ألا فاسقِني خمراً، وقل لي: هيَ الخمرُ … ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ

فما العيْشُ إلاّ سكــــرَة ٌ بعد سكـــــــرة ٍ … فإن طال هذا عندَهُ قَصُرَ الدهــرُ

أبو نواس عن الخمر و النبيذ

قرأتُ منذ أيام قصيدة للشاعر محمود درويش وكان يصف من خلالها عشقه الذي وصل إلى حد التقديس للنبيذ فيقول: “عليك أنت أن تتأكَّد من طهارة يدك و خلوِّها من العطر،ثم تمدَّها بلينٍ عاطفيّ إلى الكأس كأنها تقترب من نَهْد. تقرِّبُ الكأس , من أَنفك بأناة نحلة، فتبعثرك رائحةٌ, عميقة سريّة: رائحةُ اللون التي تُدْخِلُكَ إلى أَدْيِرَةٍ قديمة,و أَتركه يستجمع , خواطر مذاقه إلى أن نكون، أنا و هو، جاهِزَيْن عطشاً لاستقبالِ وَحْيٍ بالفم”.

ومن هنا تسألتُ لماذا عشق محمود درويش ومن قبله الشاعر أبي نواس الذى عُرف أيضاً بهيامه بالخمر وكما يقولون عنه هيام المتهوس المفتون فيقول: “ألا فاسقِني خمراً، وقل لي: هيَ الخمرُ، ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ فما العيْشُ إلاّ سكرَة ٌ بعد سكرة ٍ ، فإن طال هذا عندَهُ قَصُرَ الدهــرُ“.

جورجيا مهد النبيذ منذ 8000 سنة

أثار فضولي أن أتعرف أكثر عن ذلك النبيذ الذي فتن الشعراء إلى حد الثمالة! فوجدتُ أن من أشهر البلاد المنتجة للنبيذ هي جورجيا ، لؤلؤة القوقاز ، لها حضارة موغلة في القدم.

وكما هو معروف، أكتشف علماء الآثار فى أرضها شواهد على صناعته تبلغ من العمر 8000 ألاف عام وربما أكثر وهذه الشواهد عبارة عن أوانى فخارية صُنعت خصيصاً من أجل أغراض صناعة النبيذ. الحرفة بالغة القدم والتى تعتبر من أبرز المعالم التاريخية و الثقافية وأيضاً السياحية التى تتميز بها جورجيا.

وأصبحت هذه الحرفة  فن تقليدي يمثل هوية ثقافية وتراث حضاري له خصوصية تميزت به جورجيا عن أى دولة أو مجتمع آخر ينتج النبيذ في العالم.

كاخيتي .. إقليم النبيذ العالمي

ومن أهم المناطق الخاصة بزراعة أجود أنواع كرمات (العنب) إقليم كاخيتي، فيوجد به مساحات زراعية شاسعة لهذه الكروم، وتتم صناعة النبيذ أيضًا فى الأديرة المقدسة.  وتصنع فى أوانى فخارية ويتم دفنها تحت الأرض و تغطيتها بغطاء ورمال لمنع وصول الرطوبة إليها.

جدير بالذكر إنه تم تسجيل حرفة صناعة النبيذ التقليدية في جُورجِيا على قائمة اليونسكو “للتراث العالمي غير الملموس للإنسانية” في  عام 2013, حيث أن النبيذ يشكل جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية للمجتمعات الجُورجِية فنجد تأثيره راسخاً فى ثقافة الفنان والمبدع الشعبي ونرى ذلك من خلال الموتيفات للوحات فنية أو بعض الزخارف على القطع الخشبية فيستلهم الفنان الشعبي تلك الكرمات من الطبيعة لنجدها على نقوش الأثاث وغيرها من المنتجات

بالإضافة إلى ذلك، المأثورات الشفاهية والأغانى والأمثال التى قدست النبيذ، وحافظت على قيمته داخل وجدان الجماعات الشعبية التى تعمل فى زراعة العنب ثم إعداده لمرحلة الصُنع ثم تعبئته وتخزينه فى أوانى الـ “كوفيري qvevri“  الفخارية فى القرى المختلفة فكل هذه المفردات شكلت حياة شعبية وفلكلور خاص بالمجتمعات الجُورجِية استطاع أن يشكل هوية ثقافية وتلك الصناعة استطاعت أن تجذب العالم لهذا النبيذ المميز الذى لا يوجد مثيل له فى العالم كله.

النبيذ .. والحضارة الفرعونية

والجدير بالذكر هنا ، أن الحضارة المصرية القديمة اعتنت أيضاً بالنبيذ واعتبرته مشروب الآلهة المقدس وكان يُصنع من العنب و عرق البلح. وتوجد شواهد أثرية كثيرة تدل على جمع العنب وتخميره لعمل النبيذ وأيضاً خل العنب الذي عُرف بمفعوله القوي جداً فى التطهير.

نرى ذلك جليًا في شواهد مقبرة “مننا” بدير مدينة الأقصر وذلك بالإضافة إلى مقبرة “سن-نفر” فى البر الغربي بمدينة طيبة الفرعونية التى زُين سقفها بالكامل على شكل تكعيبات عنب وتشهد تماثيل الخدم من الدولة القديمة على صُنع النبيذ وعصره فى الأوانى الفخارية أيضاً.

خاتمةً ، فإن مشروب كالنبيذ ومراحل صنعه ليست مجرد حرفة بل تاريخ أتخذ لنفسه مكان داخل الأساطير القديمة والوجدان الشعبي ووقع في غرامه الشعراء والصفوة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحثة فى الفولكلور والثقافة الشعبية – جمهورية مصر العربية