في القرى النائية أعرف أكثر من غيري “دوارالكية” ، ، وهذا ما أتقاطع في معرفته مع الغرباء و عابري السبيل على السواء ، وحتى الأدخنة المتصاعدة من الكوانين المتفرقة والأحواش تدفع بي للبحث مستعينا بتلك الممرات والمسارب وراء ذلك الصمت المهيب إلا من شقشقات عصافير تائهة تحت زرقة السماء ومن شيخ يقف متكئا على منسأته يدود عن تلك أغنام ترعى خلف السراب ، “الدوار” هو القرية في البادية التي تضم عددا محدودا من الدور، و”الكية” هي تلك الجريحة المنسوبة إلى أعماق النفس ..ورأسا الأمر يختلف تماما لما أسلفناه من تعاريف جامدة ، عندما ينحي الجسد لفعل الكية ومقتها ينتصب الرأس لدوخة دوار، لتضعه في المفترق ، وعندما سألنا الكاتب والروائي هشام ناجح عن سر تألقه في اختيار هذا العنوان ، أجابنا بأن العنوان لأهميته هو ما يصاحبه ساعة وضع رأسه على المخدة ،يسيح بالذهن بعيدا والعوالم العالقة هي من تتكفل بإتمام المهمة ، في رأي ـ الكاتب هشام ناجح ـ العنوان وما يأتي به من دوار، بين الرهبة والإبهار، هو النص الموازي وما يأخذه من اهتمام أحيانا يفوق كية النص الأكبر،
الكاتب هو صائد عناوين بامتياز وروايته الأخيرة “دوار الكية” هي جزء من هذا الصيد ، في موضة الرواية المدينة كفضاء مغلق هي الملاذ ، وهذا دأب عليه جل الروائيين إن لم نجازف ونقل ـ كلهم ـ ، وراحوا بهذا الصنيع يمشي الواحد منهم وراء الآخر في صياغة الأمكنة والشخوص ،للقول في الأخير بأن الرواية هي شأن مديني بالأساس ،وهذا و ما فيه من تعالي و نرجسية ، ينسف سقف البنيان على أصحابه ويرد البضاعة إلى أهلها غير مجزاة ، لأن المدينة أو فعل التمدن ليس هو الزحف العمراني على البر والبحر وما كسبته أيدي الناس ،المدينة هي حتمية التطور التاريخي في بناء الفرد وليست في تأثيث الفضاء ، لغة ومجازا واعتبارات ؛ الرواية ، هي بناء نسقي جمالي في الأساس يحفل بالكائن بكل منزلقاته الوجودية و مطباته اللغوية والعلائقية للانتصار إلى سبر المكنون ، الذين قرأوا العنوان الدارج المتداول البسيط “دوار الكية” وأتبعوه المتن الروائي ما لا يطيق ، ذلك شأنهم ،أما الذين امتطوا الرواية ظهرا و قرأوا العنوان بلغة أكثر عمقا “دُوَّار الكِيَّة ” سيجدون ما يعتري الشخوص من تيهان الكي ما تدافع عنه رواية “البادية” في المعترك الاجتماعي (السوسيولوجي) والنفسي (السيكولوجي) ، لتفتتح الرواية ، بصرخة التلاقي الجسدي ،باب نشوة الانتقام ، لتعطي للمعنى الجنسي لولادة الفرد كما أسلفنا بعناء ،بعدا نفسيا يبحث في الممكن ليعانق المستحيل” الجحشات” نموذجا كأول خطوة في ممر التحول العميق ..
“شبكت يدي وراء ظهري وأنا أهم بالصعود نحو رتمة للا شافية ” ، هي أول صيغة يرمي بها السارد بضمير، الأنا، المتكلم بعد أغنية ولد الفول( التوطئة القريبة) ، في بحيرة المتلقي، وتشبيك اليد وراء الظهر والهم بالصعود هما وجها العُمْلة الذهبية النادرة ، العظمة !، و قصر القامة أول عائق ” بيولوجي”أمام البناء التكميلي ،يحول دونه وبلوغ الهدف ، تشبيك اليدين يدفع بالناصية إلى الأمام ، والدراسات تثبت ـ زعمنا هذاـ بأن تشبيك اليد وراء الظهر من ديدن العظماء ! ، سارد الأنا نشأ في رحم المعاناة ،بين أب ترك إخوته زغب الحواصل وتاه في جمال يامنة بنت بيه وبين الوالدة التي لا يطيقها حتى الجن الأكحل وهي الحرقة التي عبر عنها بالفعل الواعي “ثمة أشياء أتذكرها عنوة ، وأخرى بارتياح ،وأشياء قد أموت وتبقى غائبة عني”