صوت الأنثى
في ديوان “اصعد إلى عليائكَ فيّ” للشاعرة فاطمة نزال
رائد محمد الحواري
الفرق بين صوت المرأة وصوت الرجل لا يقتصر على الشعر وحسب، بل أيضا في أنواع الأدب الأخرى، كما هو في الواقع، فلكلّ منهما مزاياه، ألفاظه، مصطلحاته، حتى في الغناء والفنون نجد التباين بينهما، في هذا الديوان نجد صوت الأنثى واضحاً وجلياً، فالعنوان وحده يشير إلى أن هناك صوت أنثى تتكلم؛ فعل الأمر “اصعد” يشير إلى حاجة/ رغبة الأنثى للذكر/ للرجل، ونجد عبارة “فيّ” تحمل معنى الاحتواء، الدخول، الضم، الانعزال عن الآخرين، فمعنى العنوان: “اصعد أيها الرجل إلى مجدك الكامن فيّ أنا”.
هناك العديد من الألفاظ والكلمات والعبارة والفقرات تؤكد أن المتحدثة أنثى، وليست ذكراً، امرأة، وليست رجلا، تقول الشاعرة في قصيدة “ضياع”:
ورحلتَ دون سلام
واكتفيت بالصمت رسولا
كيف لي أن أغتال ذاكرتي
حتى لا تحبل بألم جديد
وحتى لا تلد سرابا آخر؟ (ص79)
ففعل “تحبل وتلد” ما كانا ليكونا بهذه الصيغة لو أن المتحدث ذكر، ولأنها أنثى جاءت بهذا الشكل. تقول في قصيدة “فيء النرجس”:
..غابة عذراء لم تمسها سوى قبل الندى
وظل السحاب (ص18)
نجد لفظ “عذراء” الذي تفاخر به الأنثى وتغري به الرجل. وفي قصيدة “وفاء” كان صوت الأنثى كاملا وشاملا:
تستأنس الأرض بساكنها
فتجري له لباء صدرها
جداولا تسقيه
فإن هجر
جف منبعها
وتصحرت
حتى لا تهب
من لا يستحق
وصالها
إلا غربة وتيه (ص36)
فعل “تستأنس” يشير إلى الأنثى، وكلمة “صدرها” كذلك، و”منبعها، تصحرت، تهب، وصالها، غربة” كلها مؤنثة، ونجد في القصيدة فعل “الخصب والنماء/ الحياة” لا يكون إلا بوجود عنصري الحياة، الذكر والأنثى، من هنا وجدنا فعل “الهجر” يواكبه التصحر والجفاف والتيه”.
ونجد صوت الأنثى واضحا في المقاطع التي جاءت في نهاية الديوان “لا مستور بين طيات الكلام”. فالشاعر كانت في هذه المقاطع تتحدث عن رغبتها/ حاجتها/ غريزتها كأنثى، وكأنها بهذه المقاطع كانت تعد لثورة نسائية على الواقع، فأول المقاطع جاء يؤكد فعل التمرد والخروج عن المألوف العادي والانتقال إلى ما هو أكثر وأهم ممن هو موجود/ معمول به:
سأمتطي صهوة فكرة جامحة
أروضها بطلاوة الحرف
أصوغ منها نصا
يوقظ البنات الغافيات في خدر الخيال
يهرعن على شرفاته
راقصات على المعنى
منتشيات
وسابحات في ملكوت من أثير (ص85)
بعد هذه الفاتحة سنجد هناك مقاطع تتحاوز صوت الأنثى الشرقي الخجول، وتقدمنا من حاجاتها/ رغباتها/ همومها، الشاعرة تعتبر نفسها كالرجل، حاملة قضية، وهل هناك قضية أهم من التحرر، تحرير الذات قبل التحرر من الآخر، إن كان المجتمع أم الاحتلال، فهي تتمرد على صورتها الشرقية الخجولة وتتكلم عنما تحمله من رغبات بشكل أدبي راق، يوصل الفكرة بشكل فني مثير، فهي تتقن فن الإثارة والإغواء، من هنا سنجدهما في هذه المقاطع، وإن كانا غير صريحين، فالإشارة والتورية تكون جاذبيتها أكبر وأهم من السفور الكامل:
كيف للشغف أن يصل إلى منتهاه
فأدرك بلحظة تعر مع ذاتي أنني أهبك كلي
طواعية ناسكة لا تطمع إلا بالرضا من إله
يسكن عينيك؟ (ص88)
ألفاظ “شغف، منتهاه، تعر، أهبك، كلي، طواعية، بالرضا، يسكن” كلها تبين حاجة الأنثى ورغباتها للرجل، ناهيك عن المضمون الذي يتحدث عما تريده من الرجل، فهنا تجتمع الألفاظ والفكرة والمعنى لتخدم جميعها فكرة الثورة التي دعت إليها الشاعرة في البداية، فهي تحدثنا عن ذاتها بطريقتها الخاصة.
كما قلنا المرأة تجيد فن الغواية، فغوايتها لا تأتي بشكل فج منفر، لكن بشكل مؤثر، حتى لو كانت متوارية خلف الستار، فهي مؤثرة وفاعلة فينا نحن الرجال:
موجع هذا الشوق
وبيتك على قيد خطوة
طرقت دقات قلبي بابك
وعادت إلى خيبتها أصابعي (ص89)
كلام جميل معبر عما تحمله الأنثى من مشاعر حساسة تجاه الرجل، فهي ـ بطبيعتها خجولة ـ لكنها توصل الفكرة:
تلك الشهقة
التي لفحت أذن الشجرة
وشوشت خد أغصانها
أشعلت الصيف في الحديقة
وأطفأت بشتاء دافئ… (ص90)
كل الأفعال فيما سبق تتعلق بالأنثى، “لفحت، وشوشت، أشعلت، وأطفأت” وتجعل المتلقي يتأثر بها، ففعل التأنيث له وقعه على الرجل. وهناك مقاطع تتجاوز هذا الشكل من التقديم، وتقدمنا أكثر من حاجتها ورغباتها:
لا مستور بين طيات الكلام
أبقر بطن السطر
ودع دمه يسيل على المجاز (ص96)
من أكثر المقاطع ثورية وتمرد، فهو يدعو إلى فعل محرّم، لكنه حاجة أساسية بالنسبة للمرأة.
اعتقد أن الشاعرة في هذه المقاطع استخدمت التدرج في تقديمها للفكرة التي تريدها، فكرة الثورة والتمرد على صورة المرأة الشرقية، من هنا، نجدها في كل مقطع تتجاوز السابق، وتتقدم أكثر نحو نضوج ثورتها/ فكرتها/ ما تريد طرحه، هذا ما كان في هذا المقطع:
دنوت حتى لامست روحي
سكبت كلك فيّ
فأينعت سنابلها
آن الحصاد
وملأت خزائني
للسنين العجاف (ص107)
إيحاء بالعلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة، لكنه إيحاء جاء بصوت المرأة وليس الرجل، لهذا سيكون له تأثير مضاعف على المتلقي، إن كان رجلا أم امرأة.
امتداد روحك فيّ
وآدم
نسل منكِ
ناجيه
فسعى إليّ
فهل غويت أن أغويت (ص111)
تتقدم الشاعرة أكثر في طرحها فتقول :
كل ما أعيه
أنني أخلد إلى حلمي
أجده متوسداً ذراعك
فإن صحوت
تلفحك أنفاس عطري
ابتسم
والعق ما علق على شفتيك
من شهد العناق (ص 118)
قد يكون هذا المقطع من أكثر المقاطع وضوحا بالتصريح، عما تريده المرأة، لكنه أيضا يحمل إيحاء مثيرا وفعالا، فهي تتعمد ألّا تكشف رغباتها فتبدو منفرة لنا، لهذا تتعمد هذا التستر المثير، التستر الذي يحفز المشاعر والرغبة أكثر. كما نجد في هذا المقطع:
وأعلم
أن شغف البدايات
يحملنا على أثير ساخن
فنحلق بخفة ريشة
وعندما يبرد في الأعالي
نسقط كحجر… (ص119)
إذن الشاعرة قامت بثورتها كما أرادت، وتحدثت عما تريده بشكل فاعل ومؤثر، ففكرتها وصلت، لكن هل تكتفي الشاعرة بهذه الثورة أم ستعمل على إحداث تخلخل/ شك/ تصدع في فكرتنا ـ نحن الرجال ـ عن قدرتنا على غواية النساء؟
الشاعرة تقلب فكرة قصة النبي يوسف وما تحمله من إغوائه لامرأة العزيز بحيث نجدها تتمرد على ما جاء في هذه القصة، فنجدها بشكل مغاير:
ما أنا بامرأة العزيز
ولا أنت بيوسف
وما إغواء حرفي
قد قميص كلماتك
فإن استبقت الباب فهو مشرّع
لكن لا ترجو إيابا لقلب
أوصدتُه بوجه الريح
كي لا تثرثر
بابتهالاتك
أغلقتُ سمعي
والجوارح كلها
ولست راغبة
بوصل قطعته بانهزامك (ص37 و28)
أعتقد أن ذروة الثورة تكمن في هذه القصيدة، فهي ترفض فكرة الركض خلف الرجل/ يوسف، وتدعو إلى اغتنام الفرصة التي أتيحت، فلا مجال لتكرارها في المستقبل، فهي تأتي مرة واحدة، إن اغتنمها كانت له، وإن تركها كانت عليه.
وتعيدنا الشاعرة إلى التاريخ، إلى زمن الأسطورة، وتقربنا من القرآن الكريم أيضا:
يا عنات
أعيديني إلى سيرتي الأولى
أنثريني أمامي
لملميني
وفي ذاتي دثريني
لا غيث “إنكي”
في زمن كهذا
من قحط
يقيني” ص(114)
فالشاعرة تريد أن تأخذ مكانتها في المجتمع كما الربة الكنعانية “عنات” أخت الإله “بعل” وأكدت هذه الدعوة من خلال التناص مع الآية القرآنية من سورة طه” التي جاء فيها “قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ”، فهنا الآية تخدم الفكرة التي طرحتها الشاعرة، وكأنها بهذا التناص تريد أن تجعل دعوتها ـ أخذ مكانتها الاجتماعية كاملة ـ دعوة مقدسة، دعوة من الله، من التاريخ، من التراث، من الأسطورة، فهي تجمع كل العناصر لتضفي شرعية وقوة لما تريده، وعندما جاء استحضار الإله “إنكي” رب المياه العذبة وإله الحكمة عند السومريين، أرادت بذلك أن توغلنا في التاريخ لكي تدفعنا بقوة إلى الأمام، إلى فكرتها، من ضرورة أن تأخذ مجدها السليب.
وللأم مكانة خاصة عند كلّ منا، فالشاعرة تتحدث عنها في أكثر من قصيدة كما هو الحال في قصيدة “آلهة” التي تبدأها بهذا المقطع:
حين كانت أمي ترتق الوقت بخيط صبرها
وتهيل على الوجع تراب قلبها (ص30)
فعلى الرغم من أن هذه القصيدة تتحدث عن الأم وعن أعمالها، إلا أنها تخصها بقصيدة تحدثنا عن مشاعرها، وعن علاقتها الروحية بأمها، وكأن الشاعرة ما زالت تلك الطفلة التي تحن إلى طفولتها وإلى لمسة أمها أيضا، هذا ما جاء في قصيدة “دفء”:
تمر يمينك على جبيني المحموم
تضعين رأسي على حجرك
تقرئين المعوذتين
وبعض التراتيل
في يدك الأخرى رشة الملح
تنثرينها على جمر الكانون وتشهقين ثلاثا…
“ملحة بعين الي شافك وما صلى على النبي” (ص33)
الحنين للأم، الحنين للماضي وما فيه من بساطة، في التفكير، وفي أخذ مسببات الأحداث، والبساطة في علاج المشاكل، بعيدا عن التعقيد، كل هذا يخدم فكرة الأم البسيطة التي تتعامل بسلاسة وسهولة، وعندما أسمعتنا صوتها في المقطع الأخير كانت ترينا ردة فعل الأم على من ألحق الضرر بابنتها، فهي لا تريد له الموت أو الشر، بل فقط أن يتعلم من أخطائه، وعليه ألّا يعود هذا الخطأ مرة أخرى، فالملحة غير مضرة/ مؤذية، لكنها تؤلم بعض الشيء.
الديوان من منشورات مكتبة كل شيء، حيفا، الطبعة الأولى 2017.