خارطة الريح
قراءة وجدانية في ديوان :
“رقص الغواية الأخير” لشاعر الشمس “احميدة بلبالي”
سعاد ميلي
مارس 2024
“ليس الشعر رأيا تعبّر الألفاظ عنه، بل أنشودة تتصاعد من جرحٍ دامٍ أو فمٍ باسم٠”
(جبران خليل جبران).
” إنه الصوت العاري وبصمة الوعي الحادة على الأشياء، الشعر تشفير للحياة.. خروج عن السياق كلما كان الأمر يتطلب ذلك، والمقامرة بكل المهارات الفنية التي تعلمتها من أجل بلوغ شيء تحسه بكل حدسك وليس على ظهر حواسك فقط، شيء يفرض عليك أن تترك نصك غير مدوَّر ولا محكم، بل ناقصًا مفتوحًا على الفراغ. الفراغ الذي ينشط بإمكانية خلق جديد.
(منير الإدريسي).
عند قراءتي الوجدانية للديوان وجدته ينسجم مع ما ذُكر أعلاه، ولما غصتُ أكثر في بحره وجدتُ لآلئ كثيرة تحملُ في قَوقعتِها كمّاً هاماً من الجراح، تحيط بسرّها بحنوٍّ خالص ابتسامة خجولة على فمٍ اعتاد تقبيلَ الشّمس لحظة غرق الغروب.
فمٍ اعتاد أن يرتقي بلغتنا المحكية لمرتبةٍ تنافسُ فيها الفصيح.
لكن هذا لم يمنعه من أن يمتّعنا بجماليةِ مفرداته الفصيحة وهي تصافح لغةَ الضاد بشكل لم نعهده في إبداعه من قبل.
فهيا زميلي القارئ لتغوص معي وتكتشف رفقة روحي الوجدانية ما يستفز روح القارئ فيك، لتجد لآلئ وكنوزًا تنتظر فقط نظرتك الباسمة لتخرج أسرارها الحالمة إلى قرّاء غيرنا متشوقين للشعر المسافر الأنيق.
كان الفضول مني أول الخَطو لاكتشاف بوح الشاعر احميدة بلبالي في شكله الجديد إلى أن وجدتني مهتمةً حقاً بهذا التجريد.
وقبل أن أتطرق لقراءة رموز أول الغيث عنوان الديوان الذي بين أيدينا “رقص الغواية الأخير” أحب أن أترجم ماشعرتُ به لحظة ما قبل قراءة الديوان نفسه.
إنها لحظة استثنائية أذهلتني و أربكتني في آن واحد، كما الأغصانُ المتشابكة التفّت على روحي بكلّ حب، هي القصيدة التاسعة “يدُ الريح” أظهرت نفسها متمرّدةً منفلتةً من عينِ ذاتها : قصيدةُ نثر مميزة، كقطرةِ ماءٍ متساقطةٍ بحنوٍ على أرضٍ عطشى للولادة، بعدما أنهكها الشّوقُ اليابسُ على سرير الموت .
يدٌ جبّرت لكن الريح أبت إلا أن تحرّرها من عُقالِها ضداً عن العجز.
تبوحُ لنا يدُ الشّاعر :
” تصنع الفرح من اللّاشيء
وتهديه بلسماً
لجبر الجناح،
حين لاعبتني يد الريح
في أحضان المنون
لتلدني
جرحاً جديداً
تهديني
فرحا بالبقاء.”
أتراه الموت المكتشفُ عنوةً والمؤجّل رحمةً من أحيا الأمل من جديد في ذات الشاعر الفريد ليستشعرَ فرحة البقاء؟.
أم تراه من جعل الذّات الشاعرة تصفُ يدها الريح كأمٍّ تلاعب جرحها العنيد فيتلاشى معه الحزن الصامت؟.
هي نفسها “يد الريح” همست لي اقرئيني دونَ صوتٍ كما لم يقرأني أحد.
هي تدرك أنه فارسٌ قلّ مثيلُه في زمنٍ بَائس.
و إني ألقّبهُ شاعرُ الشّمس، كما لقبتهُ قبلاً فارس الزّجل المغربي .
وحقاً زميلي القارئ لقد أعطى الشاعر احميدة بلبالي الكثير للزجل المغربي ومازال منبعه الزجلي يتصبّبُ شعرًا ويشعّ نجماً في ليلِ الإنسان الزجال.
فهل ياترى المشهد الشعري الفصيح سيُغريه للبقاء؟
أنا لا أشك أبداً في أنه يستحقُ مكانةً مميزةً مع الشعراء والزجالين الكبار في بلادنا المغرب، مكانةً تتخيلها في نفسك زميلي القارئ كلما اقتربتَ أكثر من لآلئ كلماته الشاعرة، فأنتَ تستحقُ شاعرًا مثله، ترتقي معهُ وتزيل عن حروفه شراسة الغبار العتيقة، أجل يحتاجك سيدي كما تحتاجهُ ومن يشبهونهُ مثلك أنت.
من هنا، أدركت أن الموهبة هي منبع البوح.
فلا يُهم اللّغة أو اللهجة التي نعبّر شعرًا من خلالها، بل المهم روحُ الموهبة لأنها بشكلها المختلف تصل للقلب مباشرة دون تقييد.
شاعرنا اليوم اختار لغة الضاد ليدخل غمارها بشجاعة ومثابرة لينال ثمار جهوده أخيرًا في شكل باقة مختارة من الشعر الفصيح المنثور عنونها ب “رقص الغواية الأخير”.
وعليه، لنرجع لبداية الديوان الذي وشوش في أذن قلبي الوجداني بالكثير :
“رقص الغواية الأخير” عنوانٌ يراقص الضّلال، يتبع معه الحالمُ هواه الأخير وينهمك برقصاته حد الهلاك أو ربما ينجوا منها عبر صحوة البقاء.
لوحة الغلاف: دائرة شبه منغلقة على سرها العتيق، يحيط بها إطار يسجنها من كل الجهات، بألوان غامقة تجمع ما بين سحر الليل و أصالة التراب بكل تدرّجاته اللونية، لقد تحررت بغموضها وتكعيبيتها الاحترافية لتعانق التأويل.
1)”ثيمكساوين” :
إهداء من القلب العامر بالحلم “احميدة بلبالي” إلى شقيقه في الهم الأدبي “محمد البلبال بوغنيم” يهديه هديةً من صميم الألم إلى صميم الأمل العارف بسرّ الحلم. إنه رفيق العمر وزميله في الهم الأدبي مدى الدّهر.
إن الرّاعيات في القصيدة يسرحن بأنفسهن، تكاد تتخيلهن بخطواتهن الآسرة، يتسامرن في أراضي “زيان” التي ذكرها شاعرنا في الهامش، بأنها:
” مجموعة قبائل على مشارف سلسلة جبال الأطلس المتوسط” .
و أضيفُ وصفاً وصفوا به ب: (أهل الظل) ، فلا تتكاسل في معرفتهم معي زميلي القارئ.
وهكذا تبلورت لدينا رؤية عامة لنسائهم الراعيات المناضلات على قمم الجبال الأطلسية الشاكية ، فلنتذوق بتأني رقة وعمق وصف شاعرنا لهن:
” على قمة الصبح
تنبلج الراعيات
يغازلن هدهدة الريح
لسنابل الروح
هي “زيان”
كما خطتها
وصية الجد قبل سنين. “
يبدو لنا أن راعيات “زيان” الحِسان في روح شاعرنا يغازلن الريح في قمة الصبح و “زيان” معهن ظلت محافظة على طابعها الأصيل دون أن تتأثر بأي عادات غريبة عنها منذ وصية الجد إلى مشارف الحفيد الوفي المحب٠
يتابع :
” الراعيات يراقبن
أفول الغزاة
يحضن قبور العذارى
على مرمى الحنين،
وأنت هنا
قادم طيفك
تسأل الروابي
عن ما ضاع من أمانٍ
على منحدرات الحنين.
تأخذ من الآتي
مانسيت،
توزعه خزامى برية،
أطيارا،
أغاني الفلاحين،
عن حصاد التعب
عن مُهرٍ يلهو
في حضرة الروابي،
عن شيخوخة الأماني
في غصن عانس
ينتظر ما وعد به الناي
والدّف في موسم النسيان. “
إن الراعيات شعلة النضال بمراقبتهن العدو من بعيد، يحذّرن رجال القبيلة منه بذكاء، وكم من راعية أنقذت حياةً لأجل هذا الوطن، هو تاريخ منسي، مع بطلاته وأبطاله اللذين ضاعوا في “منحدرات الحنين” ، لتحكي لنا “أغاني الفلاحين” حكايتهم رفقة اللحن الحزين في وقت “حصاد التعب ” و رفقة “الدّف في موسم النسيان” .
إنها قصيدة تحتفي بالأصالة وإيقاعها الداخلي متين وصورها متميزة وتراكيبها اللغوية مميزة لقد تفوق الشاعر على نفسه فيها.
” هي الحكايات
و الراعيات
على شرفة “زيان”
يحملن الدفوف و الحناء
على مدار الفصول
ينزوين هكذا
في أقاصي النسيان، “
……
في هذه الحياة الحكايات لا تنتهي عند شاعرنا و يبدو ان ازدحام الأفكار في ذاكرته انبلج من وحيها حكايات من أقاصي النسيان ومنها حكاية الرّاعيات/ المتمرّدات، وهنّ يتراقصن بخطواتهن و ُيرسلن في اغانيهن كل نغمة بإشارة نحو التحرير.
ويتابع قصيدته في إنصاف كبير لعفّة الراعيات/ البطلات فيصفهن بتركيب لغوي فريد :
” لا يعرفن
من صفير القطارات
سوى ما حملت الريح
أو حكاه وجه العجلات
للإسفلت الحزين.”
ومن هنا نجد ان ذكرى الراعيات /البطلات راسخة في وجدان شاعرنا مهما طالها الغبار في دفتر السنين. انها مميزة جدا.
يتابع :
” وراءه ترك زهرة
يقطف الزمان منها
أحلى لحظات العمر،
هي ترمقه الآن
من تحت حزمة حطب
وجبل من مسد. “
وأجد الذات الشاعرة هنا انتقلت من حكاية الراعيات الى حكاية حب لامرأة عظيمة في حياته قد تكون الأم أو الحبيبة ولم لا القصيدة:
“سجلت بلون الرماد حرقتها
وشما على تفاصيل الجسد . “
……
حكاية من قلب الرماد لم يستطع نبش قبرها وتركها للحلم وعاد لذكر “الراعيات النائمات” الذي يجمع بين حكايتهن وحكايته شبه يريد سبر أعماقه، وبين الصحو والنوم “رحم التيه” يجمعه وصاحبه في “الركن القصي” من الوادي و “الراعيات شاهدات” على ثمالة الحب و عن أحلامه التي “تنبت من جديد” .
وانتهت حكاية “ثيمكساوين” الشعرية التي استمدت من السرد روحه ومن الشعر رقته وعمقه،
وإني أجدني أغبط الشاعر عليها حقاً.
أعترف أنني توقفت أكثر عند الحكاية الأولى لكن في رأيي لكل ديوان مفتاح تجده في عمق قصيدة ما دون غيرها، وانا أحس أن البداية هي المفتاح لفهم نفسية الذات الشاعرة، فلنكمل سبر أعماق بقية القصائد العشر بعد “ثيمكساوين” لنرى هل أنا محقة في حدسي ؟ ولنرى أيضًا أين يقودنا بحر بوح شاعرنا.
2)”لماذا تعود الطيور لأوكارها؟ “:
تتذكر الذات الشاعرة وهي في طريق رحلتها نحو الآخر موقفاً حدث معها أثناء السفر و ترجمته شعرًا بشكل بديع الوصف قائلة:
“على مشارف السفر
يسأل الجمركي عن أمتعتي،
لم أخبره
أني تأبطت لغة أمي،
صوت الحبيبة
في دفئه الصباحي، “
إنه وصف جميل تفتّح له القلب وابتسمت له الروح.
وصف يتميز به شاعرنا ويزغرد له قلب القارئ، فلا شيء أحب عند المرء من أمه وحبيبته .
والجمركي بكل ما يمثله من سلطة لن يحول دون ما يخبئه الشاعر في إبطه.
إن حبّ الأم الأساس الرفيق وحبّ الحبيبة المؤنس الصديق في دواخل وجدان شاعرنا الحالم، ومهما بعدت المسافات بينه وبينهم فهم في “حقيبة القلب” لا ينفك يتذكرهم ويغازل أرواحهم الجميلة في صمت المسافر .
إنها قصيدة تحمل شحنة إنسانية تنسج الألفة بينها وبين المتلقي وترتقي بنا لمستوى القصائد ذات المستوى الدلالي الخلاق.
وأما / الآخر / في النص يقول عنه:
” أيها الملطخ بدم أفلاطون
كيف لي
أن أكسّر سلاسل العبيد
من بعيد؟
وهذا القابع في محرابه
يتأمل دهشتي، “
إن الآخر خارج الوطن في قلب شاعرنا مهما كان سيداً على أفكاره فحبره ملطّخ بدم الموتى.
وقوله “انتصاراً للسلام” … أبت الاّ أن تحرر السؤال من عقاله و تعطي الصور أفكارًا جديدةً وموضوعاً للبدء .
وبين عتاب الحبيبة و “انهزام أيوب” عند عتبتها وبين غطرسة الآخر وشوق الوطن للوطن في دواخل الذات الشاعرة نجد هالة من التناص القرآني تحكي لنا عن صبر أيوب و عن أهل الكهف الذين تنظر لهم الذات الشاعرة بمنظار شاعر أغرقه الغياب في الغياب وتلاشت الحقيقة لديه أمام بطش السّراب.
لكن “لهب الاشتياق” جعلت الذات الشاعرة تهمس لنا :
” ركبتُ براق الخيال
قاصدا قدسي
أمشي قديسا
على طرف نبضها
أعيد من جديد
قلبي
وحقيبة القلب
للوطن. “
إن خاتمة القصيدة انسجمت مع روح بدايتها ولكن مع اختلاف هذا السفر، و الحب العنوان الرئيسي بين البداية والنهاية.
3)” إطلالة كالبرق هل أنتظر المطر؟:
” في التاسع و الثلاثين
من شهر العشق
استوت ليلة المحال.
على وجه المساء
انعكس فرح الأرض
ونجمتان، “
………
“ماردا أخرجته
حبة الهوى
خارج الزمن الأول
نما
حتى استوى
ما أنا عليه الآن. “
إن ذكر الشاعر السنة 39 ربما صدفة أو ربما عن قصد ، فهذا الرقم هو ماقبل النضج الكامل بسنة عند الرجل، كأني به يؤخر عجلة الزمن لتظل في “شهر العشق” الأول فعقارب ساعته تقابلها “عقارب القلب” وهما وجهان لروح واحدة والقلب الأخير متمرد جامح وهذا ما جعل منه الرجل الناضج الآن.
لكن هل هذا فقط مايقصده شاعرنا من ذكر هذا الرقم بالتحديد أم أن الأمر أعمق من هذا ؟
لا أخفي عليكم أني سبق وقرأت أن الرقم 39 عند الأفغان مثلا يتشائمون منه كثيرًا ، في حين عند اليهود مقدس ، ولهذا زميلي القارئ لتفهم أكثر معي إقرأ عنه أكثر فكلما قرأنا أكثر فهمنا أسرع.
” أنا في مرآتك
لا تزيحي النظر،
قد أتشظى،
من يجمع تفاصيلي؟
لا تصدقيها إن أخبرتك
لي وجه غير وجهك
هي أنثى تغار
وأنا لا أحب الأقنعة. “
إن المرأة العاشقة تغار وهو رجل لا يعرف لعبة الاختباء لذ الحلّ في شفاء القلب من جراحه بدواء النظر كي لا تلتهمه “غيوم الانتظار” .
4)حين يطرز فستان الغواية يتمه:
…..
“حمل في سَفَرِهِ
حقيبة من سراب
وانزوى.
أين عش الحمام
كي أضع بياضي
في جهة واحدة
ليميد القلب إليك؟ “
نجد أن شاعرنا دائم الترحال وتتنوع حقائبه بتنوع وجهته، وحظ حقيبته سراب هذه المرة فكيف السبيل ليميد بياضه إلى من يحب؟.
تتميز لغة شاعرنا بالمراوغة واللّعب على الكلمات المتناقضة في روحها والمتشابهة في شكلها في بعض نصوص شاعرنا ومثال ذلك:
” سأل خوفي إقدامه
وأطلق أقدامه للصمت. “
يكمل بعدها شاعرنا لوحته التجريدية وهو يرسم لنا الفراغ المنهك وهو ينمو على رموش الأفق ليؤثث فضاءه الفريد المكبل بالصمت، كما يظهر لنا ميله للالحان الأندلسية من خلال قوله:
” على أوتارها
وشّح نغما
ينشد أندلسه
ويرسم وجلي. “
ننتقل بعدها مرة أخرى الى التناص القراني حين قال الشاعر :
” الدبر شامت
والقبل صامت
و للفضيحة احتمالان،
شاهد أنا
والحكاية إفك. “
٠٠٠٠٠
هنا ذكر شاعرنا فصلًا مهمًا من حكاية النبي يوسف إذ حسب مخيلته التي طالها احتمالان غابت عنهما ربما الحقيقة المطلقة.
وكم من حقيقة غائبة عن أعين مريديها ؟!
لقد استشعرت تمرداً على الحكاية الأصل! ومن سيفهم سرّ الشاعر إلا هو، فلا نملك نحن القراء وزملاء همه الأدبي غير القراءة والاستنتاج.
يتابع قائلا:
” بلقيس الحفيدة تنتظر
طرزي لها فستان غواية
واتركي
عند المخيط
للساق فجوة ومض.
على وهم ماء
أحضنك حديث موج
و أسكن المحار،”
هنا نشعرُ أن الجرح هو المتّهم الخفي، وهي الفاتنة التي صبّت الملح على حكايةٍ متعطّشةٍ للخيال في فصلٍ “خارج الربيع “.. كأني به خريف العمر من يقصده شاعرنا، وبلقيس حفيدةٌ تنتظر وهماً شرقياً يحتضنُه “حديث الموج”ويسكنه المحار لحظة ماء.
ننتقلُ اللحظة في جو من التأمل والإعجاب مع شاعرنا للقصائد السّبع المتبقية والتي هي سبعُ نصوصٍ حسان واحدة تكمل أختها في بحرٍ من الألحان :
5)”حكايا الفراغ” :
* مازالت فكرة السفر تلوّن شهية الرّحيل في حلم شاعرنا وهذه المرة لم يحمل في حقيبته غير الفراغ و”قسوة أخرى” للغياب.
* محطة قطار شاعرناَ شاحبة لقد أنهكتها سرعة الخطى وعيون حبيبة أغلقت أعينها عنه ويتّمت حرفه وغرست وشمها في دمه.
* كيف للصمتِ أن يعلو حروف الشاعر وحلمُ الآخر الضيق “يتسع للحضور”؟! ياله من تعبير طالته الغرابة وعانقه التيه، كأني به متضايق من زحمة واقعه، يبحث عن السكينة في حضرة الليل، هذا الأخير الذي يتقاسم معه الأنين والحبر، حسب وصفه الشاعري الممتع وتصويره المدهش.
* نجد كذلك الحضور الطاغي للموسيقى الصامتة التي تذكرنا بالطبيعة الصامتة واختلاط البياض المجازي مع بياض الرؤية لحظة الكتابة لدى الشاعر.
* الشفاه التي تنمو على جنبات اللبلاب أثرها مازال راسخًا في أعماق شاعرنا، مازال في انتظار ربيع حضورها مهما ازدادت قتامة الفراغ داخله.
* الليل محشورٌ بين صقيعٍ أيقظ حلمَ الشاعر و فراغ يقتله بصمت الطلقات، لا اشتهاء يسكّن ألم الشوق ولا محار يعبّر عن رأيه أمام سلطة الماء، كأني بها سلطة الواقع بسقوطه الذي يحمل الصقيع في عناده ليغتال الحلم في مهده.
* في نهاية القصيدة يتفوق شاعرنا على نفسه في وصفِ تفاصيل للوجه بغاية الجمالية فالرّمش الذي خان رقة الدّمع وصار معه الأخير جدولاً، والخدُّ الذي صار بوصلة لمكر الحياء ، والقمر التائه في ليلٍ شكّل إحساس الشاعر ليصبح سفيرًا لأسطورة الذئب الإنسان، ومصاصي الدماء، كأني بشاعرنا وجد بها ملاذه الاخير، ليأتي الصباح بمزيد من الأسئلة توقظ قلقه الأسطوري.
6)”خارطة الشوق”:
* القمر و البحر والمحار هم سكان شوقه الأصليين، تتراءى لنا بين حروفه لعبة مدٍّ وجزر بين ذكر و أنثاه منذ البدأ، يرسم حضوره شعرًا كلما اشتاق شاعرنا للعشق في ظله المتسلّق لسماء الينبوع.
* قراءة الطالع حاضرةٌ بسحرها البحري على إيقاع ريح نسيت حظها على خدّ وردة شائكة، والتمرد الأنثوي يعلن سلطته على الذات الشاعرة، خارق بسطوته حدود شطٍ ليلكي، ومحتارٌ شاعرنا كيف يتوسّد رمله.
* الليل هو ماتبقى للشاعر “بكل رحابته” ليسجن فيه حبيبته/ القصيدة الزئبقية.
7)”عراف الغواية”:
* خلف الغلاف اختيار الشاعر من قلب بداية الديوان/القصيدة الأولى، وكلنا نعلم زميلي القارئ أن ما يختاره الشاعر أغلبيته يكون له مكانة في قلبه، أو متأثرًا به أو كان سببًا في تغيير حياة نصوصه الشاعرة الخ.. فيا ترى من هي الهاوية التي غرق فيها الهاوي/الشاعر حد الثمالة ؟ أهي القصيدة أم الحبيبة أم الحلم الذي لم يتحقق، وظلّ هاجسآ يزور شاعرنا كلما أطلّ الليل بهيبته ؟ أم لعبةٌ جديدة لم يدرك بعد كنهها ؟ و هل العرّاف يُدرك السّر في فنجانه؟ هذه بعض الأسئلة التي استفزتني لإدراك كنهها، وتُحسب للشّاعر المثقف الذي يجعلنا نتساءل ونستمتع معه بجمالية التراكيب وسحرها.
* اقتراب المسافة لا يعني بالضرورة اقتراب من يشتاق لها الشاعر فلعبة الابتعاد تجيدها الغائبة القريبة كما تجيد الخجل.
* لا يجد الشاعر أمامه غير العرّاف عسى يفك الحرف من يأسه المتجلي في فنجان بوحه، عسى يزيح عن كاهل حديقته شحوبها وعن عاطفته بركانها “المتأهب للانفجار”.
* الحبيبة /القصيدة كما الربيع في أبهى صورة تزهرُ ابتسامةً في قلب شاعرنا ، تخرجه من فصله الخريفي الشاحب، وتراقص أوراقه اليابسة وتواسيه من هول قسوة الوهم.
* كلّما ابتسَمت يشرق وكلما تجهّمت يغرب إحساس حارس الورد الذي يحرس وردته من أيادي القاطفين ويقدم لها دمه قربانا لتزهر من جديد.
* تنير عينيها روحه كمنارة تزرع الأمل في قلب التائهين، ومنهم شاعرنا الذي يتساءل ولا ينتظر جوابًا ………..فلا لقاء خارج القصيد غير تنهيدة تأسف على الأمس.
8) “خارقٌ الحَجْر”:
* يتلصّص العاشق وهو يصف نوم حبيبته كما الأميرة الصامتة كلامها تنهيدة وموسيقاها مدّ و جزر.
* الكمامة حجاب للجمال واليد جسر إليه وشاعرنا يعطي عذرًا للريح، فلا أحد يستطيع مقاومة النظر من وراء الستارة حين يخزها الريح، هنا يصف لنا الشاعر محبوبته بتعابير غاية في الرومانسية والجمال.
* “ميدوزا ” أو “ميدوسا” أو “جرجونة” ومن لا يعرفها، الضحية أو الغاوية الفاتنة لإله البحر عند اليونان” بوسيدون” الذي قام باغتصابها حسب ما يحكى وذلك في معبد “أثينا” ( إلهة الحكمة والقوة وإلهة الحرب) التي سمعت ما حصل منهما في معبدها فقررت الانتقام فقط من جميلة الجميلات “ميدوزا” فحولتها لفتاة بشعة ذات ضفائرَ ثعبانية كما جاء في الأسطورة الإغريقية ، واني لأظن انها غيرة من “أتينا”، فهل ياترى شاعرنا من الفريق الذي يعشق غموض وأنثوية “ميدوزا ” ويظنها ضحية؟أم العكس؟ واني لأرى أنه أعطاها حقها في الغموض والجمال والسحر والدلال .
9)”يد الريح”:
* اختطفتها عيناي قبل الأوان مذكورٌ وحيُها في الغمامة العليا، هي يدٌ تعبث بالألم ليصبح مصدر إلهام وإبداع، ومن رحمِ المعاناة تولد قصيدة.
* يدٌ تمّ ذِكرها ومازال سحرُها يتردّد على نبض القارئ .
* يدٌ أطلقت العنان للخيال أرضها عجزٌ وسمائها حرية.
10)”رفوف الذاكرة”:
* قد يعشق الشاعر حرفًا وقد يخونه فلا شيء يبقى على حاله، شاعرنا يرتّب تفاصيل تعبه كما يرتب حرفه و النسيم، يرتب ليله ويوزعه على رفوف خيبته حسب تعبيره المبدع.
* هي الذاكرة تاريخ في وعي شاعرنا يتذكر معها خيباته من الماضي ويسقطها على الحاضر ، إن ذاكرته متيقظة تماما لترتيب كوابيسه في رفها، وليزيل برفقتها النسيان عن مسودات ذاكرة اخترقها بعض من أمل.
* ديك الذاكرة يزيح هم الشاعر يفكره بأمل قادم و بغدٍ يكتنفه بصيص متعة هارب من جنون حرفه المتمرد.
* ليليت نجمة في قلب الشاعر.
11)”لنجمة هناك”:
* طقس بارد وشاعر تائه يقف أمام بحر هادئ وعيناه تنتقلان من فضاء شاسع يطرد خوفه لينظر لنجمة مزهرة هناك في الأعلى ومضيئة في جنبات قلبه .
* تاملات وأسئلة وجودية ازدحمت في رأس الذات الشاعرة لتقترب من فهم سر “المقصلة”.
* إن الشعر في رأيي مرآة الوجود. وشاعرنا بأسئلته القلقة المتشعبة يحاول بشغف اكتشاف فضاءه الذاتي عبر فضاء الفضاء، ذلك من خلال قوله”درب التبانة جغرافيا/وكل البحار مسابح…” إلى بقية هذا النص المركّز بعبير الفضاء ونزعة الشك المغلفة بالرومانسية، انه قانونه الشعري الخاص الذي يبحث فيه عن الحرية الشعرية الذاتية.
* خارج الذات ينمو فراغ الشاعر يكتسح مساحة هدوءه، ونجمته تنيرُ عتمة ذاته وتغري حلمه ليخرج من تفاهته.
* وتظل الاسطورة في النص باب سحري لدى الشاعر ومتنفس له ليسيطر على صخر واقعه. وبهدير موجه خارج الجسد يتوحد شوقاً مع نجمته،”لا غيرهما في الحلم”.
الخاتمة:
* في ما سبق وقرأناه تعرفنا على أسلوب شاعرنا المميز في نصوصه وذلك من خلال التحليل الوصفي الذي اعتمد فيه على الحس الرومانسي و التاريخي الذي عاشه أو عاينه مثل ما جاء في أحداث قصيدته الاولى عن الراعيات .
* نجد كذلك عدة عوامل مؤثرة في تشكيل نصوص قصائده النثرية مثل السفر والحلم والشوق للأم والحبيبة والرفيق والنجمة/القصيدة الى غير ذلك .
* إن شعرية الديوان مكتملة من خلال أهم عنصر هو الوجود، إحساس عامر بالقلق الوجودي الذي يربط ذات الشاعر بالكون والأرض. يكشف لنا فيه الشاعر عن ذاته القلقة و كتابته الباذخة شعرًا وحلمًا وشوقًا في روح متمردة خارج جسده.
* وعليه، القارئ العزيز ندرك من خلال قراءتي الوجدانية هذه أن لقصائد الديوان صوراً غاية في الجمال والرقة والانسيابية، تحمل شحنة وجودية في ديوان “رقص الغواية الأخير” ولها سلاسة تخترق بها روح القارئ ، بإيقاع داخلي منسجم مع عمق القصيد، لا يشوب هذه العلاقة هذيان أو تقريرية. إنها لغة متماسكة في وحدتها الموضوعية، مكثفة بأناقة ، غامضة حيناً ومفهومة حيناً آخر . فصيحة متمردة، وفي بساطتها عمق وفي معانيها مراوغة ودلالات عدة.
* إن شاعرنا وفّق حقاً في ديوانه الفصيح فهل أنت متفق معي عزيزي القارئ؟.
كل الشكر لصحيفة الخبر الليبية على النشر🌹
ولصاحبها الصحفي والمبدع الراقي رزق فرج رزق🌹
لكم كل الود والتقدير 👑💚❤️🌹🌹
سعاد ميلي
الرباط
المغرب