مساحة السرد
الكاتب حسام الدين نوالي/ المغرب
في التراث العربي، ظلت مقولة “الشعر ديوان العرب” خلاصة نهائية مفادها كون الشعر مدونة عامة في التأريخ والاجتماع والعلاقات العامة والخاصة من خلال سمتين قويتين هما: سهولة الانتشار و كثافة المتن، سمتان صار بهما الشعر أكبر من مجرد قيمة صوتية إيقاعية ليتحول إلى مجال ذي سياقات متعددة ؛ بالمقابل فإن مصادر التراث الأدبي العربي تقسم مركزية الاهتمام بين الشعر والسرد نصفين على الأقل من خلال التصدير السردي بحكاية أو نادرة أو خبر أو سيرة أو غير ذلك يلعب فيها السرد دورا محوريا في خلق التعلق وبناء الجمالية لدرجة أن العديد من النماذج والمقاطع بل والتجارب الشعرية لا تنهض بغير الحكاية التي تتصدرها وتصهرها داخل فضاء من الفنتازيا (تجربة المجنون)، بحيث يصير الشعر نابعا من تجربة السرد وبتأطير الحكاية(1)، وكلما تأسس الخطاب السردي بشكل مقنع للمخيال الجماعي كلما اتسعت دائرة الإنتاج الشعري وتضافرت التجارب وتراكمت وانتسب بعضها لبعض للتحقيق الفعلي للتصور السردي المؤسِّس على جرعات تمثلها المقاطع والقصائد المتوالية والآتية من جهات متعددة، فيتسع الشعر ويتراكم وينتشر من خلال السرد. وهذا التراكم والانتشار هما اللذان شكلا أصلا الأرضية التي سيصير الشعر بها وعبرها مدونة عامة تحقق “ديوان العرب”؛ ويورد الأصفهاني في الجزء الثاني من كتاب الأغاني خبرين بالغي الأهمية هنا، الأول عن أيوب بن عباية، والثاني عن عوانة، والخبران يلتقيان في كون فتى من بني أمية أو من بني مروان “عمل أخبارا، وأضاف إليها ذلك الشعر –الذي ينسبه إلى المجنون- فحمله الناس وزادوا فيه”(2). فالسرد هنا سابق زمنا في شكل أخبار وُضِعت، ثم أُضيف إليها الشعر وِفق البناء والتصور السرديين للخبر الذي تلائمه شخصية المجنون التي وَجدت طريقا ميسّرا إلى الفكر الجماعي بسبب الثورة التي شكّلها على الأصنام المجتمعية في تقاليده وأخلاقه تحت ستار الجنون.. فصار الشعر بين قطبين سرديين هما “الأخبار الأولى” و “سيرة المجنون”، فتمّ منحه تأشيرة العبور والتنقل، وتمّ منحه مظلّة الحماية أيضا. فالشعر إن وضع داخل قالب السرد حُمل بين الناس (ما يمنحه سمة الانتشار) وزادوا فيه ( وهي سمة التراكم)؛ ذلك أن السرد يمثّل التعبير الجمعي مقابل الشعر الذي يمثل سياق الذات، وبعبارة أخرى فالشعر نخبوي فيما السرد شعبي، “لذا يُحاط الشعر بأشكال السرد من أجل إنزاله عن نخبويته حتى يصبح الشعر الذي تريده العامة”(3)
ولعل أغلب الشعر القديم – وإن امتلك قداسة ما مقابل السرد لم تكن في الأصل غير هالة صنعها النحاة وواضعو المعاجم في “إطار المهمة المنوطة بهم وهي إعداد لغة عربية موحدة” إضافة للجوء إليه في تفسير كلمات القرآن وسياقاتها الثقافية – (4) يتعسر تلقيه منفصلا عن الإطار السردي والسياق الاجتماعي والثقافي، وبالتالي فهو يؤسس وجوده الجمالي من خلال الحكاية وليس بذاته.
وتقدم التجارب الشعرية –القديمة بالخصوص- نفسها ضمن القالب السردي الذي يؤطر حكاية الشاعر، أو حكاية الذات، من خلال الرحلة والناقة والمشقة أولا إلى حكاية الآخر في المدح والهجاء والرثاء والغزل وغيرها لاحقا، فيما تصل بعض التجارب إلى كسر التخوم بحيث يصعب الاطمئنان إلى الجزم هل هي تجارب “شعر قصصي” أم “قصص شعري” كما في أعمال العذريين وعمر بن أبي ربيعة ونماذج أخرى كثيرة في أشعار غيرهم. فيما تحفل العديد من المصنفات الشعرية بالسرد تقديما وشرحا وتفسيرا، سلطة الخبر على الشعر كما في “نقائض جرير والفرزدق” إذ أن تعذر التواصل والتلقي بسبب كثرة الغريب في الأشعار والاستعانة بالأخبار في الشرح والتفسير ليس غير هيمنة للسردي، حيث الشعر لا يتحقق أصلا إلا استنادا للسرد والذي من غيره تغدو الأبيات كلاما مقيّدا بقواف وموغلا في الإبهام(5). إضافة إلى أن التراث الشعري العربي يحفل بعدد من الحواريات التي تصنع بناءها الجمالي على الحكاية التي لم تعد نصا مرافقا للنص فحسب بل جزءً من العمل الشعري نفسه مثل الكثير من الحواريات المنسوبة للأصمعي مرّة مع فتى مجهول يكتب على صخرة، ومرة مع ميت ينطق من القبر.. وغيرها، بل “إن الرواة يعمدون أحيانا إلى الشعر فيسلبونه أهم خصائصه فتنهض سردية الخبر على محو مجازية الشعر […] فمنطلق الحديث لم يعد الشعر، وإنما أصبح الخبر… واستحوذ الخبر على وظيفة التخييل التي كانت من خواص الشعر”(6)
والحق أنه ليس الشعر وحده من بين الأشكال الفنية ما يتكئ على الحكاية لبناء جمالية في التذوق، ولكن لا يكاد نتاج فني ما في الرسم والتشكيل والنحت و والفولكلور وغيرها يخلو من احتياجه لحضور حكائي للسياق الاجتماعي والتاريخي لتسهيل الرسالة والتذوق معا، أي حضور السرد ومركزية الحكاية في تلقيه إن لم يكن حتى في اشتغاله ؛ كتب الجاحظ : “إن من طبع الإنسان محبّة الإخبار والاستخبار، وبهذه الجبلّة التي جُبل عليها الناس نُقلت الأخبار عن الماضين إلى الباقين، عن الغائب إلى الشاهد، وأحبَّ الناسُ أن يُنقل عنهم، ونقشوا خواطرهم في الصخور، واحتالوا لنشر كلامهم بصنوف الحيل”(7). فكان السرد وما يزال مستنَدا أساسيا لبناء التلقي والتذوق والجمالية والامتداد في صنوف الإنتاج الإبداعي الإنساني.
فهذه لوحة “الطفل الباكي” مثلا للإيطالي (برونو اماديو) المعروف بــ “جيوفاني براغولين” لا يمكن تلقيها خارج سياقها السردي إلا كبورتريه تنتهي جماليته عند الألوان والتدرج والضوء وضربات الريشة المتقنة وغيرها، لكن الحكاية المرافقة لها تمنحها سحرا أكبر، هي بوابتها للانتشار، وهي المحرك الأساس لبيع عدد كبير من نسخها في أوربا بعد أشهر قليلة من رسمها بحيث صار الفنان من أغنياء أوربا وعاش حياة مريحة مع الطفل (صاحب البورتريه) الذي تبناه. وستزيد حكاية لعنة الحرائق (التي لم يسلم منها حتى “جيوفاني” نفسه ) المرافقة للطفل من الإثارة حول اللوحة إلى اليوم..
وتلك لوحة “الغرنيكا” لا يمكن تذوقها من غير السياق التاريخي ليوم 26 أبريل 1937.
وهذا مارتن هايدغر في قراءته للوحة فان غوخ “الحذاء”، يمنحها فيضا من الجمال ويفككها من خلال حكاية وسرد وتداعيات حول الفلاّحة.(8)
فيما تنشغل المقطوعات الموسيقية – منذ “حرائق نينوى” مرورا بإنجازات سكارلاتي وبتهوفن وتشايكوفسكي إلى كارل نيلسن و ماهلر ومارسيل خليفة – بالحكاية في مقاطعها، وتستضمر سردا كاملا يصير مؤطرا وميسرا لانتقالها وللتواصل معها. فاستنادا لقراءة حسام سفان لـ “حرائق نينوى” فإن مقاطعها الموسيقية الأربعة تحكي سيرة الإمبراطورية الآشورية منذ عظمتها إلى تكالب الأعداء لإضعافها إلى المعارك ثم الدمار والحرائق.(9)
وهذه رقصة “أحيدوس” في التراث الزياني تحكي تفاصيل السنبلة خلال نموها وحركتها مع الريح، ثم حركة الفراشات والطيور معها في تنقلات المايسترو ورفرفاته، في سرد رمزي لمقطع الخصب في حياة الفلاح المزارع.
والأمر نفسه في النحت والمعمار والتصوير وغيرها، إذ للسياق السردي والتاريخي دور محوري في خلق الجاذبية الفنية والجمالية وبناء التذوق. فلا يمكن تذوق بناء “صومعة الكتبية” أو “حسّان” من غير استحضار أول وأساسي للحكاية، وقل الشيء نفسه لأي نصُب تذكاري أو فني أو معلمة ، بحيث يصعب الجزم هل تمثل المنجزات الإنسانية عموما -المادية واللامادية-، والفنية حصرا، أجناسا نقية خالصة أم أنها ليست في النهاية جميعُها سوى حكاية سردية مضمرة أحيانا أو معلَنة أحيانا أخرى، في تجليات مختلفة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): حسن النعمي- قراءة في هيمنة الخطاب السردي- علامات في النقد- النادي الأدبي بجدة- المجلد 12- الجزء 45 – شتنبر 2002- ص 136.
(2): نفسه- ص 154.
(3): نفسه – ص 138 ، ص164.
(4): أنظر : جمال الدين بن الشيخ- مقالة حول خطاب نقدي، ضمن “الشعرية العربية”- ترجمة مشتركة- دار توبقال للنشر- ط1- 1996- ص 7.
(5): انظر د.محمد القاضي- الخبر في الأدب العربي (دراسة في السردية العربية)- دار الغرب الإسلامي- ط1- 1998- ص 543 وما بعدها
(6): نفسه- ص ص 575 ، 585
(7): الجاحظ- رسالة السر وحفظ اللسان- رسائل الجاحظ- ت. عبد السلام هارون- مكتبة الخانجي، مصر 1979- ج 1- ص143
(8): مارتن هايدغر- أصل العمل الفني – ترجمة أبو العيد دودو، منشورات الجمل، كولونيا، ط 1- 2003 ص 83 وما بعدها.
(9): حسام سفان- دراسة تاريخية للموسيقى في بلاد الرافدين- موقع جريدة الفرات- 22/01/2007