مرثية الجدار الأخير
جمال الجلاصي – تونس
إنّنا لا نستطيع أن نحبّ مكانا ما لم نتألّم فيه.”
هنري ميللر
كانت الأرض كرحم العذراء،
والبحر فحلا،
لمّا ينبت الزغب الطّريّ على ساحليه، كيما يعرفه الاشتهاء،
حين جاؤوا من المستحيل.
صنعوا فساتين زوجاتهم أشرعة وأضلعهم سفنا،
وذرعوا البحر عنوة في العواصف
وأمعنوا في شبق الملح حتى ليسمع من الزبد البكاء…
جاؤوا يتقدمون في غبار الموج
يجرح حناجرهم حديد النشيد:
“لأجلك يا قرطاج
تركنا البيت الجميل
وأواني الزهر والنساء
تركنا شجر الغار وحيدا
في الجبال،
لأجلك يا قرطاج”
وحدهم،
حكموا أيّامهم، هجّروا القفر من الأراضي،
أجروا أنهارا من الصخر بأظافرهم
وابتكروا الخصب من قمحة واحدة.
وحدهم،
كتبوا لك الحجارة قصورا ومعابد
غزلوك من صوف حكمتهم
ومن سباسب أحلامهم،
نسجوا لك الخرافة أردية من حريق
ومن صليل سيوفهم
وصهيل خيولهم هربت نوميديا
إلى الكهوف ونامت في الوبر…
قرطاج:
سيّدة من نهار وشمع
معجزات الوجود من الأصداف إلى رجال يصّاعدون الجبال لينحتوا آلهتهم.
مزق جلد ثور
قنديل زيت/ موجة صدئة
تاج من زبد
زلزال في غمامة قرطاج.
قرطاج أعمدة تحاول ألاّ تقتفي أثر الرمل
وألاّ يطالها الاهتراء
ودنان خمر أعياها انتظار الشاربين
وأقواس نصر أعيتها الهزائم والانحناء.
وذكريات لم نعشها، يرويها البحر لنا،
لنحكيها أطفالنا كي يناموا
ويروك في أحلامهم أحلى:
قرطاج العروس الحالمة على شاطئ المتوسط
وفي كفّها تشهق الحنّاء…
بنوك ثم غابوا
كأن لم يكونوا هنا
منذ حين.
كأن لم يُرَ لمخابزهم دخان
ولم يُسمع لحمامهم هديل
ولا لماعزهم ثغاء.
كأن لم يحرس قمر من سماه سفينة “صور”
يحدوها إلى أرضك الاشتهاء…
بناك المطرودون من الجسر الخشبي للتاريخ،
المحفوفون بالليل ذاته
وبالصحراء ذاتها.
حاولوا ابتكار أزهار جديدة
وألوان زاهية في نسيم الصباح
لكنهم تركوا خطوطا على الرمل
محاها الموج…
وغابوا.
عروس الحرائق
امرأة البدايات المحكومة بالموت
أيتها الكفن الذي ينجب الآلهة.
ها نحن نجول على الأرصفة
ونلعق زيتك المراق على الموانئ
ونموء، ن.م.و.و.و.و.و..و..ء
يا قرطاج!!!
ها نحن انتقلنا من قراصنة إلى عتّالين،
وانتقلت من نشيد بحري
إلى كتاب للمطالعة…
قرطاج:
فاكهة التواريخ وأنشودة الأزل،
تعلّقنا من أسمائنا إلى شجر المكان
وتروح تبحث عمّا تناثر من دموع نيرون،
( كانت تحترق قرطاج، وكان نيرون يبكي خوفا على روما)
أيتها الجنّة الملعونة يا قرطاج
هل يجب أن نحترق؟
لتعرفي أنّا فَراشُك
وأنّا ملح لهذا العرق
والجبال ترسو على أكتافنا
ونحن نجري الرياح اللواقح
وأن هذا الأيادي الصخر
تعدّ لك أكاليل الزهر
ونحن جيـر الأصداف
صلصال البدايات
يــاء اللغــات
وأصواتنا صهيل أحصنة الموج،
ونحن إذ نمشي تنغلق على سيقاننا فخاخ البايات،
ولكننا نمشي
خلفنا يمشي الصباح يشحذ أسنّة ضوئه دهشا
من ثبات خطانا
ومن سلّة أنسابنا إذ تولّف بين العقارب واليمام.
تمضي خطانا
والبحر من أزل يردّد صوته
ولا يحفل باهتراء أقدامنا على الساحل:
” لم أرهم،
سمعت أنينا ونشيدا
وابتلعت حطام منارات وسفائن
لم تستطع أن تجاري رقص أمواجي
لم أرهم،
سارت على رمالي أقدام عاشقة
أقدام سحرة
كهّان جبابرة
وحوافر خيل خبّت على رملي
حطّمت قصور أطفال على الشاطئ
أربكت صبيّة تعرض مفاتنها للشمس
وطيّرت سرب نوارس على صخر “أوتيكا”.
ألقت أجسادا متبّلة من شواء الحرائق
داست بيض سلحفاة على وشك التفقيس
حوافر خيل خبّت على رملي
تركت بعض الغبار والدخان ومضت”…
تمضي خطانا
كما مضت من قبل خطاهم
لكن أسماءنا اتضحت،
أو…
تلاشت كالضباب،
وأفقنا من أوّل الخوف
إلى أول الظلمات والصراخ الفصيح
على ضمأ،
يطربنا خرير المياه ولا ندرك النبع
نجول بين الأطلس السماويّ والصحراء،
تزكم أنوفنا رائحة الحرائق
وتقطف آذاننا ما نضج من نايات الرعاة
وهي تغازل خلخال الصنوبر فوق كعب الجبال العالي…
والوشم الأزرق في الجباه السمر
مع الأرض ورثناه
لم يزل بربر أحرار ينامون تحت الجلد
ولم تزل كاهنة بقلب البلاد تنوح
وا أرضاه!!!
وما طرب أحد لنواحها
وما دلّنا أحد على جراحها
هل دلّنا وتر العود الوحيد على رنين الروح وموسيقى الضوء الثقيل
هل دلّنا؟؟؟
على أمل، نرشد الربيع إلى حقولنا
ونحرم قطف الورود
نحلم كل صباح أن نكون شمس صباحك،
تلهينا رشاقة الجلاّد
عن الذئب النائم في وجهه.
ينسينا تقديس الزيتون لهيب العصا
ولا ننسى أن نبني ما تداعى من سور المدينة
كي لا تنهدم الذاكرة.
ولن يمّحي اسمك
وزوجاتنا إذ يغنّين “يا قرطاج”
تنام صغار الموجات على الساحل
ويذكر البحر المسنّ
رجالا ملؤوا آفاقه بالبهارات وبالنشيد،
ونساء تغار الأساطير منهن
وأطفالا هم الأحلام والزمن السعيد.