هالة نهرا المتجلّية نقداً فنياً وشِعراً وإبداعاً
بقلم دانييلا الشفتري
كاتبة لبنانية تقيم في كندا
تستمرّ الشاعرة والكاتبة اللبنانية هالة نهرا في حفر أثرها المضيء في فضاء الكتابة النقدية منها والإبداعية على المستويات الثقافية والموسيقية والفنية والشعرية. تجتهد وتتأنّى وتوغل بانتقائيةٍ شديدة في اللغة ودهاليزها وشرايينها الحيوية، وبفرادةٍ تطبع خطاها وتشيّد عالمها الشعريّ العصيّ على التأطير والمندرج ضمن مفهوم الحداثة وأُسُسها. تستفيض في كتابةٍ شعرية متدفّقة مغايرة تلمع فيها روحها محلّقةً.
أطلقت هالة نهرا كتابها “إضاءات موسيقية وفنية” حيث طرحت هاجسها النقدي النظري والعملي وظهّرت إضاءاتها الخاصة والقيّمة على عددٍ من الفنانين والمبدعين والمؤلفين الموسيقيين في أعمالهم،
، علماً بأن الكتاب صدر عن “دار الفارابي” عام 2016 وقد صار في مواقع عدّة أحد المراجع البحثية في العالم العربي والخارج وصولاً إلى جامعة “ستانفورد”Stanford في كاليفورنيا حيث صار كتابها مرجعاً من المراجع الأكاديمية ضمن خانة تاريخ الموسيقى والنقد.
وأطلقت هالة نهرا ديوانها الشعري “الفرح عنوان الأبد” الصادر عن دار الفارابي عام 2019 الذي تمتّع بأصداء كبيرة في الوسط الشعري والأدبي والإعلامي اللبناني والعربي، وألقتْ قصائد منه في حفل بعنوان “مقامات التجلّي” في الجامعة اللبنانية الأميركية عام 2019. تمّت ترجمة بعض قصائدها إلى الإسبانية والألمانية. هذا الديوان يحثّ القارىء على طرح أسئلة مغايرة في زمن نحتاج فيه إلى ثقافة السؤال، كما يسهم في بناءٍ معرفيّ غير تقليدي وغير كلاسيكي لأنّ المخيّلةَ أيضاً اكتشافٌ وإدراكٌ من نوع آخر.
كذلك شاركت نهرا في تشرين الثاني من العام 2020 في مهرجان “أوديسي العالمي للشعر” Odyssey International Festival الذي يُقام في رومانيا، وبسبب جائحة كورونا المميتة بُثَّ المهرجان عبر تطبيق “زوم” Zoom، وقد برزت إلى جانب شعراء من مختلف أنحاء العالم: من الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية وأوروبا والشرق الأوسط وآسيا والعالم العربي، إلخ… علماً بأنها قرأت من ديوانها “الفرح عنوان الأبد”، ثمّ نُشرت قصيدتها بعنوان “تولد من جديد” مترجمةً إلى اللغة الإنكليزية ضمن “الأنطولوجيا العالمية لشعراء العالم 2020 Odyssey“.
من الجدير ذكره أنّ الشاعر والناقد الأدبي المصري عبدالله السمطي كتب عن شعر هالة نهرا لافتاً إلى أنّ كسر الاعتياديّ ومشارفة اللامألوف هو إحدى الدلالات الباذخة في ديوان هالة نهرا الذي وسمته بالفرح. وقد استنتج الناقد أنّ نصوص هالة نهرا لا تتوقّف عند حدود التعبير عن الأنا والآخر، لكنها تنطوي في داخلها على جملةٍ من الرؤى التي تصبو إلى التغيير. وقد أشار إلى أنّ هالة نهرا تسبح في فضاءات الذات مطلقةً الروح لمعانقة المطلَق الكونيّ الذي تكاشفه وتبتكره مستعيدةً خيالات الطبيعة، فيما تكسر اليوميّ والمألوف والعاديّ وهي الأمور التي هيمنت على قصيدة النثر العربية فترةً طويلة.
هادئةٌ هي هالة نهرا رغم الرؤى الكثيرة التي تضجّ بها، متأمّلة، جارفة في تفكُّرها، باحثة على نحوٍ مختلف جديد، ومنكبّةٌ حالياً على المزيد من الكتابة في أجواءٍ تجترحها في خلوتها. الكتابة كما تقول هالة هي رئةٌ ثالثة وهذا الأوكسيجين ضرورة حيوية.
رغم الظروف الصعبة التي يمرّ بها لبنان حالياً ورغم تضامنها العميق مع الناس الذين تنتمي إليهم وتشعر بوجعهم وأحزانهم وتمسّها تطلّعاتهم وأحلامهم وقضاياهم المحقّة فإنّ الأمل يبقى عندها أساسيّاً يطغى كالسيل بحروفٍ مذهَّبة.
تؤمن هالة نهرا بفجرٍ جديد سيعمّ ضوؤه السهول والجبال والجباه؛ فجرٌ سيشرق، طال الزمان أو قَصُرَ.
عن قراءاتها راهناً تقول هالة نهرا: “فريدريش نيتشه الذي يعلّمنا أن نتأمّل كلّما ضحكَ في أعالي الجبال الشامخة من كل المآسي، مسرحيات كانت أم حقيقية، وجان بول سارتر حين قال: L’homme est à inventer chaque jour، وجاك دريدا حين يحثنا بغير قصد على الوقوف بتمرّسٍ واحتراف في دائرةٍ خارج لعب الدوال اللامتناهي، وذلك عبر المدلول المتجاوز الذي يوقف هذه العملية، وسواهم من الذين يعلّمون عقولنا حقائق مختلفة ولو جزئياً ونسبياً، الذين يحضّون أدمغتنا على التفكير النقدي حيث ينبغي للأفكار ووجهات النظر أن توزن في ميزان العقل، الذين يسكننا وميض أطيافهم الممتدّة ولو من باب الاختلاف معهم حيناً أو أحياناً، الذين قد يسحرنا لمعان أسلوب جملةٍ شاردة لديهم تندرج كبارقة في سياق نصوصهم… هؤلاء وغيرهم مثل لوحة مفاتيح البيانو، والآلات تتجاوز الأوركسترا عند العارف، وعند المبتدع فإنّ اختراعَ آلة جديدة احتمالٌ ممكن”.
تتهيّأ هالة نهرا لإطلاق أعمالها ونتاجاتها الجديدة في النقد والشعر لكنها تؤجّل ذلك قليلاً بسبب الظروف المحلّية والعالمية بغية إطلاقها في الوقت المناسب، وفيما تتريّث تواصل كتابة ونشر مقالاتها ونصوصها وقصائدها بشغفٍ وحماسةٍ تتحلّى بهما.
الأهمّ بالنسبة إليها ثقافياً يكمن في ثقافة السؤال بكسر البداهة والامتثال الأعمى لليقين.
تنادي الكتابةُ هالة نهرا وتسكنها في امتداداتها وممهّداتها وتجلّياتها ومقاماتها. للكتابة طقوسها في الكثير من الأحيان كما تقول، لا سيما أنّ الطقوس صديقة تداعي الأفكار، صديقة الحدْس والمزاج والنفَس والعطاء والتربة النديّة وليست ترفاً ثقافياً. معلّقةً تقول أيضاً: “لا يمكننا دائماً ممارسة طقوسنا لأنّ الكتابة تكون أحياناً مجبولة بطين الواقع البحت وإيقاعه ومقتضياته”.
يتمظهر عند هالة نهرا توقٌ أبديّ لا يفسَّر إلى الجمال الفرِح بمعناه العميق ويتجوهرُ ضوءٌ يتلألأ في نصّها الممتدّ المكتنز بالحياة والحبّ والخيال الجامح، والمرَح والانشراح أحياناً، وبأفقٍ يرتسم ببراعةِ الرؤية وتدثُّرها بتفاؤلٍ بَيِّن. تجرف هالة نهرا براءة دهشتها في كل اخضرار. ختاماً تقول: “بي سماحةٌ وسلامٌ يجعلانني اليوم أعانق وجه الأرض كلها، وأعشق الموج إذ يناغي السماء في تغاريد يديَّ”.