هناء نور تكتب : “قطار شادية”
قرأت ذات مرة عن تساؤلات بعض زوار السكة الحديد عن قطار شادية “أين قطار شادية” والمقصود هنا “قطار الديزل الألماني” بالتحديد، والذي ظهر في فيلم ” لوعة الحب” للمخرج “صلاح أبو سيف”
لعل ذكر اسم رائد الواقعية المصرية الذي قدم للسينما أربعين فيلمًا نال عليها جوائز وأوسمة كثيرة في مهرجانات عربية ودولية.. يدفع المهتم للثقة بأن فيلمًا يحمل اسمه جديرًا بالمشاهدة. ومن أهم وأجمل هذه الأفلام فيلم “لوعة الحب” إنتاج سنة 1960 موسيقا تصويرية “فؤاد الظاهري” قصة “جليل البنداري” سيناريو ” صلاح أبو سيف” و “السيد بدير” حوار “السيد بدير” و “جليل البنداري” بطولة معبودة الجماهير “شادية” و “أحمد مظهر” و”عمر الشريف” والفنان “سعيد خليل” الذي قدم مشهدين مؤثرين بشكل كبير في مجرى الأحداث.
لم يأت قطار شادية “آمال” بما تمنته في أول مشاهد الفيلم؛ فأثناء استعدادها الأخير لساعة الزفاف انتصرت في حوارها مع صديقاتها عن فكرة الشراكة الزوجية المبنية على الاختيار المناسب، والذي ليس ضروريًا أن يكون منبعه الحب. وبدت آراء صديقاتها المعارضة للفكرة كمحاولة أخيرة في الوقت الضائع لإبعادها عن تجربة قد تدفعها للندم. لكنها أعلنت وبإصرار وثبات مطلق عن إيمانها بأن الحب يأتي بعد الزواج؛ بالعشرة الطيبة والمعاملة الحسنة.
إلا أن ليلة الزفاف جاءت مخيبة للمنى، وفوجئت “آمال” برجلٍ مخمورٍ، معاملته وحشية، تخلو من أية ملاطفة متوقعة، حتى القبلة التي يجب أن تتسم بكمٍ هائلٍ من العذوبة، وجدته يأخذها عنوة رغم عدم ممانعتها للأمر!
أدى “أحمد مظهر” دور “محمود أفندي” الزوج، سائق القطار بإتقان يشعرك أن الرجل سائق قطار بالفعل، فليس من السهل تقمص شخصية كهذه على برنس السينما المصرية، أو الذي اعتدنا أن نراه كذلك من خلال أدواره الأكثر شهرة. فبدا في هذا الدور حاد الطباع، “جلفًا” بالمعنى الدارج. وكأنه اكتسب هذا الجمود والصلابة من طبع القطار الذي يقود عرباته.. فبدا وكأنه يخشى أن ينتقص اللطف شيئا من رجولته، أو مهنته كقائد قطار!
ويبدو العشق واضحًا جدًا من “محمود أفندي” لعمله؛ فلم يفته في ليلة دخلته التركيز مع صوت القطار المار ببيته معلقًا بشكٍل لا يخلو من دقة مفرطة: “قطر 12 راجع متأخر 7 دقايق، اللي اتأخر ده مش هاياخد مليم واحد إضافي”.
صوت القطار يشارك بقوة كبطل أساسي من أبطال الفيلم؛ ففي هذا المشهد بالذات تجلى اهتمام وتركيز “محمود أفندي” مع صوت القطار، وانتباهه لتأخر موعده، دون الالتفات للصدمة و”خيبة الرجا” البادية على ملامح الزوجة.. فيبدو أن القطار بالنسبة له أهم من زوجته، وليلة عمره، وربما من كل شيء.
مع تكرار مشاهد العنف من “محمود أفندي” في معاملة زوجته، واستمرار “الشخط والنطر” بشكل يمتد إلى معاملة قطتها بذات الصلف، يأتي أداء “شادية” باردًا باهتًا خاليًا من أية روح تحرك، وربما يترك هذا الآداء للمشاهد إحساسه بفقد آمال لروحه المتوهجة واستسلامها لقرارها..
أو يشعر هذا الآداء لدى المتفرج رغم دراسة شادية الجيدة للدور إحساسا لدى المتفرج بأن شادية لم تتقن دورها!
ففي الوقت الذي تصرخ فيه لاعنًا “محمود أفندي” على معاملته “البهائمية” لا تستطيع أن تهتف من قلبك قائلًا: الله. أمام مشهد واحد تقدمه “شادية” حتى المشهد الذي تخبر فيه أمها بعدم شعورها بالراحة، وأنها تصارع لتكمل في هذه الحرب الباردة.. تشعر بأن المعاناة خارجية، ليست نابعة من داخلها!
هذا أكد لي فقدان آمال لروحها حقا..
مع ظهور “عمر الشريف” حسن العطشجي. تصبح “شادية” بين اثنين من أهم نجوم السينما في التمثيل، وبين حبيب وزوج “حسب” السيناريو.
“عطشجي” أصلها “آتش” وهي كلمة فارسية بمعنى نار، أو وقود، أضيف إليها “جي” (guy) كلمة شبابية عامية تعني رجل “آتش جي” رجل النار، أو رجل الوقود.
“حسن العطشجي” حسن الخلق، والاسم، والملامح.. يوقد حياة “آمال” المطفأة.
يضاف هذا الدور رغم صغر حجمه للأدوار التي برع “عمر الشريف” في أدائها. ببساطته وتلقائيته المعهودة يستطيع إيصال معاناته الروحية وعذاب الضمير لوقوعه في غرام زوجة صديقه، وإحساسه في ذات الوقت بغرام تلك المرأة.
دخل “حسن العطشجي” البيت بغرض إحضار “الماهية” الراتب الشهري، الذي عمل له “محمود أفندي” توكيلًا” بصرفه بدلًا منه لاضطراره للغياب عن بيته ربما لعدة أشهر؛ فهو حيث تحدد له مهنته كيف، وأين يكون.
تتطور الأحداث سريعًا؛ ففي لحظة إحضار “آمال” واجب الضيافة لحسن تسقط زجاجة الكازوزة متشظية إلى أجزاء غير دقيقة، وتلتوي قدمها متحدة مع قطعة زجاج تحدث جرحًا عميقًا، ولأن “حسن” عطشجي، وليس طبيبًا، أو صاحب دراية بمهام الصيدلي. كان عليه أخذها فورًا إلى مستشفى السكة الحديد لإجراء ما يجب أن يتم في مثل تلك الحالات.
ما لم يكن في حسبان “آمال” الوسيلة التي ستنقلها إلى المستشفى، لذا فوجئت لحظة دعاها “حسن” للركوب خلفه على الموتوسيكل!
وقد رأيت هذا المشهد أجمل مشاهد الفيلم؛ إذ إن “آمال” كانت بحاجة بالغة لمن يطيب الجرح، ليس الجرح السطحي، وإنما جرح الروح الأعمق الذي بدأت إجراءات مداواته من لحظة التفاف ذراعيها حول خصر “حسن” والتشبث به جيدًا، أثناء قيادته الموتوسيكل وإحساسها بالطيران وقت انطلاق الموتوسيكل..
تكررت لقاءات “حسن” و”آمال” بحجة الاطمئنان على شفاء الجرح، رأت فيه “آمال” سمات الرجل الذي حلمت به كنموذج لشراكة زوجية ناجحة؛ رجل لين القلب، حتى القطة بدا حنونًا للغاية معها.
توهمت “آمال” الوقوع في حبه، وهي في حقيقة الأمر كانت في حالة احتياج جم لحنان مفرط كحنانه أما حسن فوقع بلا سبب في غرامها.
لعب القطار دورًا مهما في علاقتهما، فاتفق “حسن” أن يطلق صفارتين لحظة مرور قطار 128ببيتها، ولعل نظرة “شادية” نحو الشباك لحظة سماع كلمة السر وتجسيدها الإحساس بقرب الحبيب من أجمل ما أدت في الفيلم.
Easy come easy go
برع الإنجليز في هذا التعبير، ها هو “حسن” يحاول الهروب منتصرًا لضميره الذي لا يكف عن تذكيره بخيانة صاحبه.
تعرف “آمال” عن طريق زوجها بمحاولات حسن للهروب فتقرر مواجهة “حسن” والدفاع عن حبٍ أتاها من حيث لا تحتسب.