هناء نور
تكتب :
التحايل الحلو
في فيلم “طعم الكرز” يقدم للمخرج الإيراني عباس كيارستمي موضوعا شديد الجرأة، من منظور الدولة الدينية، فالفيلم يناقش موضوع الانتحار الذي يعد من أكبر الكبائر في الدين الإسلامي..
يجسد همايون أرشادي بطل العمل دور رجل أربعيني يرغب في التخلص من حياته، ولا نعرف عن هذا الرجل طوال الفيلم سوى اسمه “بديع” وأنه لا يعاني مشكلة مادية، ويمتلك سيارة فارهة تدور فيها ومن حولها أحداث الفيلم..
بديع يبدو كما اسمه بديع المظهر والأسلوب والشكل، لكننا لا نعرف سببا محددا لرغبته في الانتحار، وترك الهدف غير محدد يحسب لكيارستمي المخرج والمؤلف في الوقت نفسه.. فالمنتحر شخص فقد القدرة على التواصل مع واقعه.. ولو كانت عنده كل أسباب التمسك بالحياة من منظور الآخرين..
الصحراء تحيط الطريق الذي يقطعه بديع بسيارته بحثا عن من يرضى بوضع التراب على جثته في تلك الحفرة التي اختارها لتكون قبره في الصحراء أيضا..
هذا التصحر يشعرنا بجفاف الحياة الذي يعانيه بديع، ورغم عدم إفصاحه بشكل صريح عن سر تعاسته، تكشف الصحراء التي اختارها كيارستمي مكانا لسرد الأحداث، مأساة بديع بدرجة كبيرة..
البيوت التي بدت بعيدة جدا على جانبي الطريق الصحراوي الذي تعبره سيارة بديع.. تشير إلى بعده الكبير عن الاستقرار، والدفء العائلي، وربما إحساسه بالوحدة..
أول شخص يعثر عليه بديع جندي من كردستان، يبدو فقيرا خجولا، لكنه لم يتردد في الفرار من بديع حين يعلم برغبته في وضعه التراب على جثته بعد انتحاره، ورغم أن بديع حاول إقناعه قائلا: أنت جندي وربما تحمل السلاح وتقتل في يوم ما بالأمر، فما مشكلتك في رمي التراب على جثة من لم تقتله؟! لكن الشاب تملكته الحيرة، ولم يستطع أيضا المال الذي عرضه عليه بديع إغراءه بالقبول.. فنزل من السيارة وركض هاربا في خوف..
الشخص الثاني طالب دين من أفغانستان، يعاني الفقر أيضا، لكنه لم يقبل بعرض بديع رغم احتياجه للمال، بل وحاول إرشاده عن طريق الوعظ الديني للرجوع عن قتل نفسه.. لكن بديع واجه نصحه بالرفض قائلا: الله لا يحب أن يرى عبده يعاني!
هذا المشهد الحواري الطويل نسبيا بين بديع والشاب الأفغاني، يدفع المشاهد للتساؤل: كيف دار هذا الحوار الجريء في فيلم إيراني.. وكيف استطاع كيارستمي الخروج بهذا الفيلم للنور!!
أثناء بحث بديع عمن يساعده في الصحراء الفسيحة، ومروره بالمحاجر والحفارات وأدوات البناء، يتوقف فيشاهد في دهشة وبرود ملامح العمال وقدرتهم على الابتسام رغم شقاء أبدانهم، والأتربة التي تحيطهم بقوة من كافة الاتجاهات..
ويعد من أهم مشاهد الفيلم ذلك المشهد الذي يتأمل بديع فيه ظله، والأحجار تتساقط عليه، حتى يختفي الظل، فنرى على ملامح بديع الإحساس بالتعب والإجهاد وكأنه هو من أصيب بآلام الردم بالأحجار وليس ظله. تلك الحيرة التي بدت على وجهه والشرود الذي تملكه للحظات بعد عملية دفن الظل، أمور تحرض على التساؤل: لماذا تألم واحتار، هل يريد بديع الموت حقا، هل هو جاد في قرار الانتحار؟!!
يعثر بديع على الهدف الأخير، السيد باقري وهو رجل من أصول تركية في عمر والده، عامل يعاني الفقر ويحتاج المال بشدة لعملية جراحية خاصة بابنه، لهذا هو غير معترض بشكل تام في دفن بديع بعد انتحاره، لكنه رغم احتياجه المادي يحاول إقناع بديع بأن في الحياة ما يستحق أن يعيشه، ويحكي له عن تجربته قديما مع الإقدام على الانتحار ثم تراجعه وقت تذوق جمال طعم التوت المتساقط من تلك الشجرة التي أراد أن يشنق نفسه في حبل علقه بها، فكان في مذاق فاكهتها نجاته وإعادة نظرته للحياة بشكل مختلف.. مجرد توتة نجحت في تغيير رؤيته للحياة؛ هكذا هي الحياة حقا، نتعلق بها أو نود مغادرتها لأسباب شديدة الهشاشة..
هذا المشهد رغم أنه أطول المشاهد الحوارية في الفيلم إلا أنه لم يكن مملا. فصوت عبد الرحمن باقري المميز أضاف الكثير من الجمال واللطف إلى المشهد، وأخدت نصائحه لبديع طابع الحواديت وليس الخطابة والوعظ، وبدا أن بديع ينصت له باهتمام، فلم يقاطعه أثناء سرد الحكايات وبعض النكات..
في هذا المشهد يتضح أيضا انتصار كيارستمي للقيم الإنسانية على حساب المادة، وتلك السمة من أهم ما يميز سينماه بوجه عام.. فرغم احتياج باقري الشديد للمال هنا، يرفض الحصول عليه إلا بعد التنفيذ، وفي الوقت ذاته يكرر نصيحته لبديع بالتراجع، هذا الرفض يؤكد أن الإنسان يستطيع الاحتفاظ بكرامته ونبله أيا كانت درجة فقره المادي.. يعاهد باقري بديع بأن يظل صديقه في كل الأحوال، قائلا: إن تراجعت وشعرت بحاجة من يسمعك فأنا صديقك، وإن لم تتراجع فأنا صديقك، وسأساعدك على ما يريح نفسك ولو لم أكن مقتنعا به..
ولعل هذا العبارة بالغة الرقة وهذا الإحساس من باقري الذي يلتقي بديع لأول مرة، هو كل ما كان ينقص بديع وما يحتاجه.. نحتاج كثيرا لمن يفهمنا ولو لم نكن على الصواب المحفوظ والمتعارف عليه..
الموسيقا من أهم مفردات اللغة السينمائية، لكن في “طعم الكرز” يكتفي كيارستمي بالاعتماد على صوت المؤثرات الطبيعة، وأغنية واحدة خلال الفيلم تعبر عن الغياب والموت.. وربما أراد كيارستمي بعدم استخدام الموسيقا الاقتراب من الطابع التسجيلي، وأن يشعر المشاهد بأنه أمام قصة حقيقية.. لكن نهاية الفيلم تقول عكس ذلك..
في المشهد الختامي وبعد استلقاء بديع في الحفرة.. يتساقط المطر، وتقترب الشمس من الشروق، ثم يقطع المخرج إلى بديع وهو يشعل سيجارة، ونرى كيارستمي يطالب فريق العمل باستراحة، وكأن كيارستمي أراد استخدام “كسر الإيهام” ليقول للمشاهد أخيرا: كل ما شاهدته مجرد “تمثيل في تمثيل”
فهل استخدم كيارستمي حيلة كسر الإيهام ليتمكن من إخراج هذا الموضوع الجريء للنور، ولتسمح بمروره السلطة المختصة، أم لأن موقفه من الانتحار ليس حاسما.. فلا نعرف هل يراه حقا إنسانيا للتعساء أم لا؟! أيا كانت الإجابة، فاختيار حيلة كسر الإيهام على اختلاف أسبابها، كان ذكيا، فهي شكل غير مستهلك من النهايات المفتوحة، كما أن النهاية بهذا التحايل الجمالي، تثير في نفس المشاهد الكثير من التساؤلات، والسينما الجميلة تهتم بطرح التساؤلات أكثر من تقديم إجابات قد تكون محفوظة..