ذيل حصان ..
قصة قصيرة بقلم : القاصة هناء نور
لا أعرف حجم الو قت الذي كنت أقضيه في تأمله من خلال تلك الأعمدة الحديدية لسور القصر.
كان جميلًا جدًا. أجمل ما فيه هذا الذيل الطويل الناعم الكثيف جدًا.. كان الهواء يطير شعره هنا وهناك وأنا واقفة بشعري القصير المجعد جدًا تملؤني الحسرة. على بعد عدة أمتار من هذا القصر.. تقع الفيلا التي تعمل فيها أمي بشؤون التنظيف والطبخ.
أمي ليست بخيلة.. رغم إمكانياتها المحدودة.. لكنها لا تؤمن بأن الشعر بإمكانه تشكيل أزمة بالنسبة لشخص!
هي لا ترى أية أهمية لشيء سوى التعليم. أنا مقدرة جدًا حلمها بتلك اللحظة التي ترى ابنتها فيها طبيبة.. لكن شعور البنات التي تهفهف وترفرف أمامي في الجامعة تصيبني بالأسى، وتجعلني غير راغبة في فعل أي شيء.
تلك التعاسة الشديدة جعلت أمي تخشى بشدة أن تتأثر دراستي بالأمر. مما جعلها تضحي بسبعين جنيهًا.. وتشتري لي كريم فرد شعر مستورد حدثتها عنه كثيرًا.
في هذا اليوم فرحت جدًا.. ظننت أن المشكلة ستنتهي تمامًا. قرأت التعليمات المكتوبة داخل علبة «النجاة» كما أسميتها ونفذتها على طريقتي.
انتظرت ضعف الوقت الذي نصحت به النشرة المرفقة كي أضمن أن يصبح شعري حريري الملمس.
لكن المفاجأة جاءت عكس التوقعات تمامًا. أثناء غسل شعري من آثار الكريم.. وجدته يتساقط بسخاءٍ زائد.. أخذت أصرخ دون توقف من فرط الفزع.
يا الله.. هل أصبح صلعاء كالمصابة بمرضٍ خبيث لأنني حلمت فقط أن يصبح شعري ناعمًا؟!
الفرحة التي انتظرتها من مرآتي.. استبدل الحظ بها وجهًا يحمل حزن الدنيا والآخرة.
ليت الزمن يعود للوراء نصف ساعة فقط. ليتني ما حلمت بالأفضل أبدًا.
الأحلام مقبرة أصحابها، أو طوق نجاتهم.. بالنسبة لي لم أرَ حتى الآن بصيص شاطئ.
الوقت غير القصير الذي قضيته في العلاج بالأدوية والزيوت والكريمات لم ينجح في سد الفراغ الواضح بين الخصلة والأخرى في شعري الذي أصبح خفيفًا وهشًا للغاية، شديد الالتصاق برأسي لدرجة ذكرتني بهؤلاء الذين سخرت منهم كثيرًا.. وقلت في وصفهم: «ملزقين شعرهم بصابون» أ
أمي أصبحت مهمومة جدًا.. ترتكب حماقات متعددة في عملها بسبب انغماسها في التفكير بمصيري، ومستقبلي الدراسي الذي من المحتمل أن يضيع وأنا منشغلة بتلك المسألة التافهة!
كل هذا الألم.. وهذا الحصان يهز ذيله!
وبمنتهى الزهو يتراقص مبتهجًا وصاحبته التي كانت في مثل عمري.. هي أيضًا كان لها شعر بديع كذيل حصانها.
لمَ لست أنا التي أملك هذا الشعر.. هذا القصر.. وهذا الحصان؟!
إحدى زميلاتي الجدد في الجامعة.. أخبرتني حين أبديت إعجابي الشديد بجمال شعرها.. بأن شعرها عبارة عن وصلة.. مصنوعة من شعر طبيعي. اندهشت جدًا.. واندهشت هي أكثر من عدم معرفتي من قبل بوصلات الشعر.. وأخذت تشير إلى الكثيرات من صاحبات الشعر البديع وتقول: إنهن يعتمدن بشكلٍ أساسي على وصلات الشعر.. وإنها تجيد التفريق بين الشعر الأصلي والشعر التركيب.. وتلك الشعور التي تتباهى بها أكثر الفتيات ليست إلا وصلات لا أكثر.
حدثتني كثيرًا أيضًا عن تفاصيل الأمر.. أسعار جرامات الشعر الطبيعي، وأماكن بيعه، وطرق تركيبه.
يا الله.. حقًا.. من لا يملكون النقود في تلك الحياة.. لا يعلمون شيئًا عن كواليسها.
لم تكن تعلم أن الأسعار التي تبدأ من الألف جنيه.. خيالية أكثر من سوبر مان بالنسبة لي.
الذي لا يملك المال؛ أحلامه محض أوهام لا أكثر! لذا قررت الانغماس في واقعي والتركيز في دراستي.
لكن ذيله. لم يكف عن مطاردتي.. كان يشدني إليه بقوة مجهولة المصدر، فلا أملك غير الوقوف أمامه بالساعات متأملة.
عدت لضعفي وشرودي.. يبدو أن الأحلام قدر لا سبيل للفرار من قبضته.
أثناء بحثي عن أحد الأشياء غير المهمة بالبيت.. وقعت عيني على مقص. وجدتني أتوقف أمامه وأطيل النظر إليه بشكلٍ لا إرادي. هل هذا معقول؟!.. لا… لا… يا الله… قص جذور الشر بداخلي.
عندما كنت في المدرسة الثانوية.. كنت أقفز كما الصبيان من فوق السور حين يصيبني الملل من طول الحصص وثقل دم المدرسين والدروس. يبدو أن طيش الصبيان مازال بداخلي. ماذا لو أصبح هذا الذيل لي؟ سيطول شعر الحصان مرة أخرى وسيصبح لي شعر جميل.. ليس ثمة ظلم في هذا الأمر.
كان يجلس على الحشائش بحديقة القصر.. اقتربت منه جدًا مع التزامي بالهدوء، والحذر التام. كان وديعًا للغاية. حين تحسست رقبته بأناملي.. لم يخف.. لم يصدر صوتًا .. مال برأسه في ودٍ لم أتوقعه ليحتضن ذراعي! سرت بجسدي رعشة حين التقت عيناي بعينيه.
هل يعلم السبب الذي جئت من أجله هنا؟ هل يرغب بهذا الود الزائد توجيه صفعة الرحمة لضميري؟ ووضعي في موقف حرج من فكرتي؟! لا… لا… ربما هو يعرف حقًا ما أرغب في فعله، ويريد إخباري إنه ليس غاضبًا مني. أليس الكرم من شيم النبلاء؟! لمَ لا أفر من هنا الآن وأنسى الأمر تماما؟
صوت قهقهات قادمة من داخل القصر.. ارتبكت، أخذت أحْبو في سرعةٍ وحذر معًا.. حين أصبحت بجانب الذيل تمامًا.. وجدتني بشكلٍ لا إرادي أخرج المقص من جيبي وأقص الذيل من جذوره.
مرت دقيقة كاملة تقريبًا بلا صوت. ثم انهمرت الصرخات دون توقف.. لم يكن صهيلٌ أبدًا هذا الذي صعق أذنيَّ كهربائيًا.. كان الحصان يصرخ بكل ما أوتي من ألم.
لا أدري كيف ومتى كل تلك الأشياء تمت، وكم استغرقت من الوقت.. خبأت الشعر بقميصي، وضعت المقص بجيبي، قفزت من فوق السور، ركضت، وركضت، وركضت.. وأنا ألهث بعنفٍ وشيءٌ بداخلي يريد أن يدفعني بقوة للركوع ، والصراخ بلا نهاية.
عيناه.. عيناه!
لم أنم أبدًا في تلك الليلة.. لم تترك عيناه لعينيَّ سبيلًا لغفوة.
ترى هل يسهل القدر للمجرمين دائمًا ارتكاب الجرائم ووسيلة الهروب منها؟ هل هربت من جريمتي؟! هل انتميت بالفعل لفصيلة المجرمين؟ أم أنني من الأشباه لا أكثر؟ مساكين جدًا من وقفوا في المنتصف.. فلم يعرفوا إن كانوا حقيقيين حقًا.. أو محض صورٍ باهتة.
في صباح اليوم التالي.. انبعثت الصرخات مدوية وموجعة جدًا من حديقة القصر.. كانت تسري بجسدي رجفة مع كل صرخة لا أظن أن الصدمات الكهربائية أشد منها قسوة.
مات الحصان. وانهارت صاحبته أمام جسده المسجى.. هذا الكيان البديع الذي كان ينبض بالجمال أمس.. لم يعد سوى كومة من اللاشيء.
كما كل المجرمين الذين يحومون حول جرائمهم وجدتني مدفوعة بقوة أكبر مني.. لرؤية المشهد من خلال الأعمدة الحديدية لسور القصر.
عيناه.. عيناه!
لم يمنعهما الموت من النظر بعينيَّ وطرح تساؤلات لا تنتهي:
لمَ؟!… لمَ؟!… لمَ؟!
رائحة الموت التي طغت على حرارة ولزوجة هذا النهار الذي لم تطلع له شمس.. تسللت إلى روحي الخربة فزادتها ظلامًا.
عيناه.. عيناه!
لم تتوقفا أبدًا عن مطاردتي في صحوي ونومي.. في المحاضرات التي أحضرها بجسدي فقط.. لم تعد لي شهية لشيء.. تسلم الصمت والشرود شؤون العناية بي. ترى أين اختفت الفتاة؟ لم تعد تظهر أبدًا بالحديقة.. أتكون ماتت هي الأخرى؟! لكن لم أسمع صوت صرخات أخرى في القصر. هل يجب أن يرافق الموت صوت؟ الصمت صرخة أقوى.
يجب عليَّ التخلص من هذا الذيل اللعين إلى الأبد.. ألقيته في النهر لكنني لم أتمكن أبدًا من التخلص من عينيه. آه من عينيه!
نتيجة امتحانات نهاية العام جاءت مخيبة لآمال أمي.. لكنها لم تخالف توقعاتي.. تقريبًا سلمت الأوراق فارغة.
خلال الأشهر التي مرت كأعوام كبيسة ومعتمة.. حدثت المعجزة لا أعرف كيف! طال شعري وأصبح شديد الكثافة طري الملمس.. كنت أشعر بما حدث له من تطور.. لكنني لم أنظر أبدًا في المرآة.
في المرة الأولى التي وقفت فيها أتأمل مرآتي.. رأيت شعري جميلًا جدًا.. لم أكن أحلم بأن يبدو بتلك الروعة.