هناء نور تكتب :
هل المعرفة حقا في الحنين؟!
ربما يشعر الجميع بالحنين إلى الماضي، لكن البعض لا يعرف معنى كلمة “نوستالجيا” التي هي عنوان فيلم المخرج الإيطالي “ماريو مارتوني” ومن تأليف “إرمانو ريا” وإنتاج عام 2022 كلمة ‘نوستالجيا” يونانية الأصل وتستخدم للتعبير عن اشتياق الشخص إلى ماضيه، أو الإحساس بالغربة والشتات، والحاجة الماسة للعثور على وطن حقيقي..
ينجح المخرج في اختيار نقطة التأسيس جيدا؛ إذ نرى الفيلم يبدأ بطائرة متوجهة من “مصر” إلى “إيطاليا”. تلك الطائرة معبرة عن حال البطل “فيليس” الذي هو كالمعلق في الهواء كهذه الطائرة تماما؛ لا يستقر على أرض ثابتة، وتظل نفسه حائرة بين مصر وإيطاليا.. بين حاضره وماضيه.. في مشهد الطائرة الافتتاحي نشاهد “فيليس” وهو رجل خمسيني يتحدث للمضيفة بلهجة مصرية ولكنة أجنبية، ويبدو حزينا أو مشتتا..
رغم أن الهدف من زيارة فيليس “نابولي” هو زيارة والدته “تريزا” المريضة العجوز التي يعرف عنوانها جيدا.. يقرر النزول في فندق تطل غرفته فيه على مدينة نابولي..
قبل أن يغادر فيليس الفندق نراه يخلع ساعته الذهبية ويضعها في خزانة الغرفة ويغلق الخزانة برقم سري. يعد هذا الحدث نقطة الانطلاق في الفيلم، فرغم أن الوقت من ذهب كما يقال، إلا أن فيليس يبدو راغبا في تعطيل سير عقارب الزمن إلى الأمام..
يتجول فيليس في شوارع “نابولي” بعد 40 سنة من الغياب وكأنه يبحث عن شيء ما، يبدو حائرا؛ ربما يشعر أنه لم يغادر مصر، أو بأن مدينة نابولي هي التي لم تتغير عما تركها عليه! ربما يختلط الأمر أيضا على المشاهد المصري الأمر؛ فيظن أن شوارع نابولي هي نفسها شوارع القاهرة.. فالتشابه يبدو كبيرا بين المدينتين في الشكل الخارجي والفقر المادي الظاهر في بعض الشوارع ومظهر الناس والبيوت.. وجمال المدينتين أيضا من الأماكن المرتفعة ليلا..
في المشهد الذي يسبق زيارة فيليس لوالدته.. نراه يقف في بلكونة الغرفة وظهره إلى المدينة التي تبدو جميلة مضيئة في عمق الكادر..
أما فيليس فيظلله أسلوب الإضاءة المعتم، فلا يكاد يظهر منه سوى سيجارته المشتعلة، وربما أراد المخرج بهذا المشهد أن يوضح أن ما ينتظر فيليس ليس مشرقا أو ربما لا يحمل نقطة ضوء..
في لقائه الأول بوالدته يكتشف أنها باعت البيت الذي عاش فيه طفولته ومراهقته للحصول على المال..
وفضلت البقاء في شقة صغيرة شبه معتمة.. يقلب فيليس ألبوم الصور؛ إذ لم يتبق من ماضيه سوى تلك الصور من طفولته وشباب والديه وأيضا تلك الصور التي تجمعه بصديق مراهقته “سباسيانو” الذي ستكشف الأحداث فيما بعد أسرار علاقته الوطيدة به.. يلاحظ أيضا فيليس حاجة والدته الماسة إلى النظافة الشخصية ونظافة المكان بقدر حاجتها إلى الحنان..
يحاول مرة أخرى إقناعها بالسفر والعيش معه في القاهرة، قائلا: “القاهرة مثل نابولي تماما” لكن الصمت يوضح تمسكها ببلدها. بعد أن يحضر فيليس كل ما تحتاجه والدته من أدوات نظافة وثياب ومفروشات نظيفة، نراه يتوضأ لصلاة المسلمين؛ فنعرف أنه من أب مسلم وأم مسيحية..
يعد هذا المشهد الذي يساعد فيه فيليس والدته في خلع ثيابها المتسخة ثم مساعدتها في الاستحمام، من أجمل لحظات الفيلم وأكثرها شاعرية، فقد أضاف به المخرج معنى جديدا للصلاة وهو آداء الواجب وبر الأم، والتراحم..
كما بدت اللقطة العامة في الحمام لفيليس وهو “يحمم” أمه؛ كلوحة فنية، ضاعف المخرج من جمال معانيها بتلك الخلفية الموسيقية التي تلائم طقسا دينيا شديد القدسية..
يلتقي فيليس برجل أحب والدته كثيرا في الماضي ويتبادلان الحوار الذي نعرف من خلاله أن فيليس سافر قبل 40 سنة من نابولي مع قريبه اللبناني لأبيه إلى لبنان ثم إلى مصر التي عاش وعمل وتحقق وتزوج فيها بعد الهرب من واقع ملوث في نابولي.. ترى ما الجرم الذي دفع فيليس للهروب من نابولي؟!
تتخلل الفيلم لقطات فلاش باك توضيحية لعلاقة فيليس بصديق المراهقة سباسيانو، وما كانت تحمله تلك العلاقة من جرائم نشل وسرقة.. وضحك وتسكع في الطرقات.. كما يبدو الحنين على ملامح فيليس لتلك المرحلة!
هل حقا كان الهدف الرئيسي من زيارة فيليس نابولي رؤية والدته؟ بعد وفاة والدة فيليس كان المفترض أن تنتهي علاقته بنابولي؛ لكنه في وداعها بالكنيسة يصادق القس “لويجي” ويحاول الاستعانة به للعثور على بيت في نابولي.. ويظهر ذلك نيته في الانتقال مع زوجته إليها للإقامة فيها..
من خلال محادثات فيليس مع زوجته عبر الهاتف نكتشف أنها تنتمي لأصول عربية من خلال لكنتها، وأنه يحبها كثيرا وعلاقته بها تبدو ناجحة, وأنها هي من حرضته لزيارة نابولي حتى يرى والدته, فهو لم يكن يرغب في زيارة نابولي أبدا..
لكنه بعد وفاة والدته يريد البقاء فيها! “سباسيانو” صديق مراهقة فيليس وشريكه في الماضي الملوث هو ما يجذب فيليس بقوة للبقاء في نابولي..
مشاهد الفلاش باك المتكررة باك تؤكد حنينه لسباسيانو وأيام الصبا.. رغم ما تحمله من أحداث مخجلة.. هل يستطيع الإنسان الإفلات من قدره رغم كل التنبيهات؟! منذ أن يعلم القس “لويجي” برغبة فيليس في اللقاء بسباسيانو..
يحذره ويساعده بطرق متعددة للرجوع عن قراره.. لأن سباسيانو لم ينجح في بناء حياة مستقرة نظيفة مثل فيليس.. بل استغرق في الماضي حتى أصبحت لديه شبكة إجرامية..
الاندماج مع أصدقاء جدد إحدى الطرق التي اتبعها القس لويجي لانتشال فيليس من فخ ماضيه.. في لقاء فيليس بأصدقاء لويجي من رجال ونساء نراه مندمجا في الأجواء إلى درجة يظن فيها المشاهد أن تراجعه عن لقاء سباسيانو ليس بالمهمة المستحيلة..
نلاحظ في قول فيليس لأصدقاء لويجي: “البيتزا المصرية أفضل من الإيطالية” تعلقه بمصر أيضا، هذا التعلق بمصر التي يريد فيليس نقلها معه وزوجته إلى نابولي اتضح بقوة أكثر حين حضر حفل غنائي مصري فوقف يرقص بفرح ويردد كلمات الأغنية المصرية، ثم أجرى مكالمة فيديو مع زوجته يشاركها فيها أجواء الحفل مؤكدا لها أنها لن تفتقد مصر عندما تعيش في نابولي..
ربما يحسب هذا المشهد الذي شارك فيليس أصدقاء لويجي شرب النبيذ للمخرج ماريو مارتوني؛ إذ أظهر صورة لمسلم ملتزم بتدينه دون مغالاة أو تطرف كما يحدث في الكثير من الأعمال الفنية..