لماذا ماتَ أبي؟
تُخطَفُ أرواحٌ كلّ يومٍ من على مسرحِنا و تُنفَخُ أخرى..
أحياناً يستعيدُ المخرجُ الأجسادَ المعطّلة و أحياناً أخرى يخبطُ خبطَ عشواء , لا أحدَ يعلم كيف أُقحِمَ فجأةً على أرضِ المسرحية و لمَ عليه أن يغادرَها , كلٌّ يحاولُ أن يؤدي دورَهُ كما يُملي عليه الآخرون أو الأولون و إن كان شجاعاً يستَفتي قلبَه…
جاءني ذاك الاتصال المشؤوم في إحدى الصباحاتِ لينقلَ لي خبر وفاةِ أبي , ليتَني أقصّ من ذاكرتي تلكَ اللحظة , كانت الأسوأ , هويتُ من بعدها في بئرٍ عميقٍ من الأسئلةِ و الأحزان مع أنّني قمتُ متصالحةً مع موتي و موت سلالتي لكنّني إلى الآن أحبسُ غصّتي و أتساءل “لماذا ماتَ أبي؟”
عشتُ تجربَتَهُ بحلوها و مرّها إلى أن أدركتُ أن موتَهُ كان طلقة الرحمة التي خلّصته أخيراً, لكن ذلكَ اليقينَ لم يفكَّ حبلَ الحسرة المُمسك بعنُقي ” لكن لماذا تألّم أبي ؟” , وَجدتُ أو بالأحرى أوجدتُ أجوبةً مُقنعةً أثلجت حاجَتي الحمقاء إلى ربطِ كل ما يجري حولي بمنطقٍ أرسطي رياضي , لكنّ يبدو أنّ طفلةً في داخلي لم تنضج و لن تستطيعَ أن تتقبّلَ ذلك الفقدان…
كنتُ في الماضي أتعامل مع ملائكةِ الحياة , أستدعيهم و أنا أكتب , نتحاور أحياناً و أحياناً أخرى نتراقص , انضمَّ إلى الجوقةِ الآن ملائكةُ الموت , أصبحوا أصدقائي , كلّما قصّرتُ في حقِّ الحياة رفعَ أحدهم سوطَهُ و ضربَ الأرضَ مُهدّداً , مع ذلك لا تكملُ الأرضُ دورةً واحدةً حول نفسها دونَ أن أغوصَ في السؤالِ مجدّداً عن سبب موت أبي , أحياناً أشعرُ به يتبسّمُ لي من البعيد فأتبسّم , و أحياناً أخرى يكون المشهدُ مُظلماً فأبكي…
ما تأكدتُ منه الآن هو أنّ ملائكة الموت و ملائكةَ الحياة تقومُ بعملِها على أكمل وجه , اليوم تحديداً استيقظتُ على صوتِ بكاء المولودِ الجديد الذي وضعتهُ جارتُنا فاطمأنَّ قلبي , إنّ لاعباً جديداً نُفِخَ على أرضِ المسرح , أتمنى أن يجدَ الطريق إلى دورِهِ دونَ الكثير من الآلام , علّهُ يكون بطلاً و يضيفُ على مشهدِنا مسحةَ أمل , أو كاتِباً يبشّرُنا بغير كلام , تخيّلتهُ رسّاماً يلوّنُ عالمَنا المُهترئ من فرطِ الحقدِ و الحروب , أو حتى راقصاً ينقذُ المسرحية من روتينِها اليومي , تخيّلتهُ موسيقيّاً يضيفُ ايقاعاتٍ مختلفةٍ على أرواحِنا , تخيّلتهُ أبي يحملُ ما حصّلهُ من وعيٍ و يعودُ ليصارعَ الحياةَ من جديد, ارتسمَت ابتسامةٌ طويلةٌ على شفتي و أنا أسلّم نفسي راضيةً لملائكةِ النوم.