عودة إلى الأصل”.
والأمر نفسه نلمسه في مساعدة الزوجة على الوضع، ومساعدة نساء القرية في نسج الزربية.
قد تشهد البادية، هي الأخرى، بعض الفضائح، من قبيل الخداع والخيانة الزوجية، لكن السارد ومن خلفه القاص، يرى أنه يمكن تجاوزها بالصفح والغفران، إذ بفضلهما ستتمكن الشخصيات من إكمال مسيرتها، وتحقيق طموحاتها، فلو أنها مالت إلى الانتقام لكانت التنائج وبالا على الجميع.
دور المرأة في البادية:
تبرز المرأة قوية في النصوص، تمتلك زمام المبادرة، ولها الكلمة الفصل في الكثير من الأحداث، فسعيدة لم ترضخ لإغراءات مديرها في ما يرسمه لإنقاذ شركته، لأنها رأت في ذلك سرقة للبسطاء، وأم سترسم خطة ذكية لإنقاذ ابنها والإرث من جشع الغير.
فللمرأة “الكلمة الحاسمة في اتخاذ القرار. وهو الأمر الذي نستشفه في النص من خلال مواقف” حدجو” زوجة ” حمو” التي استطاعت أن تخرج الأسرة من أزمتها المالية، وتخلص ابنتها( تيتي) من علاقتها العاطفية الفاشلة بخطيبها (الشاب المنتمي لأحد القبائل المستقرة), كما تمكنت من مساعدة الإبن الصغير على استكمال دراسته، وبالتالي أن تضع مولودها الجديد في ظروف ستفتح أفقا جديدا لتصالح قبيلتين متناحرتين مجاليا.” قبيلة أيتبومزيل، وقبيلة أيتيحى وغانم”.
وهي صورة تعمل الأم على تمريرها لبناتها، ويبرز ذلك من خلال الصورة التي قدمها السارد عن “تيتي ” وخطيبها:
” عندما التقت به طلبت منه أن يتخذ القرار الملائم قبل ملاقاة أبيها. لكنه أصر على العمل برأي أبويه وعادة القبيلة، وبما تم الاتفاق عليه من قبل ” اتمام الزواج بعد انتهاء موسم الصيف، وجني المحصول” ص 34
وهو ما يكشف عن كاريزمية المرأة وجرأتها، وتحديها للأعراف والتقاليد، وعن اختياراتها الذاتية والخاصة، بعيدا عن كل ما يقيد حريتها الفردية. 1
ختاما، يمكن القول إن نصوص المجموعة تغري بمتابعتها لوضوحها؛ فهي لم تتجه صوب التلغيز ولا البهلوانيات غير المفيدة، وكان الحوار رائعا بالفعل، إذ تمكن القاص من تشغيله ببراعة بين من خلاله مواقف الشخصيات وطموحاتها ونواياها المعلنة والخفية. فضلا عن قدراتها الهائلة في الكتابة بالصورة ورصد التفاصيل الدقيقة والمعبرة، مما يؤكد على أن نصوص العمل هي مشاريع أفلام قصيرة.
**
ــــــــ
“صمت، سنحكي”، مجموعة قصصية، نورالدين قشى، مطبعة يسر للخدمات، تمارة، الطبعة الأولى، سنة 2016
1_ نسيج قصصي متعدد الواجهات في مجموعة “صمت، سنحكي” للقاص المغربي، نورالدين قشى، قراءة للناقد، حميد ركاطة.