مبادرة “بدّي كتاب” وتحريضها على القراءة الواعية
ما أبسطه وما أعمقه من شعار “بدّي كتاب”، لعله مقتطف من آمال القرّاء الشّغوفين بالقراءة لاستجلاء المعرفة، لينقادوا إلى أبهاء العقل الواسعة الممتدّة، ليزدادوا اتّساعا ويقينا، يقهر الضّيق والشّك اللّذين ملأا فضاء النّاس وأرواحهم، وعقولهم الخاوية إلا من رحم الله ممّن ارتضى القراءة منهجا وموجّها، ذلك هو الهاجس الأوّل الّذي قفز إلى ذهني عندما دعيت إلى مجموعة هذه المبادرة “بدّي كتاب” والانضمام إلى المجموعة الفيسبوكيّة
تختطفني المجموعة من بين العديد من المجموعات التي يزجّنا بها الأصدقاء الافتراضيّون رغما عنّا، فكم رفضت الدّخول والاندماج والمشاركة في مجموعات فيسبوكيّة كثيرة، وخرجت منها متأفّفا، نزقا، ضجرا، ولكنّني مع مجموعة “بدّي كتاب” أقبلت عليها بشغف الجائع العطش، فقد كانت تحاكي ما في النّفس من شوق وحبّ وعلاقة مستمرّة للقراءة واقتناء الكتب منذ كنت على مقاعد الدّراسة، إلى درجة أنّني “استوليتُ” على بعض الكتب التي استعرتها من مكتبة المدرسة، وأنا طالب في الصفوف الإعداديّة، كما كنت أضنّ بالمقررات المدرسيّة فلا أعيدها للمدرسة، وخاصّة كتب اللغة العربيّة.
أعجبتني فكرة “بدّي كتاب”. فقد كرّرت هذه الجملة في حياتي آلاف المرّات، كلّما دخلت مكتبة أو وقفت عند “بسطة” لبيع الكتب. فصرت أتابع لحظة بلحظة كلّ تلك الجهود التي تبذلها إدارة المجموعة، ولا أخفي سرّا لو قلت إنّني تعرفت على أسماء كثير من الكتب، لاسيّما مؤلَّفات الجيل الجديد، ولاحظت أمزجة القرّاء الجدد إلى أين تتّجه، فتعرّفت على كتاب “في قلبي أنثى عبريّة”. هذا الكتاب الذي ظللت أردّد كلّما قرأت عنه أو علمت أنّ صديقا افتراضيا قرأه “بدّي هذا الكتاب”. كتب كثيرة غير هذا قرأت عنها وتذكّرتها، وكنت قبل ذلك قد قرأتها، “قواعد العشق الأربعون” و”حليب أسود” و”عالم صوفي”.
وما زاد قناعتي واندماجي في هذه المجموعة أنّها لم تكن مجموعة فيسبوكيّة افتراضيّة، تتحرك في فضاء مفتوح أزرق وحسب، بل كان لها وجود في واقع القرّاء وحياتهم، فقد جاءت هذه المجموعة وهي محمّلة بالكثير من الأفكار، ولعلّ أهمّها “إقامة معارض كتب متنقّلة” بين النّاس وبين الجمهور العريض الكبير والمتنوّع؛ كما حدث في النّشاط الّذي نفذّته المجموعة في معرض فلسطين الدّولي للكتاب الأخير، ومعرض الكتب الّذي أقيم لمدة أسبوع في مدينة رام الله. ولذلك فقد سارعت عندما علمت بهذا المعرض إلى تزويد المجموعة بنسخ من كتبي لتكون متاحة لمن أراد أن يتعرّف إليّ، إذ إنّ هذه المعارض لم تكن معارض لبيع الكتب وإنّما كانت تقوم على فكرة “خذ كتاب، وهات كتاب”. إنّ فكرة تداول الكتب بين القرّاء لهي فكرة إبداعيّة ذات مدلولات ثقافيّة واقتصاديّة كذلك.
ومن الأفكار الإبداعيّة الّتي بادرت المجموعة إلى تحقيقها على أرض الواقع معرض الكتاب الّذي أقيم مؤخرا في مدرسة “علماء الغد الإسلامية” في كفر عقب (ضواحي القدس)، وقد دعت إليه المجموعة نخبة من الكتّاب والكاتبات، وكان لي شرف المشاركة في هذه التّظاهرة الثّقافيّة المهيبة، ومن إيجابيّات هذا النّشاط الثّقافيّ التّواصل مع الجيل النّاشئ المقبل على الحياة؛ وأقصد هنا طلاب المدارس، وقد لاحظت اهتماما ملحوظا من إدارة المدرسة والطاقم المشرف على المعرض ومن الطّالبات وإقبالهنّ على الكتب واقتنائها، ومحاورة الكتّاب والكاتبات والتعرّف إليهم وجها لوجه، وهذا ما كان جيلنا يفتقده، إنّ هذه الفكرة كفيلة بخلق دوافع كثيرة وحقيقيّة وعمليّة لتنمية مواهب الطّلاب الإبداعيّة، ورعاية أحلام الموهوبين ليصبحوا كتّابا يوما ما.
الفكرة تستحق الرعاية والاحتضان، وتستلزم من الجهات المعنية والكتّاب كذلك الوقوف إلى جانبها وتشجيعها لما لها من أثر تنمويّ متعلق بالتّنمية المستدامة والتّنمية البشريّة، فلم تكن الثّقافة يوما بعيدة عن الاقتصاد، بل إنّها داخلة في صلب “اقتصاد المعرفة”، فإذا أردت أن تنشئ جيلا وحضارة فابن مدرسة، والمدرسة ليست بحجارتها ومرافقها على أهميّتها، وإنّما بدلالتها الحضاريّة المرتبطة بالكتّاب، فلا معلم ولا طالب ولا مدرسة دون أن يكون هناك كتاب، ولعلّ طلاب العلم يستغنون في مرحلة من مراحل حياتهم العلميّة عن المعلم والمدرسة، ويكتفون بالكتاب معلما أبديّا، ولذلك سيبقى طالب العلم الحقيقي يردّد “بدي كتاب” ولن يملّ من أن يستلذّ بهذه الجملة عند شعوره بحاجته للارتواء من المعرفة لقهر الجهل والتّخلف والتّعصب والإرهاب والدّيكتاتوريّة بأشكالها كافّة، فهنيئا لمن يعطون للحياة معنى حقيقيّا، وتحيّة كبرى لمثل هذه المبادرة الإبداعيّة الخلّاقة، وللقائمين عليها، وخاصّة النّاشطة الثّقافيّة الشّابّة الطّموحة “إنصاف جبران”.