ألقاب أثقلت كاهل المغاربة وأخرى سهّلت انتشارهم
– حنان النبلي- المغرب
لو قُدر لأي واحد منّا أن يحمل لقباً غريباً عجيباً بدلالات قدحية ومشينة، كيف كانت ستكون ردة فعله؟ وكيف له أن يتعايش مع لقبه العائلي الذي يتحول إلى عبء كبير يطارده؟ هل يتجاهله؟ أم يبحث عن سبيل للخلاص منه؟ في المقابل كيف يشعر هؤلاء الذين ولدوا وهم يحملون ألقاباً أدخلتهم عالم الشهرة والانتشار من أبوابه الواسعة؟
على مدى خمسة عشر عاماً وأكثر، لم تستطع “بو خنفوسة” (الخنفساء) أن تتجاوز عقدة لقبها، فتحت عينيها وهي تحمله في أوراقها الثبوتية، لكنها لم تشعر بثقله إلا في بداية المرحلة الابتدائية حيث كانت تحس أنها تجلد به كلما نادتها المعلمة لتأكيد حضورها، جربت أن تتحاشى نظرات السخرية في عيون زملائها في الفصل، وأخفت غير ما مرة تذمرها من لقب ورثته فتحول إلى عقدة.
عقدة ظلت تكبر بداخلها ككرة الثلج في المراحل الدراسية المقبلة، الإعدادية والثانوية حتى أن كثيراً من الأصدقاء باتوا يقتصرون على مناداتها ببوخنفوسة عوض اسمها “هند”.
كانت تتمنى أن تخرس تلك الأصوات إلى الأبد، ولم تجرؤ على مقاومة الانقباض الغريب الذي كان يزحف في عروقها كدبيب نمل كلما سمعت لقبها يتردد.
تقول في بوحها “كنت أشعر بالاستياء كثيراً من لقب العائلة، وأشعر أنه لا يليق بي بل ويسبب لي ضرراً نفسياً، على الرغم من أنني كنت أسمع ألقاباً غريبة تتردد على مسامعي، كـ “الأصلع” و”الطاسة”، ولكنني دائماً كنت أحسه لقباً بشعاً يضيق على الخناق، لم أكن أبالغ في ذلك، غير أن الأمر كان يضايقني كثيراً، في فترة المراهقة حمّلت مسؤولية هذا العبء لوالدي، فأخبرني أنه، أيضاً، ضحية منظومة عشوائية فرقت الألقاب بمزاجية ظاهرة في المغرب”.
وتضيف ” حينما واجهت أبي بعدم رضاي عن هذا اللقب، وأخبرته بإمكانية تغييره انطلاقاً مما يخوله القانون المغربي لكل فرد مسجل في الحالة المدنية، حيث يكفي التقدم بطلب تغيير اللقب العائلي إلى اللجنة العليا للحالة المدنية، مع توضيح الأسباب والدوافع التي دفعته إلى ذلك، انتفض في وجهي واتهمني بالتنصل من أصولي وهويتي”.
تذكرت وهي تحكي كم من مرة نظرت في المرآة، ورأت وجهها الذي تراه كل يوم، البشرة السمراء والشعر المجعد والعينان الصغيرتان وتمتمت كلمات “هل حقاً أشبه الخنفساء؟ تلك الحشرة الصغيرة ذات الرائحة النتنة؟ أليس حريّاً بي أن أغير هذا اللقب اللعين؟”.
كانت أمنية والدها أن تدخل “بوخنفوسة” كلية الطب، ولكنها لم تحصل على مجموع يؤهلها لذلك في نهاية المرحلة الثانوية، وعلى الرغم من أنها نجحت في أن تحصل على وظيفة بإحدى المؤسسات البنكية، إلا أنها لا تستطيع اليوم أن تخفي مرارتها وهي تتساءل بحرقة: “هل سمعتم يوماً طبيبة تحمل لقب بو خنفوسة؟ هل من المنصف أن أزاحم آل برادة وبناني في مهنة لم تُخلق لغيرهم؟”.
قد تبدو نظرة “بوخنفوسة” سوداوية لحكاية اللقب الذي التصق بها وفشلت في تغييره، لكن المشهد يبدو قاتماً أكثر مع قصة عبد القادر “بوكرش” أستاذ التعليم الثانوي، مع الاختلاف في بعض التفاصيل. هو حالياً في الأربعينيات من عمره، وأب لأربعة أبناء، يعتبر أن القدر كان مجحفاً معه أن جعله يجرّ وراءه ويلات لقب بمعنى قدحي أورثه لأبنائه وهو يقرأ في عيونهم علامات عدم الرضا.
كان يتكلم بصوت عال تناثر له لعابه كالشظايا الشفافة الصغيرة، “حملت ثقل لقبي لسنوات عدة، منذ كنت صغيراً، لكن الثقل تضاعف حينما أدركت معناه، وكم تشاجرت مع أصدقاء كانوا يقذفونني بأمثلة ونكت عن أصحاب البطون المنتفخة، وهو المعنى الذي يحيل عليه لقبي”.
وهو يتحدث، قاطعه ابنه محمد مستعيراً ببيت للشاعر أبي العلاء المعري يلخص معاناته مع لقب سيرثه هو الآخر كرهاً لا طوعاً: “هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد”.
مقابل هذا “التبرم” من عبء ألقاب بدلالات جنسية وحيوانية أثقلت كاهل حامليها، نجد ألقاباً على غرابتها كانت حافزاً لأصحابها على الاجتهاد وإثبات الذات، ونجحوا في أن يبصموا وجودهم بها في مجالات مختلفة في الإعلام والسياسة والفن، نقتصر على ذكر 3 نماذج منها:
سعد لمجرد، الفنان المغربي الشاب الذي يسير بخطى ثابتة نحو عالم الشهرة والاحتراف، والذي أضحت أغانيه تحقق نسب مشاهدة عالية، وبخلاف والده الفنان “البشير عبدو” الذي غير لقب العائلة الأصلي كما هو في سجل الحالة المدنية (لمكرد) في سنوات كان فيها يقف حجرة عثرة لولوج عالم الفن، فقد اختار الابن الانتشار والشهرة بهذا اللقب مع تغيير طفيف من خلال استبدال “الكاف” بحرف الجيم ليصير (لمجرد) عوض (لمكرد) بالنظر لما يحيل عليه الأول من دلالة سلبية في اللهجة المغربية وأهمها الفاقة والعوز.
وأما النموذج الثاني، فهو السياسي والكاتب والمؤلف، والقيادي البارز في حزب العدالة والتنمية، محمد يتيم، الذي لم يقف لقبه حائلاً أمام مسار ناجح تقلد فيه عدة مناصب، دون أن تتشكل لديه أي عقدة من معاني “اليتم” التي يحملها لقبه.
وعلى نفس النهج صار “رشيد نيني” الإعلامي والناشر المغربي، المدير الحالي ليومية “الأخبار” والذي شغل في وقت سابق منصب مدير صحيفة المساء أوسع الصحف المغربية انتشاراً واشتهر بعموده اليومي “شوف تشوف” الذي جلب إليه آلاف القراء والمتتبعين.
وعلى الرغم من دلالة الخمول والكسل التي يحملها لقب “نيني” الذي تناغي به الأم رضيعها لينام، أو تتهكّم به المعلمة على تلميذ لشحذ همته، إلا أن “نيني” الصحافي لم يختر العزلة والانزواء، بل ولج إلى مهنة المتاعب وجمع فيها بين الشهرة والمال.
وإقراراً بكون مسألة الألقاب أرقت كثيراً من المغاربة، الذين سعوا إلى طرد هذه “اللعنة” بتحريك دعاوى قضائية في محاكم المملكة، إلا أن الصور المتقابلة لهذه القصص، تجعلنا أبعد ما نكون عن سلبية مقيتة تلصق بالألقاب كل فشل شخصي في صناعة حياة يكونها الشخص بما راكمه من معرفة وحققه من منجزات، لا بما يحمله من ألقاب أو يرتديه من ملابس.