فوائد النميمة
— يعد هذا المقال ضمن المقالات الشهرية التي تكتبها الكاتبة “هناء نور” في جريدة أخبار الناس
لو وضعت النميمة في أقراص، فهل تصنف كأدوية مخدرة، أم مهدئة، أم منشطة.. أم مسكنات.. أنا أرى فيها كل ذلك..
كنت أتساءل حول اهتمامي بالنميمة وما يثيرني فيها، هل تسلية، أم فراغ، أم أن وقتي ليس غاليا فأضيعه في الاستماع عن الآخرين.. أم أنني ممتلئة بالأحقاد دون أن أدري؟!
يقول محمد شكري “قليل من الحقد ينشط الدورة الدموية، لكن الكثير من الحقد يحرق كل شيء” أي أن شكري يرى في الحقد الذي هو أحد أسباب النميمة فائدة صحية إن لم يزد عن معدله الطبيعي..
يرى بعض علماء النفس “أن النميمة تشعر الإنسان بالثقة ” إذ إن أحدا لن يحكي لك أسرارا ما لم تكن محل ثقته!
صدقت هذه الفكرة؛ حتى حكى لي صديقان مقربان في أسبوع واحد حقيقة علاقة ممثلة شقراء من نجوم الصف الأول بأبيها..
وتلك القصة مثيرة للحزن والاشمئزاز معا؛ فجرائم الاغتصاب الأسري مازالت تدهش المستمع رغم تكرارها..
ومن الغريب أيضا أن النجمة اللامعة لا يشي وجهها الضاحك دوما بجرم والدها.. وكانت تحكي للجمهور قصة تقليدية عن أب غيور.. كان رافضا لدخولها الفن بدافع الخوف الأبوي من هذا العالم الموحش!..
تساءلت حول الصديقين.. هل يعرفان بعضهما.. ترى هل قص أحدهما على الآخر هذه الحكاية.. ثم انتقلت لي.. هل يثق الاثنان بي إلى درجة سرد قصة غير متداولة علي؟!
هل وثقت هذه النجمة بهما فقط، أم وثقت بالكثيرين، واعتبر الكثيرون سرد حكايتها مسألة عادية؛ لأن الإنسان إن لم يستطع الاحتفاظ بسره، فليس عليه أن يلوم من لم يحتفظ بأسرار غيره!
النميمة تعبر عن المثل القائل “اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته”
وكان هذا من أهم أسباب إثارة الحكاية لي.. لم تكن علاقتي بأبي جيدة.. لكن حروبه كانت معنوية ولم تمتد يده نحوي بسوء في يوم ما.. فكرت كثيرا كيف تحملت فنانة على قدر كبير من الإحساس حربا مادية ومعنوية واستطاعت رغم ذلك أن تحقق نجاحا واضحا كما الشمس وتنتصر للحياة؟!
ولم أتوقف أيضا عن السؤال الأهم من وراء الحكاية: إلى متى يتستر الضحايا على المجرمين في هذا العالم؟!
النميمة تصبح إبداعا لمن يمتلك فن الحكي..
والحكي موهبة نادرة.. تحول الثرثرة إلى دراما متقنة الحبكة.. والحاكي إن كان عظيما يستطيع أن يعيشك في قلب الحكاية فتؤثر فيك أحداثها وقد تضحك وتبكي مع أبطال القصة بصدق..
النميمة إبداع آخر من خلال الكتابة..
السير الذاتية الشهيرة مليئة بالحكايات.. والنميمة على الذات وسيلة للتحرر من عبء الخطايا وثقل الأسرار على الروح..
في “اعترافات جان جاك روسو” كتب عن أدق أسرار طفولته ومراهقته بما فيها السرقة، والتبول في أحواض زرع الجيران.. كان روسو يرى أنه يقدم كتابا دقيقا لا يترك هفوة؛ حتى يقابل الله به مطمئنا بصدقه..
“غاندي” المتصوف الأعظم في سيرته “تجاربي مع الحقيقة” اعترف بسرقاته للخدم من أجل شراء سجائر.. وخمور.. وأكل اللحوم التي تحرمها ديانته الهندوسية.. كما حكى عن أدق أسرار زواجه في طفولته.. وكم أصبح قريبا بسببه من شبق كاد يدفعه في وقت ما إلى السقوط في فخ تجار الدعارة؛ لولا أن الله نجاه في الوقت المناسب!
“أوبرا وينفري” في سيرتها” أنا لا أعرف الفشل” حكت عن تعرضها للاغتصاب في طفولتها.. ذلك الزلزال المادي المعنوي الذي كان من الممكن أن يقضي على حياتها.. لكن أوبرا أدركت أنها الضحية وليست المجرم.. فاستطاعت أن تقاوم وتنتصر للحياة.. وتجذب انتباه العالم بصمودها وقدرتها على النجاح..
“فيلليني” في سيرته “أنا فيلليني” حكى عن خياناته المتعددة لزوجته التي كانت حبيبة وزوجة وخير صديقة له حتى النهاية..
النميمة على الآخرين والتحدث عن نقاط ضعفهم.. محاولة للظهور بنفس معصومة من الوقوع في الأخطاء!
هذا ما فعله هيمنجواي في كتابه الأجمل (في رأيي) “باريس وليمة متنقلة “وربما يفسر هذا تكرار هيمنجواي لنصيحته الشهيرة “إياك أن تحكي أسرارك لصديق!”
فضح هيمنجواي صديقه الأقرب “سكوت فيتزجيرالد” كاتب” جاتسبي العظيم” وأطلق عليه أحكاما أخلاقية مجانية.. فحين اعترف له فيتزجيرالد بكتابته للكثير من القصص “من أجل أكل العيش لا أكثر” قال هيمنجواي في هذا: “إن الكتابة بهدف غير الإبداع قبل أي شيء آخر لا تقل عن جريمة الدعارة” رغم أن هيمنجواي نفسه اضطرته الحاجة للمال لكتابة الكثير من القصص!
حكى أيضا عن عشق فيتزجيرالد الجنوني لزوجته “زيلدا” الكاتبة والرسامة والسباحة.. ووصفه بنقطة الضعف الأكبر لفيتزجيرالد.. وحذر هيمنجواي صديقه من زيلدا التي كان يراها تغار من نجاحه وشهرته.. وتسعى لتحطيمه؛ بإغراقه في شرب الكحول.. والسهر خارج البيت.. كما أنها كانت تحاول التشكيك في رجولته.. وتخبره بأن امرأة غيرها لن ترضى أبدا به!
تنبأ هيمنجواي أيضا بجنون زيلدا فيتزجيرالد.. وبالفعل دخلت زيلدا مصحة الأمراض العقلية.. لتقضي ما تبقى من عمرها بين جدرانها حتى الموت..
“جيرترود ستاين” المثقفة الأمريكية كانت تقيم صالونا ثقافيا في باريس واشتهرت بحبها للفنانين ودعمها لأصدقائها معنويا، وماديا لو تطلب الأمر.. وكان هيمنجواي من أقرب الناس لها.. وكانت تحاول تخليصه من كراهيته للمثليين .. وعشقه الزائد لزوجته “هادلي” وحاول هيمنجواي مراجعة تفكيره بخصوص المثليين.. حتى اكتشف بالصدفة ميول “جيرترود ستاين” الجسدية نحو الحيوانات.. فتخلى عن الفكرة، وقطع صلته بستاين وهو يردد “إن علاقة الرجال بالنساء العظيمات لا تستمر طويلا!”
النميمة سهلة؛ لأننا نفضل الاستماع على التفكير!
تثار نميمة عالمية من حين لآخر حول المخرج “رومان بولانسكي”
تتكاثر الأقاويل حوله من داخل الأوساط الفنية وخارجها مع صدور بعض أفلامه.. فبعد صدور فيلمه “عازف البيانو” الذي نال عنه الأوسكار.. أثيرت حوله اعترافات بعض النساء بتحرشه بهن.. وإحداهن قالت إن “بولانسكي” اغتصبها وعمرها 13 سنة..
ومؤخرا وبالتزامن مع صدور فيلمه “ضابط وجاسوس” الذي يناقش “قضية دريفوس” ظهرت قضية جديدة تتهمه فيها مصورة فرنسية باغتصابه الوحشي لها قبل 45 سنة.. ونفى بولانسكي التهم الموجهة إليه قائلا “يريدونني أن أبدو كوحش”
في أحدث حوارات “كيت وينسلت” قالت إنها نادمة على العمل مع رومان بولانسكي بعد ظهور تهم التحرش والاغتصاب ضده.. ورغم أن وينسلت عملت مع المخرج ولم تر منه أذى.. إلا أن تصديق المسموع عنه كان يسيرا عليها!
ثمة سؤال آخر يطرح نفسه من خلال تلك الأزمة: لو أن رومان بولانسكي لم يتجرأ على فتح ملفات اضطهاد اليهود من خلال أفلامه السابق ذكرها.. هل كنا سمعنا شيئا عن جرائمه؟!
لعل أهم فوائد النميمة على الإطلاق طرح التساؤلات وتجددها..