صَندل أعمى
ــــ “خَيْطَا جَزمَتِي الرّياضية ثُعبانانِ طَويلان، سأُدخِل رأسَيْهِما في الثقوب الاثني عشر وأشُدّ كلّ واحِــد منهُما مِن ذَيلِهِ وينتَهي الأمر، وأكـــون جاهِزة للفُسحـة الصّباحية” تَقول حفيدتي وهي تهم بانتعال جَزمتها الرياضية الجديدة.
ــــ “طَقْسُ الرّكض غدا وَجبتَها الصباحية الشّهية، تَأكل مِنها قبل الطّعام” تقول الأم مُعلِّقةً.
ــــ “لا تَبتَعدي بُنَيَّتي، اُركضي في الجِوار” يقول الأب مُحذّرا.
ــــ “أنا جزمة مجنـــونة، أريد أن أركض، أحبّ الرّكض” تنطق الصبية متكلمة بلسان جزمَتـها وهي تداعبها. هكذا سمعتهم في ذلك الصباح بينما أنا منهمك في صراع ضارٍ مع فطيرة ألوكـها بفمي الأدرد على مضض.نعم، هكذا تحدثوا بالضبط.
أنا الآن أجر عكازتــي، رفيقتي العظيمة، وأزحف بها في هذا العراء، مصحوبَيْن بحزننا البـــاذخ الذي لا يشيخ. أسير الهوينـى، أزحف لأمرن قدمي على المشي نكاية بالهرم. وأنا في مسيـري حدثنــي الخلاء.
حدثني ذاك العراء الممتد كأنه عمري، وعاد بي إلى ذكرى حفيدتي الذابلة الآن كورقة خريفيـــة.
قال لي الخلاء أيها الكرام إن الجزمة الرّياضيّة الوَرديّة مرت من هنا، وهي في بهاءِ ألَقِهــا، أغرتـهــا الطريقُ المُستَوية بالوَثب اللذيذ. بِخفة متصابية، وفي انخِطاف سامِقٍ، طَوَت مسافاتٍ طَويلة، حتّى نالَ مِنْها التّعَب. توَقّفت للاستِراحـــة، سكنت قليـلا على قــــارعة الطريق المقفــرة. وَهِي علـى تِلْكَ الحال، والشّمس تتسلّق بأشعتها كَبِد السّماء، مرّ بها صَندَلٌ هزيل يركل الأرضية الطينية بصَفيق مجنون. كان يبحـث عنِ الارتـواء وقد جف حلقه بالغبــار. توقف أمامَ طَيْفِها كالمسمار، وَقَدْ ظنّها مُجرّد سراب، لَم يُصــدّق أن يختلي بِجزمــة أُنْثويّة في هذا العَراء المُمتَــدّ. ظَلَّ يبادلهــــا النظــرات بعينيـن جانبيتيـــن عمياوين، وفـم مفغــورعن آخره، يطل منه لســان الأصبــع الأكبـر، وأسنان قذرة تمثلهــا الأصــــابع الأربعـة الأخرى الشاحبـــة، ويضبــطه من خلف حزامٌ جِلـدي رفيعٌ يلفّ أسفــــل الكعب. الجزمـة الرياضية تتفحصه، تَقرأ نوايا الصّندل بعيون ثقوبِها الاثْني عشر، في ريبة وتأهب.
لا شك أنكم أيها الكـــرام حدَستم أن الصندل اللعيــن انبهر بالجزمة الأنثويـة، وفتنـــه اللون الوَرديّ. نعم. هذا ما قالـــه الخلاء. لقـد داهمته رغبــة شبقة. وَدّ لو يفترش تلك الفروة الجلديــــة النـــاعمة، ليُطفئ فيهــــا وَجَعه الأبدي. حينها قامت الجزمة مُتوجّسةً، تسيـر بِخُطــى سريعــــة، وهي ترسم على الطريق الطينية القـــاحِلة شبكة من المربعات تبدو كقُضبـــان متقاطعة مجنونة، يتوسطها الرقمُ 37. يقتفيهــا الصندل الأعمـى، يرسم على آثارهـا المنسوخـة على الطين، ظلالَ إطاره العريضة. إطـــار النّعل أمْرَد سميــك بلا زخرفة ولا رقم مَقـــاس. تضرج السيّدُ الصندَل بِعرق الغبار، طــالت رحلتــه الحثيثــــة خلف الآنِســة الجزمة الرشيقـــة. رفعتِ الإيقاعَ وبدأت تطوي الريــــح عدوا، وكذلـك فعــل الصّندَل. يعلو فــي الهــــــواء، يغــوص في الطين، يَتَعفّر، برتـابة سريعة؛ طّبّْ طّــــاب سْطَاابّ طّااب.. أنفــاس مُتَلاحِقــة، لهاث مُقفَّى بِحشْرجة حيوانية، يسـابق الجزمة. وَهِيَ مـارقة في ذلِكَ الخَلاء. طالت حلقـــاتُ الركض. المسافة بين الحذاءين لا تتغير. الجزمة تتلاحق أنفاسُها، وترتج في جوفها الأصابع الناعمة..
في لَحظة خائنة، وليتها ما كانت أيها الكرام، انفكّ خيطُ الفردة اليسرى كما ثعبان خرج للتو من نظام الانطواء، وبدأ يطلق عقدته، ينسلّ بين كل ارتقاءة وانخفـــــاضة. صار يراوغ الفردة الأخرى، يُشاغبها بِطُولِهِ، إلى أن وطئته، هصرته، فتداعت الفردتان، تَقَلْقَلَتا في الهَواء، والتَقَتَا على وقْعِ فُقدان التوازن في كَبْوةٍ مُريعة. سَقَطَتِ الجزمة ولَفّها الغبار.
الصندل يخفض السّرعـــة، وعين الخـلاء والشمـس معـا تصورانه بالعرض البطيء. يلقي الأثرُ يغتصِب الأثر. بلهـــاث الانتصار، يَدوسُ على آخر آثـر مزَخرَف حامِلٍ رقم المقاس مَقلوبا… الصندل الأيسر يغطي الجزمـة اليُمْنــى وقد ارتقـــى فَوقَها فـاغِرا فـاه ضاحكا وعيناه المسمولتان تذرفان دمع لذةٍ أدركها أخيرا وقد حُرمَ مِنها حِرمانَ بَني نعل عليهم اللعنة.
أمـّا الجزمـة اليسرى أيهــا الكرام، فها أنا أعثر عليها الآن وَقَد انْطَمَرَ رأسُها في التراب، و أسْفَلُها ظلّ مَكْشوفا، عارٍ، وهو الذي لَمْ تَرَهُ عَيْنُ الشّمْس مِنْ قَبْل. أنفضُ عنها التراب. أنظر إلى رقم مقاسها ولا أجده.
مريرت .. المغرب
نونبر 2016