هناء نور تكتب :
رقة التفاصيل
لا أميل لتضخيم الأشخاص، أو إلصاق صفات الكبير والعظيم وغيرها على الفنانين، فاسم الفنان وحده في رأيي يكفي، لكنني أقع أحيانا في فخ إطلاق الألقاب مع المخرج مجيد مجيدي، فأقول عنه الساحر، أو شاعر السينما الإيرانية، ومؤخرا أصبحت أقول عنه: عاشق العصافير..
الكثير من المخرجين أصحاب قضية، لكن المتميز وحده من يجمع بين القضية والرؤية، قضية مجيد مجيدي تتمحور حول الطفل والفقراء، ورغم أن الفقر من أكبر مآسي الحياة إلا أن مجيدي لا يميل للميلودراما، وسينما النواح، ويحرص على استخراج الجمال والرقة من قلب الحياة القاسية. الفقراء في سينما مجيدي بشر عاديون، يحزنون ويضحكون ويغنون ويخيم على أرواحهم اليأس، لكنهم في الأغلب لا يفقدون الطيبة والحلم، رغم صعوبة حصولهم على قوت يومهم في بلد يغلب اهتمامه بالأسلحة النووية على اهتمامه بتحسين الأحوال المعيشية لفقرائه..
في فيلم “أطفال السماء” الذي أخرجه وكتبه مجيدي يتحدث عن واقع الفقراء دون محاولة منه لاستجداء شفقة المشاهد، أو بث روح التحسر في نفسه، بل وربما يشعر المشاهد بمتعة وهو يتأمل ويرى رسالة مجيدي التي يتمكن من إيصالها بعناصر فنية جيدة وميزانية إنتاجية محدودة.. علي وزهراء (أبطال الفيلم) طفلان يعيشان تحت سقف أسرة فقيرة جدا، الأم مريضة، وربما يشير هذا المرض بصورة ضمنية لحال المرأة المعتل في إيران، كما يبدو أن عمل الأب في مسجد؛ أي بيت من بيوت الله لم ينجح في إزاحة القليل من بلاء الفقر عن أسرته.
الأسرة كلها تنام على الأرض، الحياة جافة إلا من الحب بين أفرادها، هذا الحب الذي يؤكد مجيدي عليه كعامل أساسي ومهم لدعم الإنسان للاستمرار مع التمسك بالرحمة والحلم..
تبدأ أحداث الفيلم بضياع حذاء زهراء وفشل علي في العثور عليه. الحذاء بطل رئيسي ومحرك للأحداث، يتكرر ذكر الحذاء ونراه بصور مختلفة، حذاء زهراء الضائع،
حذاء علي المهترئ، الحذاء كجواز مرور ولا يمكن بدونه دخول المدرسة، فهل تتوقف زهراء عن الذهاب للمدرسة لأن حذاؤها ضاع؟!
يتبادل الطفلان حذاء علي المهترئ، ليتمكن كل منهما من دخول مدرسته، ولعل من حسن الحظ أن لكل مدرسة موعد حضور مختلف، لكن الوقت الفاصل بين دخول المدرستين ليس طويلا، لذا يقطعان “علي، وزهراء” الطريق ركضا منهكا حتى بلوغ نقطة الالتقاء المتفق عليها في زقاق جانبي.. لاستبدال علي حذاءه المهترئ في قدم زهراء بشبشب البيت في قدمه على وجه السرعة.
الأب (رضا ناجي.. الممثل المفضل لدى مجيدي) لا يكف عن البحث عن سبيل آخر للرزق. حين يحالفه الحظ في العثور على عمل، يعمل أجيرا ليوم واحد كبستاني في أحد القصور، فيمنحه صاحب القصر قدرا طيبا من المال، يشعر الأب وهو يمسك بالمال بفرح ربما لم يعرفه من قبل.
في ذاك اليوم، وهو يجلس علي أمامه على دراجته، يسير مسرعا في الطرقات وكأنه يطير، يلهث من فرط الفرح وهو يخبرعلي بقائمة الأشياء التي سيشتريها لزوجته، وله ولأخته زهراء، لكن علي يخبره إن حذاء زهراء فقط هو المهم. أحلام الفقراء رغم بساطتها لا تكتمل في الأغلب، فتتعطل فرامل الدراجة، ويقع حادث تصادم على الطريق، تروح معه الأحلام الصغيرة، والدراجة، ويضيع المال في علاج كسور الأب.
يظهر الحذاء في مشهد الفقرة الرياضية من الطابور الصباحي، حين تتأمل زهراء في أحذية البنات (البناتي) ثم تنظر لحذاء علي في قدمها بشيء من الحزن ثم الرضا، كما نرى الحذاء في مشاهد فرجة علي وزهراء على جمال الأحذية في الفاترينات، وقدرتهما على الفرح بمجرد الفرجة على الأشياء عن بعد..
الابتسامة المختلطة التي لا تخلو من الأسى والتمني على وجه الطفلين أضافت جمالا خاصا، وأظن أنها استطاعت أن تخطف دموع المشاهد دون أن يدفعه المخرج نحو ذلك دفعا، كما أكدت قدرة مجيدي على إدارة الممثل وقدرته على استخراج مواهبه ولو كان الممثل طفلا لم يخض تجربة التمثيل من قبل.
تعلن مدرسة علي عن مسابقة للجري، الفائز الثالث فيها يحظى بحذاء رياضي. يشترك علي في المسابقة ويعود لاهثا من فرط فرحه، يعد زهراء بأن يحصل على المركز الثالث، ويبدل الحذاء بحذاء بناتي يناسبها، أثناء المسابقة، شعرت أنني أركض مكان علي، خفت كثيرا أن يتوقف قلب علي؛ نتيجة سوء التغذية، وضغط حلم الحصول على الجائزة..
يحصل علي على المركز الأول، فتسيل دموعه أمام الكاميرات التي جاءت لتصوير المسابقة، وقد خذل حلم زهراء دون قصد..
ينتهي الفيلم بابتسامة زهراء لعلي الواضح عليه الحزن، وفرحها بفوزه رغم تجدد ضياع حلمها بالحذاء، ثم يجلس أمام بحيرة قريبة يخلع حذاءه الممزق، ويضع قدميه التي تنزف من ضغط الجري في الماء، فتلتف السمكات الصغيرة حول قدمي علي، وكأنها تحاول امتصاص جرحه. في مشهد أقرب للوحات مارك شاجال في خلقه لحالة انسجام بين الكائنات كافة..
في فيلم “أغنية العصافير” أسرة تعاني الفقر أيضا، لكن رب الأسرة، يرفض وبشدة أن يعمل أطفاله. رفض عمالة الأطفال وإدانتها بشدة من أهم قضايا مجيدي ومن سمات سينماه المميزة..
بعد تسريح الأب من عمله في مزرعة نعام بسبب ضياع نعامة، يعثر في الطريق على بيضة نعامة، ورغم فقر الأحوال لا ينسى الجيران فيرسل لجيرانه أطباقا صغيرة من “شكشوكة” بيض النعام، مسألة تشعر المشاهد بأن الرزق يصبح وفيرا حين نقتسمه مع من نحب..
يعمل الأب سائقا على الموتوسيكل الخاص به، فيوصل الناس مقابل أجرة، كما تضطره الظروف للعمل كشيال، فتتيح له رؤية بيوت الأثرياء من الداخل، لا يتجاهل مجيدي وجود الحقد الطبقي، لكنه يميل لتسليط الضوء على سلام النفس الذي قد يقي الإنسان الوقوع في الجريمة، أو الألم النفسي والجسدي الذي يصيب به الحقد صاحبه.. إصابة الأب الجسمانية في حادث بسيط، لا تصده عن منع ابنه وابنته من العمل، الحب يظهر بشدة في إحساس أبنائه به، فالابنة الطفلة لا تسمع وتفشل السماعة التي أحضرها الأب لها في علاج إعاقتها، لكنها تكذب عليه وتقنعه بأن السماعة حلت مشكلتها..
الابن يحلم وأطفال من عمره بمزرعة أسماك تدر الكثير من المال، لكن البرميل الذي يضعون فيه السمك يتحطم وتتحطم معه أحلامهم فيخيم عليهم الحزن، فيغني الأب “رضا ناجي” لهم أغنية العصافير حتى يندمجون معه في الغناء وتعود لوجوههم ابتسامة الأمل..
ربما يريد مجيدي أن يقول مهما طاردك اليأس، حاول ألا تفقد الحلم والغناء..
يوجه مجيدي فيلمه “الشمس” كصرخة عالمية في وجه جريمة عمالة الأطفال وحرمانهم من التعليم، تلك الجريمة الدولية التي لا توجد في إيران فقط. في بداية الفيلم يستعين بإحصائية لعمالة الأطفال عالميا، كما يهدي الفيلم لكل صاحب ضمير في العالم، وكل مؤسسة تستطيع المساهمة في إيقاف تلك الجريمة..
في فيلم “لون الجنة” يستعين مجيدي بشخوص عادية، ليسوا ممثلين، وربما هذا أحد جماليات الفيلم، بالإضافة لطرح تساؤل: كيف يستطيع مجيدي استخراج كل هذا الإحساس والموهبة، من ممثل غير متخصص، خاصة الطفل “محمد” بطل الفيلم، الذي يرمز مجيدي من خلاله للبصيرة، يجسد محمد دور طفل كفيف في الثامنة من عمره، يدرس في مدرسة خاصة للمكفوفين، وأستطيع أن أجزم أن من يشاهد آداء محمد ومعايشته للدور، يظنه فنانا “أبا عن جد”.
والد محمد أرمل بائس، يبحث عن عروس، ويرى أن ابنه محمد عقبة في طريقه، فيرسله للعمل عند نجار أعمى تدور فضفضة من محمد للرجل، يقول: “إن الله لا يحبني، أخبرني المدرس بأن الله يحب العميان لكني لم أصدقه، هل خلقني أعمى حتى لا أراه، قال المدرس تستطيع أن ترى الله بالإحساس، أن تفهم قدرته عندما تلمس الأشياء، سأظل أتلمس بيدي كل شيء حتى ألمس يد الله وأخبره بكل شيء”
هذا الحديث الجريء ربما لم يكن ليمر لو لم يكن على لسان طفل، وهذا الالتقاط الذكي في تمرير التساؤلات التي تعد محرمة يحسب لمجيدي.. محمد حواسه قوية ورغم عدم امتلاكه البصر يمتلك البصيرة.
في أحد أعذب مشاهد مجيدي، نرى محمد ينصت لصوت عصفور يستغيث، يتحرك محمد بخفة حتى لا يفزع العصفور أو يدوسه دون قصد، يفتش بيد رقيقة في كوم أوراق الخريف المتناثرة تحت الشجر حتى يجد العصفور، تطفو السعادة على ملامح محمد، ويجتهد لتأمين حياة العصفور، فيضع العصفور في جيب قميصه، ويتسلق الشجرة بحرص، حتى لا يصاب العصفور بمكروه. يضع مجيدي المشاهد في موقع المشارك، فيخاف المشاهد من سقوط محمد، خاصة وأن كاميرا مجيدي أتقنت اللعب على احتمال وقوع محمد وموت العصفور، يستلقط المشاهد أنفاسه حين يعثر محمد على عش للعصفور، ويشارك محمد الفرح الذي غمر ملامحه بالقدرة على إنقاذ العصفور..
جدة محمد هي أقرب إنسان له، هي طيبة، تحبه وتحب كل الكائنات، تتجلى رحمتها عند إعادة سمكة صغيرة إلى الماء. عند موت الجدة يصبح محمد يتيما بحق، فلم يعد له سوى هذا الأب! يستيقظ ضمير الأب، فيحاول أن يعيد محمد إلى حضنه، يمتطي ومحمد حصانا لكن في طريق العودة ينهار الجسر، ويسقط الحصان ومحمد في النهر المليء بالدوامات..
غرق الحصان، استطاع مجيدي أن يدلل من خلاله على غياب النبل..
يتردد الأب في القفز، ثم يحاول، ثم يقرر نزول النهر لإنقاذ محمد، في مشهد استطاع مجيدي أن يظهر فيه تناقضات المشاعر، وصراعات الضمير على ملامح الأب..
حين يعثر الأب على جثة محمد على الشاطئ، يتحسس أماكن النبض عنده بلهفة، يضمه بقوة راغبا في إعادته للحياة..
يسلط مجيدي الكاميرا على العصافير التي راحت تحلق مغردة بأعلى صوت، وكأنها توجه استغاثة للسماء مما فعلته الأرض بمحمد..
يترك مجيدي النهاية مفتوحة بلقطة قريبة لأصابع محمد تتحرك، أراد منها أن يقول: ليست المشكلة في غياب الأبصار، فالأمل الحقيقي في ألا تموت البصيرة.