: قراءات نقدية
“من مجاز السرو إلى حقيقة الدمن”
قراءة في مجموعتين قصصيتين جزائريتين
بقلم: محمّد فتيلينه / الجزائر
بخطى سردية حثيثة، وبنفسٍ لغوي جديد استهل بعض الكتّاب الشباب الجزائريين موسهم الأدبي، عبر استحضارهم لجنسٍ أدبي له فيما مضى جمهور وذوّاقة. نتحدّث هنا عن فن “القصة القصيرة”. فمن خلال عناوين متجدّدة ورؤى فنية مختلفة، نُشرت حديثا كل من مجموعتي “مجاز السرو” عن دار بغدادي، للكاتب “عبد الوهاب عيساوي” –الحائز مؤخرا على جائزة آسيا جبّار للنص الروائي- ومجموعة “السر الذي لم يدفن مع الحمار” عن دار ميم، للقاص “مسعود غراب” –الحائز هو الآخر على جائزة القصة – لتفتح المجموعتان سويا مجال النقاش عن إحياء هذا الجنس، الذي أخذ كالعديد من الأجناس الأدبية الأخرى طريقا قسريا للانزواء، على حساب “الرواية”، التي دلّلها النشر وأمست معبودة الجوائز والجمهور.
“مجاز السرو”
تتشكل مجموعة”مجاز السرو” القصصية من تسعة نصوص، هي أقرب إلى النَفَسِ الروائي من تسعة قصص شبه طويلة. وقد بدأت بالنص الذي أخذت المجموعة عنوانها منه، والحامل للغة محدثة تقترب من اللغة الروائية المجردة والمنتقاة، والتي تنتصر للبنى وللحيثيات، على حساب الإيغال في مدلولات اللغة وتراكيبها والاطناب في الإيحاء والتّداعي، وقد اتكأت على التفاصيل في وصفها ومجازها، لتعين القارئ بذلك على ترسيخ مفهومها الجديد [مفهوم القصة إجمالا]، المعتمد على الصورة الكلية في التوصيف، وعلى استبطان جمالياتها من خلال كل جزء فيها.
ويعتبر النص الأول في المجموعة سيرة ذهنية للفنان فان غوغ ومحاولة لإعادة قراءة لوحاته كتناص في السرد، وضمن بعض تفاصيله قصة حبّ تنتصر لنظرة الفنان أكثر من نظرة الإنسان العادي، وهي محاولة من الكاتب على ما يبدو لإبراز إبداع تلك الروح الكامنة في كل منّا، والتي تكون أبرز ما تكون في كيان المشتغل بالجانب الفني من مثل فان غوغ. وعبر هذه الافتتاحية للنص تبرز هوية المجموعة، ولا يكاد القارئ يلحظ الاستثناء إلا مع النص الأخير، المختلف في البناء وحتى في عتبة العنوان “ينابيع النور”، إذ هي رحلة صوفية لبطل يبحث عن ارثه وهو مفتاح لباب مغلق، وقد يكون داخل ذاته أو يكون لباب حقيقي، بنية القصة تعتمد على رحلتين واحدة تبحث في داخل الإنسان وأخرى تبحث عن المفتاح عبر مسافة مادية، لتتداخل هنا المادة بالحس، ويُعاد استحضار السؤال القديم الجديد: الجسد أم الروح، الكيان أم السريرة، البناء أو المعنى؟.
وبين المجاز والنّور، تنتقل المجموعة من عوالم البشر الاجتماعية، وتفاصيل يومياتهم، وأزمات طبقاته، داخل المكان الضاجة فضاءاته بالاختلاف والتنوع، عبر القصص الثلاث الأولى “المخمنون، المتخيل، عبور الروبيكون“، إلى الانتقال نحو الغرائبية المتخفية مجازا وراء الرواية [وهي أحد مواضيع تلك النصوص]، بدءا بنص “وقائع الليلة العجيبة” ووصولا إلى “الصيرفي” ذلك التاجر المولع بالتحف، وقد عاش بمرارة فراغا بعد موت زوجته ورحيل ابنته. لتتعمق علاقته في هذا الفراغ، بالأشياء والتحف حتى تجاوزت علاقته بالبشر.
“السر الذي لم يدفن مع الحمار”
يتبادل في مجموعة مسعود غراب قصصية الحوار والحكي الدّور بين البروز والغياب. وقد نسجها بلغة بدت سلسة وواضحة لقارئ عادي يهتم بالتفاصيل ولا يغوص كثيرا في البناء الأدبي أو اللغوي العميق. استعان القاص في النصوص الثلاثة الأولى من مجموعته (وهي في حدود إحدى عشرة نصا) بكثيرٍ من الجملٍ القصيرة، والتّداعي، كأنها يعطي فلاشاتٍ عبر العناصر اللسانية للمحتوى الواقعي للحكي، وهو ما يتماهى وواقعية الحدث وهواجسه، التي يحاول القاص إبرازها من خلال العديد من الصور والشواهد الاجتماعية.
استضاف السارد المتعدّد بتعدّد القصص، القارئ إلى عوالم القصص، من خلال إدخاله في بوتقة أفق انتظاره في سبيل الوصول إلى غاية النص القصصي الأخير، الحامل لعنوان المجموعة: “السر الذي لم يدفن مع الحمار”، وهي قصة موحية من خلال الشخوص والمكان إذ أن أهم عنصر فيها هو الحمار، وقد أمسى قبره بين عشية وضحاها محل اهتمامٍ بل تقديس من أفراد الحي. ولو ترك القاص –هنا- إشارةَ لقصته هذه مع بداية المجموعة، لكان وهج التشويق أكثر، وربما كان فيها شيء من الجدّة: كأن يقسّمها مثلا إلى قسمين أحدهما في البداية والآخر يختم به.
تنطلق باقي النصوص عبر رحلة مكانية من مدينته الأم وإلى غاية الشمال الجزائري، وعبر تغيّرات الأفراد من سارد ثابت من خلال مهنته (يشتغل في مكتب) ومحيطين به متعدّدو الانتماءات. وعبر تعدّد الشخوص والأجواء، بين الطقس الصافي الربيعي، إلى المتقلب الممطر الممزوج بتقلب أمزجة شخوص قصصه (كنص الطّريق)، ينطلق السرد إلى فضاءات المكان ويستعين به ليغيّر عبره المواضيع، ومنها تتغير الأجوبة وردود الأفعال، وعن طريقها ينقل السارد أحيانا المغزى والبعد الإنساني. وأحيانا أخرى يطل عبر شخوص تدعوه إليها لمسة قد تبدو متفردّة في نص دون سواه (وهنا نشير أن المرأة هي مثل تلك الشخوص، والتي اقتصر حضورها في النزر اليسير من النصوص).
تعود واقعية المكان والبُعد التربوي إلى السرد وبعض الحوار إلى المشهد من خلال نص “بين الرصيف والطريق المعبد”، و”الغربال”، أين يبرز السارد كناقل للصورة من خلال الفضاء والشخوص، وهم في صراعهم مع الأبعاد الاجتماعية والحضارية داخل المدينة.
يُضمن القاص نصوصه بكثير من الحوار، الثنائي في أحايين كثيرة، مما أعطى نفسا روائيا للسرد لبعض اللوحات النصية، وإن أخلّت بعض التنويهات –على قلّتها- براهنية القصص وأريحية الحوار، من مثل قوله في أكثر من مناسبتين إلى الحركات بالقول (وهو يشير إلى كذا…).
بدا لنا من خلال هذه النصوص، بأن القاص بقي وفيا لنسقه الذي اعتاده مع أول مجموعة له “رؤوس ممسوخة”، عبر الحرث على الأبعاد الإنسانية والاجتماعية في نصوصه، وكذا من خلال استعانته باللغة البسيطة والموحية، والتي لا تخلو من عمقٍ في القيم والمعاني في كثير منها. ولا نغفل الاختيار المتناسق بين المتن وعناوين النصوص، وهو أحد العناصر التي تعطي الانطباع أن انتقاء القاص للعناوين له بُعده التأثيري على قارئ مفترضٍ، له خلفية معرفية ولغوية واجتماعية تسمح له باستنباط أفكار النصوص بشكلٍ سلس وعفوي ومباشر.