تفصيل بحجم الكون
فتحت عيني على ابتسامة أمي وهي تقول لي:
– صباح الخير ”سوسا”، كيفك اليوم..؟؟.. هل ما زلت تشعرين بالألم..؟؟
– صباح النور يا أعذب و أحلى أم في الدنيا.. كل شيء تمام، بفضلك و رعايتك.. يا أم السعد..
حاولت لمس صدري، لكنها منعتني قائلة:
– لا تتحركي الآن.. ارتاحي.. ستكونين بالف خير..
لم أكن أفكر في الأمر، من قبل، أجبت فقط:
– متى يمكن ذلك..؟؟.. وجب عليّ الذهاب الى عملي.. و انفض كل التعب، و أتخلص من بقاي الزكام.. حبيبتي..
و هكذا وجدتني، أتفق على أمر لطالما رفضته. ما الذي جعلني أغير رأيي عن حياتي و نمطها..؟؟..
أهو عزمي على معانقة الحياة من جديد ؟ أهو الحب الذي يصالحنا مع أجسادنا ؟..
لم أكلم أمي في الأمر ولم أستشر أحدا من أصدقائي.. كان قرارا شخصيا جدا.. حميميا جدا..
كيف لا أصبر على زرع جمال الحياة وقد صبرت على من يريد استئصالها من جنة الله على أرضه ؟..
قد تقنعك ابتسامة عابرة، أو رعشة، أو مجرد أمل غامض بفعل شيء بعد أن فشلت في إقناعك كل النظريات و المسلمات..
يؤلمني صدري، نعم، لكنه ألم مشوب بلذة.. كألم الحب..
الألم هو الشيء المشترك بيننا جميعا كبشر، ليس حكرا على أحد..
لملمت الالم وجسدي، و وصلت باكرا الى مكتبي، ومعي بعض الكتب التي أصبحت مواضبة على قرائتها، منذ رحيلي الى بيتي الجديد في القرية، حيث قررت أن أعيد ترتيب حياتي من جديد..
و هكذا اصبحت أرتاد مكتبات ”المنشية” بطرطوس المدينة، في شارع تجاري خاص بكل ما هو جديد في عالم الكتابة؛ و أقرأ كل ليلة قبل أن أنام وكثيرا في النهار يوم إجازتي.. كما عدت إلى الكتابة بانتظام كمُكمّل لعلاج روحي بدأته صدفة منذ أكثر من سنة ونصف على يد كاتب، عجّل بادماني على الحروف ثانية.. كاتب يلقبه أصدقاءه ب“قيصر الكلمة”، لكنه يرفض اللقب، ويحب أن ينادونه ب“المهلوس”..
بكل اختصار: قررت أن أحيا..
فتحت صفحتي على الفايس، من هاتفي، كما أدمنت كل يوم، وإذا بنص من نصوصه يقفز إلى بصري:
”سأسافر، حيث ضجيح القناديل الساهرة..
حيث، تنتحر القبل..
و يتساقط العطر مذبوحا..
من قوارير الليل..
لأجرد ذاتي..
لأغسل لهفتي بكحل يتهاوى ليلا..
من سهد جفون عينيك..
من ضفائرك..
أفرغ قلبي من كل شيء..
و املأه بك و منك..
و أعد نبضي، ذات غرق فيك..
إلا من بعض همسك.. و الكثير من الشوق..
يا أنت..
ساقفز فوق الزمن..
و أصلب الإنتظار فوق سارية من جمر..
إليكِ أنتِ يا ”صمصوم” القلب..”
نطّ قلبي من بين الضلوع.. لا أظن نصا كان سيسعدني أكثر من عودته إلى الكتابة.. يغمرني إحساس بانتصار ما.. أود لو أصرخ، لو أرقص، لو أطير إليه..
لا بد أن أحضر امسية من أمسياته الشعرية.. لكن بأية صفة؟؟ و كيف أضع نفسي في مهب الضياع وقد لزمتني شهور، بل أعوام للشفاء؟ وهل شفيت حقا؟ وما معنى هذا الاندفاع؟..
لكن، أليس لي الحق في الإحتفال بشيء ساهمت في تحقيقه؟ وقد أعدته إلى الكتابة وهو الذي لا يعلم أنه قد أعادني إلى الحياة..!!..
لا بأس.. لا زال أمامي دهر لإتخاذ قرار صائب..
وهل باستطاعتي اتخاذ القرار الصحيح، بعيدا عن محيطي وعائلتي، وقد شُلت قدراتي الفكرية من جديد؟.. كبركان خارج من سباته أصبحت أغلي.. لا أستقر على شيء..
أنام على ”لا” وأستيقظ على كل المبررات الضرورية ل“نعم”، وكالمراهقات أنتظر إشارة من السماء، لو أمطرت ف“نعم، ولو أشرقت الشمس ف“لا” أو ربما العكس..
اوووف.. لا مانع من حضوري قراءة شعرية ككل الناس.. لن يعترض أحد… أليست الدعوة عامة؟..
غير أني لست ككل الناس، أنا من شرّح نفسيته داخل وكر ”الميسنجر”، وسيكون حضوري بمثابة اللعب بالنار..
لكنه في نفس الوقت سيكون تتويجا بالنسبة إليه. سيسعده حضوري لا محالة خاصة، وأنه لا يعلم بحقيقة شعوري نحوه..
لكنني أنا أعلم وهذا يكفي. لقد صمدت لشهور أمام رغبتي في لقائه والتحدث إليه. ولولا الحرب القذرة على بلد الياسمين، لما كنت الآن أتأرجح بين قلبي وعقلي..
نهاية الأمر:
لا أعلم قراري النهائي، ولا كيف وجدتني ارتعش في كرسي مكتبي ورسالته تطلع من ”الميسنجر”، حاملة رابط أغنية ”ريم بندلي”، وأنا أسمع صوتها كعزف كمان شجي:
“غسِّل وجهك يا قمر … بالصابونة والحجر
وينك يا قمر ؟؟
عم غسل وجهي..
مشط شعرك يا قمر .. والمشط الحلو إنكسر …
وينك يا قمر ؟؟؟
عم مشط شعري …
طل القمر .. والقمر قنديل كبيييييييييير..
معلق بالشجر والشجر عالي عالي كثييييييييييير …
يا قمر ضوي ..
عالدني ضوي ..
بدي منك يا قمر تكرج على غصون الشجر وتنزل عالدبكة …
أنزل عالدبكة ؟
غسل وجهك يا قمر … بالصابونة والحجر …
وينك يا قمر ؟؟
عم غسل وجهي..
أحب كثيرا رائعة المغنية ”ريم بندلي”.. تذكرني بطفولتي وأنا ارقص على الطاولة من أعلى سنواتي الخمس ووالدايّ يتطلعان إليّ بحنان وإعجاب..أتذكر نفسي، وأنا بتنورتي الايرلندية المزركشة، وظفائر شعري يتدلى منهم دبس كالفراشة بلون وردي.. جواربي طويلة بيضاء وحذاء أسود دون كعب.. قميص ابيض و بلوزة صوف خمرية اللون، عطر براءة يفوح ويطير مع كل طرب ودفء منبعث من أركان المذياع قرب المكتبة.. وكرسي جدي، وغليونه الاسود الراقي..
ااااه.. و تلك المكتبة، وأغنية الراديو، فكلما سمعتها اشتعل فيّ الحنين. لكن أن يوقضها هو فيّ.. فهذا ما استقبلته كإشارة من القدر..
على الخاص، وبين طيات ”الفايسبوك” ودهاليز ”الميسنجر”.. كان يكتب.. ويكتب.. وأنا أقرأ.. وأقرأ.. أسمع ترتيلا كإسراء بالروح إلى أقرب مقام إلى الله.. والليل لا ينجلي.. و رفقته نجمة تضيء شرايين كياني..قشعريرة لذيذة تنتابني، كلما كان يحكي حكاية لتنبت حكاية..
لا وجود لأحد في عالم إفتراضي غيرنا.. أرتشف كلّ كلمة تخرج من أنامله كقبلة حياة..
انتبهت وقد دخلت بعض صديقاتي الموظفات الى مكتبي، محيين.. وما حملتني قدماي.. فكيف أقوى على الوقوف وجسدي لو أطاوعه يركع لأداء فاق كلّ تطلعاتي؟؟
يا الله.. أحببتَ خلقك حين مَنَحته سحر الكلمة..
جلست على طرف المكتب ووقف كل من بالقاعة، في نصف دائرة، نتبادل همس الصباح وابتسامة الامنيات لا تفارق وجوهنا..
اتصيّد اللحظة، فلازال بامكاني الإنسحاب في هدوء، وسأفعل بعد أن أستردّ أنفاسي..
ها أنا أمامه، على شفا ”الميسنجر”، وقد انصرف الجميع، تقريبا، وانا اشعر بنظراته، عبر الأثير، تخترقني وابتسامة عريضة تحتل محياه، ويكتب:
”إلى من أعادت روحي إلى أبراجها..
بعضا من روحي..
مع امتناني ومحبتي التي لا تنضب..”
هل شكرته؟ هل القيت التحية؟ لا أذكر.. لا أذكر سوى أنه كتب لي:
– ”لا شكر على واجب، يسعدني أن احسد لوحة مفاتيح هاتفك، وأناملكِ تخزُها.. فأنا مدين لك بأشياء كثيرة.. سوف أتصل بك لاحقا، ريثما ينتهي دوامكِ..”
وضعت الهاتف في حقيبة القلب، وخرجت، وصدى كلماته لا تزال ترنّ في أذني، وتنزّ وميضا في عيوني..
جلست بأول مقهى صادفته بطريقي.. ثمة قراءات لا تحتمل التأخير..
كم مرة قرأت الإهداء؟ وعيني لا تكل من ملامسة حروف ُخطّتْ بقلم حبر أسود..
“إلى من أعادت روحي إلى أبراجها”..
لم يكتب إلى الآنسة فلانة ولا إلى السيدة فلانة ولا حتى إلى فلانة..
بعض التفاصيل تكون بحجم الكون..
ثم أهداني بعضا من روحه..
ثم عبّر عن امتنان ومحبة لا تنضب.
لم يكتب مع ”المودة والتقدير” كما هو الحال في أغلب التوقيعات ولا ”مع تحياتي”.. كان إهداءً خاصًا بي.. وعلى خاص ”الميسنجر”.. غير قابل للتعميم..
لكن.. كل الكلمات التي كتبها في الإهداء تعبّر عن العنوان: ”إلى من أعادت روحي إلى أبراجها”..
إذا كان من الطبيعي أن يكتب جُملا تعبر عن عودة الروح إلى أبراجها وأن يهدي بعضا من روحه، باعتبار الكتابة نزيف الروح، وأن يعبر عن امتنانه لعودته الى عالم الكتابة. أما المحبة فهي ليست حبّا. وأما عن إسمي فربما قد نسيه.. وماذا عن أغنية ”ريم بندلي” ودلالة كلماتها، وتوقيت إحيائها من لحد قلبي..؟ وماذا يقصد بحسده للوحة مفاتيح الهاتف وانا أخزها بأصابعي..؟.. غريب..!
لكنه قال أنه مدين لي بأشياء كثيرة.. مثل ماذا؟.. قد تكون معاقرته للشعر و النثر أو خروجه من اكتئابه أو مصالحته مع نفسه أو أشياء أخرى علمها عند الغيب..
صدقا، فهو فعل معي أكثر مما فعلته معه، هو من جعل الابتسامة تشرق من عيوني، وتغرب على امل الغد الجديد، لا تعكر أماني الناس في بلد أنهكه الدفن: دفن الشهداء.. دفن المتطلبات.. دفن الابتسامات.. دفن الحلم.. دفن السعادة..
بلد يعزف الفرح بأزير الرصاص، يرقص على عويل البكاء، يحتفي بالشهيد و يلد مشروع شهيد آخر يقدمه قربان الحرية و الشعر..
ااااه.. يا بلدي.. كل الياسمين التي تنبث بين أحضانك ارتوت بدماء ذوي القربى..
لكنه، وهذا بالتأكيد غير قابل للتأويل، قد قال: ”سوف أتصل بك لاحقا، ريثما ينتهي دوامكِ..”
و ما معنى لاحقا؟ ولا شيء نسبي كالزمن.. رغم انه حدده بانتهاء دوام عملي.. من قال انه ربما سينسى..او بالاحرى تنسيه إحداهن، وما أكثرهن على لائحته.. على طول جداره، وتحت كل كتاباته يتحرشن به، فانا، أنثى، وقلبي دليلي.. لكنه وللتاريخ، هو لا يحرك ساكنا.. ربما على الخاص، تقع جرائم تشبه جرائم الحروب..
كم من الوقت قضيت في المقهى، امام فنجان قهوة لا أنا شربته ولا هو ساعدني على فك غموض يُعصرني.. وحدها منفضدة السجائر شاهدة على حيرتي..
قمت، والشمس تتوسط كبد السماء، وقد بدأ النادل في تنظيف الأرضية المبللة بآثار زبائن من تعب وذهب.. وجمع كراسٍ متعبة، اعتادت أن تنام فوق الطاولات..
وما قرأت بعد سطرا واحدا من كتاب تأبطته تفاديا لعيون رواد المقهى..
كنت، فقط، أنتظر أن يتصل بي.