عن بودلير وأمّه، وأمّي، وأمّهاتنا جميعاً
من مدونة الكاتبة الدكتورة عزة طويل
https://azzascreativeblog.wordpress.com/2020/06/05/%d8%b9%d9%86-%d8%a8%d9%88%d8%af%d9%84%d9%8a%d8%b1-%d9%88%d8%a3%d9%85%d9%91%d9%87%d8%8c-%d9%88%d8%a3%d9%85%d9%91%d9%8a%d8%8c-%d9%88%d8%a3%d9%85%d9%91%d9%87%d8%a7%d8%aa%d9%86%d8%a7-%d8%ac%d9%85%d9%8a/
لفتني مؤخّراً مقالٌ للكاتب والناقد والمترجم العزيز أنطوان جوكي حول شارل بودلير وعلاقته بأمّه التي صنعت سوداوية قصائده ولا سيما “أزهار الشرّ”. تزامن هذا المقال مع جملةٍ سمعتها في سياقٍ مختلف تماماً، من أبي الذي قال لي: “الأم هي التي تربط الأسرة وتحيك خيوطها فتجعلها متماسكة، الأب ليس له سوى دورٍ صوريّ، سترين وستدركين“.
حين قال أبي ذلك تخيّلت عنكبوتاً. لم أرَ أمي.
قرأت مقال جوكي باهتمام، فالعلاقة بين بودلير وأمّه لم تلقَ الضوء الذي تستحقّه ولم يُكتب عنها ما يكفي بالرغم من كونها علاقةً تفسّر الكثير عن الشاعر ونتاجه الأدبي. تزوّجت كارولين بعد وفاة زوجها الأول وعاش بودلير متنقّلاً في فرنسا مع عائلته الجديدة التي لم يتقبّلها قطّ. ثم حاول الزوجان إرساله إلى الهند لكنه لم يكمل الرحلة وعاد إلى باريس. وعلاقة شارل وكارولين هي “التي صنعت سوداوية عبقريته”، وهي أيضاً “مصدر كآبته“. لم يتمكّن بودلير من تخطّي انفصاله عن أمّه حتى مماته، وكانت كل رسالةٍ منه إليها ترزح بكمّ هائلٍ من المشاعر ومن اللوم المباشر. ثم انصرف الشاعر الشاب إلى تعاطي الأفيون والكحول ليصاب بعدها بجلطةٍ دماغية أدّت في النهاية إلى وفاته. تبعته أمّه بعد أربع سنوات، عن 77 عاماً.
تنبّهت فجأة: هل كان أبي يقصدني حين قال هذه الجملة عن الأم وقدرتها على حفظ تماسك العائلة؟ نوعٌ من التنبّؤ بالمستقبل ربّما لينبّهني من خلاله أن في يدي أنا تماسك أسرتي؟ مازلت كلّما قال أبي شيئاً أحيله مباشرةً إلى علاقته بأمي قبل أن أتنبّه إلى أنني أيضاً صرت أماً وأن الكلام قد يكون موجّهاً إليّ. أبقى ابنةً أمام أبي مهما كبُرت وكأن عقلي يرفض أي واقعٍ آخر. كيف إذا كان هذا الواقع الجديد يقضي بأن أصبح عنكبوتاً تُسند إليها[1] مهمّةٌ مثل حياكة خيوطٍ أكثر صلابةً من الفولاذ؟ كما أن أمي لم تأكل أبي كما تفعل عناكب كثيرةٌ بعد التزاوج، ولم نأكلها نحن كما تفعل العناكب الصغيرة أحياناً فتقتات على أمّها في أحد أكثر أشكال الأمومة في الطبيعة تطرّفاً[2]. مع العلم أن أمي تردّد دائماً: “ما بيكبر الولد لتنمحي إمّو“. تقولها بالكثير من الإيمان بمضمونها بحسب ما تشعر به شخصياً وبرفضٍ تام لتقديس الأمومة[3]. تعاودني في هذا السياق صورة انتشرت مؤخراً على الإنترنت تُظهر أماً ببطنٍ مجوّفٍ وابنها إلى جانبها وقد اكتمل بطنه من خلايا بطن أمّه. صورٌ مثل هذه تحظى بمشاركةٍ واسعةٍ جداً وتلقى حماسةً شديدةً من قبل الكثير من المتلقّين الرّاضين بصورةٍ تخلّد خلاياهم عبر الأجيال، لكنها تصيبني أنا بالإحباط. هل هذه الصورة تعبّر فعلاً عن الواقع؟ عن واقع البشر أتكلّم طبعاً لا عن واقع العناكب!
أعدت قراءة مقال جوكي مراتٍ عدّة (وهو في المناسبة حول كتاب “سيناريو بودلير” الصادر حديثاً في فرنسا والذي يتخيّل فيه الكاتب جان بافان سيناريو “فيلم خيالي لمقاربة هذه الروابط (بين بودلير وأمّه) كما اختبرها… أي كلحظات ألمٍ وخيبة”). قرأت لأبحث عن أي إشارةٍ إلى الخيطان فيه، أو إلى ابنٍ أكل أمّه أو إلى أمّ أكلت زوجها. إنها مصادفة أن يقع نظري على المقال في هذا التوقيت بالذات جعلتني أهجس بالعناكب هكذا.
“لن تتمكّنين من العيش بعد موتي. أنا الشيء الوحيد الذي يبقيك حيّة“. هكذا قال بودلير في إحدى رسائله إلى أمّه. وعدها بأن تكون حياتها مرتبطة بحياته، ووعدها بألمٍ لن تتمكّن من العيش بعده، لعلّه يعيد إليها بعض الألم الذي سبّبه انفصالها عنه (بحسب إدراكات الطفل ذي السنوات السّت الذي كانه حينها). ومات. 40 عاماً قضاها يتألّم لهذا الانفصال ولم تظهر أي فسحة أمل لإنهاء العذاب إلى أن سكنت روحه إلى الأبد. سيطرت كارولين على كامل حياة ابنها بما في ذلك إرثه وماله (الذي أنفق نصفه بزمنٍ قياسي) فثأر بأن حاول السيطرة على حياتها من بعده. في النتيجة أكلت الأم ابنها من دون قصدٍ ربما، فخرج من بطنها ليأكلها. نعم تبدو هذه الصورة أصدق تعبيراً عن واقع البشر إذا ما جرّدناه كلياً من الشعارات.
لم تتمكّن إذاً أم بودلير من حياكة خيطان أقوى من الفولاذ تحافظ فيها على تماسك عائلتها التي غادرها الشاعر غاضباً لكنها رغم ذلك حاكت خيطاً لا مثيل لمتانته جعل ابنها يرتبط بها إلى الأبد. هذا الخيط اسمه الانفصال. وهو خيطٌ كلّما جرح الطفل بشكلٍ أعمق، كلّما ازدادت قسوته ومتانته، فيصبح الجرح أعمق، فتزداد القساوة، فهكذا، في دوامة من الحبّ والفقدان والكره والوجع لا فكاك منها.
وأنا يا أبي لم أعد أؤمن بالخيطان، ولا بأمّ عنكبوت ولا بقدراتي الخارقة. أؤمن فقط بالحبّ، وبالكثير من جلسات العلاج لنتقبّل أكثر كوننا بشراً بدون رتوش.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تأنيث العنكبوت مقصود هنا
[2] هذا ما جعل صورة العناكب مرعبةً هكذا في أذهان البشر بالرغم من أن العناكب نادراً ما تكون خطرة على الإنسان
[3] لأمي آراء في موضوع الأمومة شكّل بعضها مادةً لنقاشاتٍ حادّة بيننا أحياناً وثريّة دائماً، وهي تعرضها في كتابٍ جديدٍ صدر للتوّ عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بعنوان: “صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر“، وسيصبح متاحاً في الأسواق ابتداءً من الأسبوع القادم ويمكن طلبه عبر الضغط على العنوان.