رجل من أرق .. بطاقة حمراء في وجه العنف الأسري
رؤية في أوراق مبعثرة ترممها الدماء
- رزق فرج رزق . ليبيا
يضعنا “نبيل مملوك” الروائي اللبناني الشاب في روايته (رجل من أرق- الصادر عن دار زمكان 2023) أمام عالم مشحون بالمتناقضات، و يرمي بنا في مرمى المسكوت عنه وهو يلتقط أبرز صور المجتمع من تعنيف بأشكاله المختلفة، لم يرحمنا مملوك أثناء محاصرتنا بالفخ النفسي، من حالة اللغة الدارجة التي تتخلل السرد على هيئة حوار لا يخلو من ألفاظ بذيئة، هي حالة واقعنا المعاش، إذا ما أردنا التبرير له فعل التمازج بين لغة عربية و هو من فرسانها – حيث تخرج في جامعة لبنان- و دارجة لبنانية و هو أصيل مدينة صور اللبنانية.
السلوك العدواني و النشأة المرتكزة على ردود أفعال جسدها لنا فارس (رجل من أرق) في لوحة مشوهة لأب أرهقته الحياة حد القسوة على الأبناء لا سيما (الأنثى) ( كان صوته العالي ملازمًا لآذاننا، صوت مرهق: نورا… البسي الحجاب”!!! ،” نورا… حاج تغني يا كلبة “، نورا… صليتي المغرب؟! «يا بهيمة حاج تضحكي بمحن قدام ولاد عمك”،
“يا ….. أيمتى بدك تبطلي تحكي نحنا وقاعدين على الغدا “ص24
ليست الجرأة وحدها في مجريات الرواية هي الأداة الوحيدة التي تحسب للعمل، بل أدوات عديدة تمنح الرواية رضا المتلقي منها – للتمثيل لا الحصر- الفلاش باك في تناص مع أعمال بعض المشاهير الروائيين كـ: (..على سيرة
الضوء والعتمة، والنور والديجور لأخينا الراحل ميخائيل نعيمة.) و (يقول نيتشه: إن الأفكار العظيمة تولد في أثناء المشي)
لم تكن رحلة القراءة مريحة فأجواء (رجل من أرق) مفخخة بالمخاطر ما إن يأخذك السرد إلى عوالم الأحداث المترامية حتى تنقطع بك الطريق، بانتهاء جلسة من جلسات العلاج النفسي التي تمركز عليه محور الرواية .
تفلت الزمن من “مملوك” في بعض المواضع، وسقطت بعض الأحداث في شرك الالتباس، – لكن لا نقف عندها- فنهجنا الذي نسير عليه يعتمد جماليات التلقي ورؤيا في مواضع الجمال التي نتفطن لها في العمل الروائي،
لم يترك الروائي عمله بصبغة مجتمعية بل البسه مذهب عقائدي منذ الوهلة الأولى فالحاج والحاجة تمحورت عليهم الأحداث و أتتهم المنية في وقت مبكر من العمل.
مسار أخر جمع فيه نبيل مملوك خيوط روايته، يا له من فجر فيه المسكوت عنه، يضع الزعيم أو صاحب الأمر الناهي في دهاليز الأحداث، والتشديد عن عدم معرفة هويته – حد التصفية الجسدية- في حال محاولة السؤال عن من هو؟ إلى أن يصل بنا إلى تنويرات العمل وخواتيمه، ويبقى “الساكسوفون” هو أبوه، والزعيم أمه التي تناقضت شخصيتها بين حبها له و حقدها عليه والدهاء الدموي الذي أظهرها في قوة تعلو على أمن الدولة و مهارة تصل إلى تجنيد رجال الأمن.
على عكس ما تأتي بها النظريات ومُسلم به في كل الأعراف أن الأم أمومة ومنبع حنان، أراد “مملوك” أن تكون ثورة في اتجاه مغاير تماماً، أو ربما صرخة في وجه المألوف الذي أطاح بالمجتمع ذليلا في أحضان العادات و التقاليد التي كان نتاجها عنف مجتمعي و بالتالي أسري، أدى إلى تشويه شخصية أبنائه، و فتح أمامهم أبواب تدخلهم في متاهة لا متناهية من (قتل وجنس و تشرد وشذوذ)، أصبح فيها الابن ضحية تسلط أبوي تنعكس عليه أثر بيئة تحقد على الجمال و تراه عورة وتكره الأنثى و تراها خطيئة، إذا ما التزمت بقدسية النمطية، حتى دفعت بها إلى البحث عن الذات في خرابات الرذيلة و فتنة الغواية و لو في تفاصيل الجسد، ربما في غضون علاقة جسدية مفرغة من الحميمية أو التعانق الروحي، بل هي تشبع جسد قهرته الحياة مذ الصرخة الأولى في الحياة، هكذا أرادها “مملوك” في روايته “رجل من أرق”، يحاكي بها المسكوت عنه بصوت مسموع دون مبالاة لتفجير الكلمات وإن كانت سوقية فيعتبرها لسان حال السوق اليومي في معترك الحياة.
لا أدري إن كنا معه فيما ذهب إليه من تشبع للرواية بمشاهد الإباحية والجنس حد الإفراط – غير المبرر أحيانا- كان بالإمكان أن يحوله من فعل دموي ممزوج بالانتقامية، إلى تجربة حياة يسكن إليه بحثاً عن الأمان والهروب من قسوة ذاك الرجل (الحاج) وتلك المرأة (الحاجة)، في النهايات تكمن التفاصيل، هذا ما أردت قوله، أبدع كاتبنا في جمع خيوطه و العودة بنا إلى نقطة محورية لم تكن على بالنا، عندما جعل من الأم زعيم و من الأب الساكسوفون، وبالتالي القول المراد هو أن الحياة عبارة عن تمثيلية، الوطن هو المذنب وإن كان يحبنا كثيرا إ “قال الساكسفون: أمك تحبك كثيراً” و السلطة التي تحكم هي التي تضعنا أمام هذا الكبت وهذه المعاناة وتتظاهر بالضعف كجزء من تنفيذ الخطة، وما المشروع الوطني إلا عبارة عن دعم من الخارج يُعني بالبورن أو فن الجنس مشيراً صراحة أن تلك السلطة الجاثمة جنت منه كثيراً..
لا يعنيني كثيراً مشاهد إباحية مقززة رفعت الأحداث إلى مشهد معقد من الفوضى و اللا معقول، بقدر ما يعنينا ما تجسده الرواية من تدابير خانقة قتلت الإنسان ظلماً تمثلت في عديد الكوارث الكبيرة التي غطت على كثير من جرائم القتل و التصفية، جسدها لنا في تفجير بيروت المشهور الذي يعد من أكبر التفجيرات غير النووية في العالم.
خلاصة القول كعادتي لن أتطفل على العمل ولا أدخل في عوالمه الكامنة، بل أضع رؤيتي النقدية في جمالياته دون المساس به، و في رأيي أن هذا الشاب كان موفقاً إلى حد كبير في تصوير الواقع من زاوية ضيقة. حق له أن يصرخ بـ”رجل من أرق” في وجه السلطة و أن يرفض الحضن الدافئ إن لم يتوفر الأمن!
“رجل من أرق” بطاقة حمراء في وجه الفساد و في وجه العنف الأسري. المجتمعي ..