هواة النقد وعثرات الأقلام
“وعي الهزيمة– إعادة اختراع المعنى” نموذجاً
فراس حج محمد/ فلسطين
تنويه ضروري للنشر مع المقال:
* نشرت المقالة في مجلة الجديد (لندن) التي يرأس تحريرها الشاعر السوري نوري الجراح، في العدد (80)، أيلول، 2021، تحت هذا الرابط: https://2u.pw/PMShe، وبعد تدخلات يظهر أن لأحمد زكارنة يدا فيها أو بعض معارفه ممن لهم صلة بمجلة الجديد وهيأة تحريرها، تم حذف المقال من موقع المجلة، ليبشر بذلك أحد أصدقائه بهذا الحذف. ولم يدر أن حذف المقال عن موقع المجلة أمر معيب يضع المجلة وأسرة تحريرها في ورطة أخلاقية كبيرة، ويمسّ حرية الكتابة والتعبير عن الأفكار، ولكن يبدو أن العجز يدعو إلى العنف، فليس من الصحة الفكرية حذف المقال لمجرد أن صاحب الشأن منزعج، على الرغم من أن المراسلات بيني وبين المجلة، تؤكد إحالة المقال على لجنة النشر، وأجازته اللجنة، وتم نشره بناء على ذلك مع تغيير العنوان، فــ “قلم التحرير” هو من وضع العنوان أعلاه، ولم أعترض، فالمسألة ليست ذات فرق كبير بين العنوانين. أما العنوان الأصلي فكان “الكتابة النقدية ومشاكلها عند غير المتخصصين”.
هنا أعيد نشر المقال مرة أخرى، مطلعا الوسط الإعلامي والثقافي على هذه السابقة الخطيرة التي تؤشر إلى نوع من المافيا التي هي أقذر من مافيا السياسة والمال والسلطة والمخدرات.
تبرز في كتاب الكاتب والإعلامي أحمد زكارنة “وعي الهزيمة- إعادة اختراع المعنى” مشاكل نقدية جمّة ناجمة عن كونه يكتب حول أعمال أدبية متنوعة دون أن يكون هناك فكرة يتمحور حولها الكتاب، فظهرت العديد من “المطبات النقدية” التي لو انتبه إليها جيدا بالقليل من التحرير لتخلص من الكثير منها.
يقوم الكتاب وينشأ على منطق التأليف التجميعي لعدة مقالات مكتوبة في فترات متباعدة كقراءات لأعمال أدبية سردية وشعرية وبحثية، يرتبط الكاتب مع أغلب كتّابها بعلاقة صداقة، وسبق أن استضاف بعضهم غير مرة في برامجه التلفزيونية، ففي كل برنامج جديد يقوم بعملية تدوير لضيوفه، فكانوا هم أنفسهم في كل برنامج تقريباً. هذه مسألة هامشية هنا، ولكنها مركزية في نظرة الكاتب الكلية للمشهد الثقافي الفلسطيني الذي لا يرى فيه الكاتب سوى أسماء محددة، وتغيب أسماء أخرى، مع التسليم بأهمية الأعمال والأسماء التي تحدث عنها، لكنه يسعى ككل أجهزة الدولة المنحازة- كونه إعلامياً في جهاز حكومي (هيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطينية)- إلى ترسيخ المكرس وإقصاء المهمش إلى أقصى قدر مستطاع من الهامش، ليصبح عدما ومتلاشيا، كأنه لا يوجد على خريطة الوطن والإبداع والكتابة. ولذلك يجد القارئ انحياز اللغة للأعمال الأدبية انحيازا يحميها من “الانتقاد”، فهي أعمال ذات سوية عالية، ونماذج عليها كما تظهر في لغة الكاتب، وعباراته المادحة التي تحمل أحكاما تقييمية من ناحية فنية، عدا في ثلاثة مواضع، وجه انتقادات جزئية لثلاثة من الأعمال البالغ عددها في الكتاب عشرين عملاً.
هذه بالفعل مشكلة عويصة، ومرض عضال لن نسلم منه لا قريبا، ولا في المستقبل، وستظل المنظومة الإعلامو-ثقافية تنتج ثقافتها المنحازة ضمن هذا الأفق، وتفرّخ عاهات إلى أمدٍ؛ متسع لهؤلاء، ضيق على غيرهم.
إن فكرة إنشاء كتاب وتأليفه وتوليفه من مجموع مقالات عملية شرعية ابتداء ولا غبار عليها، واستخدمها الكتاب جميعا من طه حسين إلى إدوارد سعيد إلى رضوى عاشور إلى الكتاب الغربيين. ولكن يجب البحث عن فكرة جامعة بين هذه المقالات، أو تركها خلوا من الفكرة الجامعة، لتظل “مقالات في الأدب أو في النقد” مثلا، كما فعل توفيق الحكيم مرة وعنون كتابه المنوع عنوانا شاملا لكل ما جاء بين دفتيه “تحت شمس الفكر”، أو مقالات طه حسين التي جمعت تحت عنوان جامع “حديث الأربعاء”. وكان الأولى بالكاتب المؤلف أن يختار اسما جامعا مناسبا؛ فالعنوان الأول “وعي الهزيمة”، ليس له علاقة كبرى بكل المقالات المكتوبة، وكذلك العنوان الفرعي “إعادة اختراع المعنى”، بل إن هذا العنوان لا معنى له، وقد وجد مرة واحدة في الكتاب خلال الحديث عن رواية وليد الشرفا “ليتني كنت أعمى”، فأي معنى سيخترع الروائي أو المؤلف ليعيد أحمد زكارنة اختراعه في الكتاب؟
عدا ذلك، فإن الجمع بين عدة أجناس أدبية مختلفة الأفق والنظرة والفنية وإخضاعها إلى التأطير التأليفي ضمن كتاب واحد، وتحت عنوان واحد، يجلب الكثير من الإشكاليات في حقل الكتابة ذاتها، مع ملاحظة أن ما تحدث به عن الشعر غير ما تحدث به عن السرد بأنواعه المختلفة. هذه إحدى إشكاليات التأسيس التأليفي في كثير من الكتب التي يجبرها الأصدقاء على أن تكون كتبا نقدية “ذات استنتاجات عميقة” على حد وصف محمود شقير المبالغ فيه جداً للكتاب.
والنقطة الأخرى الجديرة بالتوقف عندها قبل الدخول إلى الكتاب ومقالاته، وهي بحث المؤلف أحمد زكارنة عن شرعيات لكتابه عبر المقدمة والتظهير؛ المقدمة التي يكتبها محمد عبيد الله مسبوقا اسمه بـ (أ. د) بمعنى أنه يكتب ضمن هذه الهالة الأكاديمية التي تشيعها الألقاب في نفوس القراء، على ما في هذه المقدمة من أخْذ الكتاب إلى مناطق لا يستطيع أن يسير فيها، وسيظل عاجزا عن المسير فيها حتى وإن قاده ومهّد له الطريق أستاذ دكتور وناقد أكاديمي معروف. ينهي الأستاذ الدكتور مقدمته بقوله: “فهو ينتمي (الكتاب) إلى ضرب من الجدل والحجاج النقدي الذي افتقدناه في ظل الكتابات الصحفية، وفي ظل ثقافة المجاملة ووسائل التواصل التي شاعت هذه الأيام”. فعن أيّ حجاج وجدل نقدي يتحدث البروفسور عبيد الله وهو يعلم-ربما- أن الحجاج لا يكون بمثل هذه المقالات الصحفية ولا بهذه الطريقة من الكتابة غير المنهجية، فللحجاج منهج يقوم عليه أيضاً؟ فهل أراد عبيد الله ممارسة نوع من التدليس ليكون مجاملاً وهو يهاجم المجاملين والنقد الصحفي؟
ويعزز المؤلف شرعيته مرة أخرى في التظهير الذي يكتبه محمود شقير، وهو صديق للمؤلف، ولغة المدح بينهما عالية، ومستوى المجاملة مرتفع إلى أعلى ما يمكن أن تصل، جاعلا شقير من الكتاب “المنقذ من الضلال”، فهو “يعزز حضور الهوية الوطنية، ويعطل مفاعيل الهزيمة، ويتجاوزها إلى بديل حضاري إنساني قادر على تعرية الهزيمة وصانعيها؛ في إطار التطلع إلى غد حر مبرأ من قيود العسف والقهر والتبعية والخنوع والظلم والظلام”. إن ما أفاض شقير به على كتاب زكارنة لا شيء في كتابه منه، فما هو إلا مجموعة مقالات صحفية تحاول أن تتحدث عن أعمال أدبية بلغة ومصطلحات مفبركة وغير علمية وغير دقيقة من ناحية نقدية، فمن أين لكتاب زكارنة كل هذه المفاعيل الحيوية؟ السؤال ليس لمحمود شقير فقط، بل لكل من قرأ الكتاب كذلك.
وحتى يتبين القارئ والناقد حدود المعنى دون الحاجة إلى اختراعه، ستعرّف المقالات بكاتبها وبلغته وبمنهجية الكتابة ذاتها داخل حدود المقال نفسه. يقر الكتاب في مقدمته أن هذه القراءات قائمة “على مقاربات معرفية انطباعية، استفادت من عديد المدارس النقدية، ولكنها لم تقم اعتمادا على أي منها”.
يلاحظ من خلال هذا المقتبس أن الكتابة انطباعية في الدرجة الأولى، وليس من مشكلة في المنهج الانطباعي النقدي، بل هو- كما يعده الانطباعيون الغربيون أصحاب المنهج- هو أصل النقد ومداره، وكل المنهجيات الأخرى ما هي إلا إبعاد للعمل الأدبي عن أدبيّته، أو تفسيره علميا بما لا يتوافق وأهداف الأدب، ما يعني القضاء على أهم ركن من أركان الأدب وهو الناحية التذوقية الانفعالية التأثرية التي يحدثها العمل في نفس قارئه، فإذا تحول العمل إلى مجموعة من الخطوط والجداول واللوغاريتمات بطُل أن يكون عملا أدبياـ لأن الأدب شغله الشاغل التأثير في عاطفة القارئ وعقله معاً، مهما كان هذا القارئ ومهما كان مستواه المعرفي. لذلك أرى أنه من المحمود للنقاد جميعا أن يكونوا انطباعيين لا علميين ولا منهجيين (الالتزام بالمناهج النقدية وحذافيرها)، ولا أكاديميين، إن أرادوا خدمة الأدب والأدباء وحركة النقد والثقافة بشكل عام، لأن هذا النوع من النقد هو النقد المعلّم الباقي والأكثر تداولا وتأثيراً وأهمية.
هذه الانطباعية المحمودة في النقد، لم يلتزم بها أحمد زكارنة في كتاب “وعي الهزيمة”، بل كان أقرب إلى التلفيق والتقاط المصطلحات من المناهج: البنيوية والسيميائية والتفكيكية دون أن توظف بحقيقتها النقدية التي طرحها أصحابها في مناهجهم، إنما- هكذا بدا لي الأمر- وجد في معجمه ألفاظا مثل: الدال والمدلول، والسيميائية، والتفكيك، واعتباطية المعنى، والأنا العليا، ملتقطة من قراءات غير منهجية فأدخلها في المقالات دون أن تكون مبنية عليها، ولكنه يوهم نفسه أنه كما قال “استفادت من عديد المدارس النقدية، ولكنها لم تقم اعتمادا على أي منها”، فهل بهذه الصورة تتم الاستفادة من المدارس والمناهج النقدية بالتقاط مصطلحات تزخرف المقال دون أن تقرأ العمل الأدبي بناء عليها؟ عدا ما يتبادر إلى الذهن من خلل في إدراك بعض المصطلحات من مثل: السادية والسيرة الغيرية والنص المفتوح، ففي هذه المصطلحات التباس كبير في الاستخدام والتوظيف عندما أشار إليها الكاتب في مواضعها من الكتاب.
ومن أهم المصطلحات التي استخدمها الكاتب وحدث فيها التباس كبير هو مصطلح “السرديات” الذي يوظفه خلال بعض قراءاته، ويؤسس له في المدخل، وهو يعني به ما يقرأه من مدونات أدبية شعرية وقصصية وروائية وبحثية، عدا هذا الخطأ المفهومي العام فإنه يُدخل الشعر والبحث المنهجي “دعامة عرش الرب” ضمن هذه المدونات الأدبية، ما يدخل القارئ في فوضى من المصطلحات والإرباك في استخدامها في حال طَبق على كل النصوص المدروسة مصطلح “المدونات الأدبية” التي تصدق على القصص والروايات، ولا تنطبق على البحث المنهجي الذي كتب فيه مقالته.
ويشير مصطلح “السرديات”، كما هو في “معجم السرديات” إلى أنه “علم يتناول قوانين الأدب القصصي”. (معجم السرديات، مجموعة مؤلفين، إشراف: محمد القاضي، ص249) أو ما أطلق عليه رولان بارت “علم السرد”. فـ”السرديات” هي الدراسات التي تتناول الفنون القصصية والروائية، وليس تلك المدونات الأدبية محل الدراسة. وفي كتب مصطلحات النقد البنيوي الكثير من الشرح المفصل حول السرد ومفهومه المتعدد والسرديات وحتى مصطلح “السردية”، فليست هي مفرد لمصطلح “السرديات”، بل لها مفهوم مختلف، يؤشر إلى “مجموعة الخصائص التي تصف السرد” (قاموس السرديات، جيرالد برنس، ترجمة: السيد إمام، ص132″، وتُبحث في المعاجم المختصة مستقلة عن غيرها. وإن أراد الكاتب لفظا يشمل النصوص القصصية والروائية التي تلتقي حول السرد كان بإمكانه أن يستخدم مفردة “سرود”، وهي جمع سرد، ففي ذلك مندوحة عن الوقوع في الخطأ واضطراب المفاهيم.
عموماً، يعاني النقد العربي التطبيقي والانطباعي في الغالب من سوء فهم المصطلحات النقدية الأجنبية الواردة من مناهج نقدية لها منطلقات فلسفية وفكرية عميقة الجذور، ولن تفهم تلك المصطلحات بمعزل عن الظروف التي أنشأتها، عدا أن الترجمة تتحمّل جزءا من هذا التخبط في التعامل مع المصطلحات، ولا أقصد هنا ما استخدمه زكارنة في كتابه، فنحن كقراء لا نملك المعجم اللغوي والسياقي- إن كان للسياق معجم- للكاتب والناقد الغربيين، ولا يوجد بيننا وبينهم أرضية مشتركة لنفهم مصطلحاتهم أو ندرك مراميها وتطبيقاتها على نصوصهم ونصوصنا، بوصف النصوص أبناء شرعيين للظروف والبيئة العامة والخاصة لكتابها. لذلك تتولد إشكالية فهم كتاباتهم، فنتعامل معها بالتخمين والظن والعسف والاعتباط في التفسير والغموض، فتدب الفوضى نتيجة ذلك؛ نظرا لكثرة عدد المشتغلين بالنقد، وهكذا يصبح القارئ في غربة عن النقد والنقاد، وبالتالي يصبح النقد عديم الفائدة؛ لأنه بلا قراء، فلا أحد يفهم ما يكتب، ومع ذلك نُصرّ على استخدام “سلة” من المصطلحات عشوائيا ودون هدف، فيضيع النص، وتتعقد اللغة، ويتلوى سؤال الناقد على نفسه، ظنا منه أن السؤال المعقد ابن شرعي لثقافة النخبة، ولكنه لا يدري أي خلل تحمل هذه الطريقة، وأنها حبلى بالتساؤلات التي تجرّم النص النقديّ، وتجعله في عزلة تامّة بحمولته الاصطلاحية التي تثقل كاهله.
إن هذه المسألة- على خطورتها- تشي بعملية “تثاقف” خادعة، وتنبئ عن وهم نقدي عند القراء والباحثين. فما الذي سيخسره الكاتب لو التزم بانطباعيته مع تطعيمها بأفق معرفي من قراءاته العامة دون الاستناد على مصطلحات مدسوسة في القراءة النقدية للإيهام؟ أظنّ لو التزم بذلك لاستطاع أن يكتب مقالا نقديا جيدا، أو على الأقل مقبولاً ضمن معايير النقد الأدبي الانطباعي.
تأخذني هذه العملية إلى المزيد من التثاقف الظاهري المتمثل في “النقولات” من الاقتباسات والتضمينات المجتزأة من الكتّاب الكبار والنقاد، دون أن يكون لها داعٍ، إنما فقط إقحام لتلك “النصوص” لتسير ببطء ونشاز إيقاع مع جسد الفقرة التي وجدت فيها، وفي أحيان كثيرة حذْفُ تلك التضمينات لا يؤثر قليلا أو كثيرا في المقال وفكرته أو في بنيته. ولا يكاد يخلو مقال من المقالات العشرين من هذه العملية التي تدس “المنقول” دون أن يكون لهذه المنقولات وجه واضح في الدلالة على “المعقول” النصي.
عليّ التسليم قبل الحديث عن النقطة الآتية أن الكتاب غير أكاديمي وغير منهجي، وبالتالي لا يجوز محاكمته بناء على المنهجية الصارمة، وخاصة في أدق أمور منهج التأليف، وسأخرج “التوثيق والإحالات” من منطقة العفو، لأن الكاتب قد أصر على توظيفها، لكنه لم يلتزم بمنهجية واحدة في الكتاب، عدا أن هناك صفحة بداية كل فصل يكتب فيها الأعمال التي يشتمل عليها الفصل موثقة بالكامل تقريباً، ثم يعيد توثيق كل عمل مع كل مقال، وقد بدت هذه الصفحات الأربع لا قيمة لها بحثية أو توثيقية. وجاءت حشوا يثقل بنية الكتاب بالمزيد من الصفحات غير الضرورية. أما الأمر الآخر المتصل بالتوثيق، فقد أهمل الكاتب في مواضع عدة توثيق بعض النقولات المشار إليها في الفقرة السابقة.
لم يتعامل الكاتب مع الأعمال الأدبية “المنقودة” بطريقة واحدة خلال كتابة المقال، إذ يسهب أحيانا في الشرح حول الفكرة وفكرة الفكرة والمعنى ومعنى المعنى لعمل من الأعمال، ويجنح إلى التأويل، وفي أحيانا يكتفي بالمرور فيعبّئ المقال بالاقتباسات المتتابعة من العمل، دون أن يحلل أو يشرح، كما فعل في المقال الذي تناول فيه رواية وليد الشرفا “ليتني كنت أعمى”. إن تلك الاقتباسات المتكاثرة في المقال غيبت صوت الناقد المفترض، لتكون المحصلة نقولات من الرواية أكثر من لغة الناقد ذاته. وهذه- بطبيعة الحال- مشكلة كبيرة في بنية المقال، وتؤشر إلى أحد أمرين؛ إما عجز الناقد عن تفسير النص والغوص فيه، وإما الكتابة من خارج العمل إرضاء للروائي نفسه. وكلا التفسيرين يحدث خللا في مآلات المقال المعرفية وفي العملية النقدية برمتها وتجعلها في مهبّ الريح، ويدخها في باب المجاملة التي ينكرها أ. د محمد عبيد الله عندما أشاد بالكتاب في مقدمته.
هذه الإشكاليات النقدية التي صاحبتها لغة فيها نوع من الغموض، واجتراح لغة غريبة، يحاكي فيها المؤلف لغة كتاب النقد الآخرين، جعلته يقع في مطب الكلام عديم الفائدة والخالي من المضمون المحدد، ما يشير إلى خلل في الجهاز المفاهيمي النقدي الذي يفتقر إليه المؤلف افتقارا واضحاً.
عدا ما يوظفه الكاتب من ضمير “نحن” في الإشارة إلى ذاته، وهذه الطريقة وإن وجدت عند كبار الكتاب ذوي الباع الطويل في الكتابة والنظرة الفلسفية والفكرية، لا يصح أن تستخدم مع كتاب المقالات الذين ما زالوا يتعلمون النقد وأدواته، بل عليهم أن يتواضعوا كثيرا، لأنا الباحث المتعلم، لأنهم ما زالوا في طور بناء جهازهم النقدي الذي ما زال غير مشكل على هيئة ما تعطيه بصمته الخاصة، لعلهم يصلون يوماً إلى لغة نقدية منضبطة المصطلحات، وطريقة أكثر منهجية مما هي عليه عند أغلب كتاب المقالات النقدية، وليس عند أحمد زكارنة وحده، وفي الكثير من الكتب، وليس فقط في كتاب “وعي الهزيمة”.
وبالمجمل لقد بدت مقالات هذا الكتاب في أحسن حالاتها توصيفاً “مقالات رأي” قصيرة، لا ترقى إلى الكتابة النقدية الرصينة، تلك التي تحلل الأعمال الأدبية ككل متكامل، وإنما جاءت مقالات تضيء على جانب معين من العمل، وكأنها تعليق محمّل بفكرة الكاتب نفسه، فهي تمارس دور الإسقاط الفكري؛ إسقاط ما في الذات من أفكار وتلفيقها على العمل المنقود، وعليه فقد ظلت فكرة العمل الأدبي باهتة متوارية، فلا أدري كيف رأى محمود شقير ومحمد عبيد الله ما رأياه في الكتاب، ليحكما عليه ذلك الحكم الذي يعطيه حصانتين كبريين، لكنهما حَصانتان أقرب إلى الخديعة منهما إلى التعريف الحقيقي بالكتاب، وهذه مشكلة أخرى يتحملها صاحباها أخلاقيا وأدبيّاً.