أوركسترا الحياة تواجهُ المَدافع؟!
أقام نادي حيفا الثقافيّ أمسية احتفائيّة بإشهار المجموعتين الشعريّتين “روح محمولة على الريح” / محمد بكرية و “زهرة الميعاد” / أنور خير، وذلك بتاريخ 15-12-2016، في قاعة كنيسة يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، وتحت رعاية المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا، ووسط حضور من الأقرباء والأصدقاء والأدباء، وقد تولى عرافة الأمسية الإعلاميّة إيمان القاسم، بعدما رحّب المحامي فؤاد مفيد نقارة رئيس ومؤسّس نادي حيفا الثقافيّ بالحضور، وكانت كلمة للأديب عادل سالم رئيس تحرير موقع ديوان العرب الإلكترونيّ في أميركا، عن دور الثقافة الفلسطينية وأهمّيّته، وكلمة للأديب محمّد علي سعيد عن صدور منجزه الجديد “معجم الشعراء الفلسطينيين 48″، عن الاتحاد العامّ للكتاب الفلسطينيين العرب 48، ودار سمير الجندي للطباعة والنشر، والذي يشتمل على تراجم ل 325 شاعرا وشاعرة، وهو الأشمل والأكثر حتلنة من حيث المعطيات. وتحدّث عن المجموعتيْن الشعريّتين كلٌّ من: الإعلاميّ نادر أبو تامر والأديب فهيم أبو ركن، وقدّم المحتفى بهما قراءات شعريّة، تخلّلتها وصلات موسيقيّة وغنائيّة للفنان أمين ناطور، وفي نهاية اللقاء تمّ التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة الأديب عادل سالم بعنوان تعزيز الثقافة الفلسطينية: نادي حيفا الثقافيّ مَعلمٌ بارز من معالم حيفا، والثقافة الفلسطينيّة الوطنيّة تكتسبُ أهمّيّةً كبرى في هذه المرحلة، حيث فشل السياسيّون وغيّروا بوصلتهم، فلم يبقَ لنا الآن على الأقلّ إلّا جبهة العمل الثقافيّ، للحفاظ على الوجه المُشرق للشعب الفلسطينيّ، وتَشبُّثه بأرضه وحقوقه، وتاريخه وتراثه الوطنيّ، ويتعاظم دوْر الثقافة الفلسطينيّة عندما نعلم أنّ جبهة الأعداء قد اقتحمتها، وتحاول تخريبها وتغييب الوعي الفلسطينيّ الوطنيّ، لتجعل منه أداة لتنفيذ مشاريع وأجندة غربية وتكفيريّة غريبة عن شعبنا، وتاريخه الوطني القائم على الوحدة والتلاحم.
إنّ أهمّ ما يُميّز العمل الثقافيّ الفلسطينيّ، خاصّة أنّه عملٌ غيرُ تابع لمؤسّسة حكوميّة، بل هو نتاجُ نشاطات ثقافيّة فرديّة وجمْعيّةٍ، ومؤسّسات مستقلة في الغالب متنوّعة وليست أحاديّة الاتّجاه، ولعلّ وضعَ الشعب الفلسطينيّ المُشتّت بين الداخل بتقسيماته المعروفة لديكم، والخارج الموزّع على دول الشتات الكثيرة، قد جعل منه عملًا غيرَ مُقيَّدٍ بسُلطة ولا مؤسّسة ولا بحزب، فانطلق وبفعل وسائل الاتّصال الحديثة ليُشكّل حالة متنوّعة تشبه قوس قزح بألوانه الزاهية، وقد أسهم نشطاء ثقافيّون وكتّابٌ ومُفكّرون، وموسيقيّون ومُؤرّخون ومُدوّنون، بدوْرٍ بارز في تنشيط العمل الثقافيّ الفلسطينيّ، وإبقاء القضيّة الفلسطينيّة حاضرة، رغم محاولات الأعداء مسْخها وتحويلها لملفٍّ تفاوُضيّ، ورغم حالة الشلل العربيّ الذي نشهده هذه الأيّام، ومحاولات تدمير وطننا العربيّ، وبالتالي حرف الأنظار عن واقع فلسطين، فصدرَ الكثير من الكتب الفلسطينيّة التاريخيّة والأدبيّة والفكريّة والمعلوماتيّة المختلفة، وأقيم الكثير من النشاطات الثقافيّة والفكريّة والندوات إلى آخره، لتُساهم في نقل المعرفة والتنوير إلى أكبر عددٍ ممكن من أبنائنا، وتمتين أواصر انتمائهم لهذا الوطن.
يُعَدُّ نادي حيفا الذي يجمعنا هذا المساء أحد النوادي الثقافيّة البارزة في نشر الثقافة الفلسطينيّة والحفاظ عليها، وتكتسب نشاطاته أهمّيّتها من استمراريّتها والتنويع في حضورها، ومشاركة نخبة بارزة من كُتّاب ونُقّاد الوطن في نشاطاته، ممّا عزّز حضوره، وكرّسَه كمَعلم بارز من معالم الثقافة الفلسطينيّة في الداخل الفلسطينيّ، حيث محاولات الأسرلة قائمة في كلّ اتّجاه.
على أنّنا يجب أن نلفت الانتباه أنّنا ما زلنا جميعًا نسعى أن نرتفع بنشاطاتنا الثقافيّة، لنخرج من حالة النخبة لحالة جماهيريّةٍ واسعة، بحيث تصبح نشاطاتنا الثقافيّة نشاطاتٍ جماهيريّة تشارك فيها قطاعات أوسع، وتصِلُ كلَّ بيتٍ وكلّ مكان، وهذا لا يمكن تحقيقه إلّا بتضافر جهودنا جميعًا لرفع مستوى ثقافة جماهيرنا، وتشجيعها على القراءة، وتحويل ثقافتنا لتمَسَّ مشاكلَ اهتمام المواطن العاديّ، وتُلبّي تطلُّعاته، كما علينا أن ندرك تمامًا، أنّنا في عصر أصبحت فيه قوى الأعداء والتكفير تحاول اختراق جدار ثقافتنا ووعينا الثقافيّ، من خلال الإعلام والثقافة والمال الذي خرّب كلّ شيء، واخترق من خلال بعض الأقلام التي باعت مبادئها وأقلامها ساحة العمل الثقافيّ الفلسطينيّ، والأمثلة على ذلك كثيرة. يحاولون هدم النسيج الوطنيّ الفلسطينيّ المُوحّد عبر التاريخ، ليَصبَّ في النهاية في خدمة أعداء شعبنا.
إذن؛ نحن لا نبحث عن أيّ ثقافة، بل عن ثقافة فلسطينيّةٍ عربيّة إنسانيّةٍ تنويريّة، تدافع عن حق الفلسطينيّ في أرضه وتراثه، وانتمائه العربيّ والإنسانيّ المنفتح على الثقافات الإنسانيّة، والمقاوم لكلّ أشكال التغريب والأسرلة والتكفير، ومن أجل هذا الهدف، وفي وسطٍ عربيٍّ مشحونٍ حتى النخاع بالقبليّة والطائفيّة، والمذهبيّة وأفكار التكفير، وبأنظمةٍ عربيّةٍ مُتهالكةٍ وتقوقعٍ قطريٍّ مقيت يصلُ حدّ العنصريّة، كان لا بدّ من أصوات ثقافيّة وحدويّة عربيّة تقفز فوق الصراعات والخلافات، فكان موقع ديوان العرب.
في البداية قيل لنا: لماذا ديوان العرب؟ ابحثوا عن اسمٍ أفضل أكثر جذبًا، لأنّهم لم يعلموا أنّنا كنّا نبحث فعلًا لا قولًا عن صوت عربيٍّ حُرّ، يساهم في تطوير وإحياء صوت المثقف العربيّ الوحدويّ التنويريّ، لذلك منذ البداية كان ديوان العرب صوتَ عرب الوطن، لا عرب التغريب ولا عرب التكفير، ويجول في خاطري قولٌ جميل قاله صديقنا الكاتب والمؤرخ الفلسطينيّ عبد القادر ياسين عام 2005، في احتفال أقامه ديوان العرب في القاهرة عندما قال: “فرّقتنا السياسة ووحّدتنا الثقافة”، هذا ما فعله “ديوان العرب”. ختامًا، أشكر نادي حيفا الثقافيّ والمشرفين عليه، وأشكر جهودهم المتواصلة في إقامة النشاطات الثقافيّة، وأشكر الحضور الكريم الذي شرّفني بهذا اللقاء الممتع.
مداخلة نادر أبو تامر بعنوان أوركسترا الحياة أقوى من فحيح المدافع: ظننت أنّ صديقي محمد بكريّة قد تخطّى مرحلة الطفولة، لكنّني وجدته أكثر الرجال طفولة في براءته وخشوعه المرهف نحو الأمل، في صلاته إلى السماء بأن تترفّق بالإنسان. قد لا نتذكّر مَن كان ديفيد كاميرون أو تيريزا ميي، لكنّنا لن ننسى شكسبير. وقد لا نتذكّر عبد السلام عارف، لكنّنا سنذكر أبو الطيّب المتنبّي، وربّما لا نعرف من كان وزير الداخليّة الفلسطينيّ، لكن محمود درويش باقٍ معنا أبد الدهر. من هنا تأتي أهمّيّة مثل هذا الحدث الذي أشكر القائمين على تنظيمه، وإطلاقه في فضاء شحيح المعارف كثير المعارف.
بالدهشة أُصبت حين باغتتني كلماتُ الكتاب. قرأته وتابعتُ مطالعته حتى القمر لا الرمق الأخير. أنقوعة مُستخلَصة من عصير الكلمات، تفوح مع كلّ هفهفة بجناحي فراشة الشعر والنثر. روح محمولة على الريح هي ريح تجتاح الروح، تحملنا في رحلة خضراء لا تنتهي، كلمات الكتاب لها أصداء تتحلّق حول ذهنك، كدوائر تتمخّض عن صخرة تهوي في بركة من المشاعر الفوّارة، فهي تقتنص منك تفاعلات وجدانيّة عميقة لا عقيمة. تحاول أن تهرب من وهج الكلمات إلى خارج النصّ، فلا تستطيع إقفال الباب وراءك، نظرًا لأنّ إعصارَ المدلولات المنفلت منها يَحول دونك. العبارات مفتوحة على مصراعيها، وكأنّك تدخل في كلّ مرة من باب دوّار من تشبيهات وتنبيهات تشفطك إلى داخل النصّ من جديد، إلى مُجمّع من تلاقحات مُبْهِرَة ومُبَهَّرَة بتوابلَ، تضفي على طبخة الإبداع مدى لا يتوقف من المذاقات والطعمات والتطعيمات والتطميعات بالمزيد والمزيد بأنّ القادمَ أجمل.
عندما تتسلّق تضاريس النصوص تنهال التداعيات من مرتفعات الكلام الشاهقة، وتتدلّى شلّالًا من عبير ينزلق على صخور هاوية الوجع، نحو قاع منحدر من الفكر العميق العميق. يُزاوج الشاعر بين طبيعة الله وطبائع الانسان، فيمتشق من خاصرة الوادي ضمّة من الرموز الثقافيّة المستفيضة، تلقم ثقافتنا كغلاية من القهوة التي تغازل نار الفحم بتوظيفات غير معهودة. عند هذا الشاعر أنت لا تتنقل بين كلمات، بل بين محطّات تاريخيّة ورموز ثقافيّة، بين حِكم ووقفات من الأمل والتألّم، وهو يستحضر من رحيق المسافات عطرًا للوجع. يدقّ بكريّة أوتار خيامه في كلّ مكان، إنسانيٌّ هو في مفاهيمِهِ العابرة للتأطير والرامية للتأثير، يفتحها للضيوف كخيمة إبراهيم الخليل فوق الجبل مفتوحة من كلّ الجهات. فيها الفرات والعراق وإبراهيم وإسماعيل وهاجر، وموسى كليم الله والآشوريون وكافور وأبو الطيّب وشكسبير الذين يتهادون في قوافل الحجيج، صوب أفق إنسانيّ راقٍ ورائق وفائق ولائق.
في كتاب محمد بكرية لك لقاء مع محمود درويش، ومقابلة مع أبي الطيب المتنبي، وزيارة الى طاغور. يتعانق عنده الحاضر الموجوع مع الماضي المرجوع والواقع المصدوع، إن كان عراقيًّا أو محليًّا سوريًّا يتناثر على سواحله اللاجئون، لأنّه يُنقّب في الجرح ليعرف من نكون، ويحنّ إلى التراب والزمان والمكان، إلى أمّه، والدته، أبوه، أرضه، بلدته تسكن الورق بلا أرق وبكثير من الألق والحبق. إنّ هذه المركبات حاضرة فيه ذاكرته، لأنّه يتنفّسها ويتنسّمها في كلّ لفظة مشبعة بالحبر. يُوحّد الشاعر الديانات من أقصاها إلى كنائسها، فيجعلها مئذنة تطلق حنجرة الإمام، لتتمازج مع رنّات الأجراس المتدفّقة في المدى. لا يتوانى الكتاب عن خلخلة التوازنات، فتشرق من الغرب شمسُه، وتنكسر أشعّتها في الجنوب، وكي تبحر فيه أنت بحاجة الى مجاذيف من إحساس، وقارب من ثقافة لا تتناهى، إلى ويكيبيديا وموسوعة معارف، لكن ورغم ذلك فهو شفاف، مرهف، جميل، إنسانيّ، طيّب، خاشع. يُموسق هذا الكتاب الصدى والسدى والهدى والعدا، في توصيفات تسكب نضارة في صحراء تغزوها غثاثة المعاني.
يهتمّ المحتفى به بالإيقاع، لكنّه يُنحّي المعنى بين العفيف واللطيف والخفيف والطفيف والظريف، وبين العقاب والقباب والغلام والظلام والحرب والسلام. ينسابُ مرزاب الحكم والمفاهيم والاستخلاصات، ويرنو إلى الخَلَاصَات، وإذا كان يُكثر في قصائده من السجع والقوافي، فأنت لست بحاجة لها، لأنّ الموسيقى الداخليّة النابضة في الكتاب مترعة بالمعاني المتراقصة. يسكنُهُ الوطن العربيّ الكبير المَحقون في شرايينه (عيون القدس وقمرًا على دمشق..) يتمختر ويتبختر في ديوانه ما بين الياسمين الشامي والنخل اليماني والتمور (أخاف من العرب على العرب).
يُطرّز محمّد كلماته كثوب تراثيّ أصيل مشغول بالمحبّة، ينسج في أكمامه أكاليل من الشوق والشوك بتشبيهات وصور خلابة (ارفع قلبي عاليا)، ويوظف الحضارة بمهارة وشطارة ونضارة، ولا يبخل علينا بالعُصارة، فيستحضر التاريخ والجغرافية، ويُبَوْصِلُها في مسافات الريح من نيرون روما، إلى سين باريس، إلى نابليون الذي يخطف قلب الشمس، إلى هوميروس أثينا عبر ثنايا الإلياذة والاوذيسة، بين الحاضر والأمس، ومعه تمضي إلى سراديب التاريخ، وتكون بأمسّ الحاجة إلى قناديل المعرفة المُشعّة بالنور، لتفتح أمامك الطريق.
لغته منقوعة في مرطبان مليء بالقراءات والاطلاع والتجربة، كلبنة أمّه المُكعبلة المثخلّلة في زيت الزيتون الأصليّ، ومثل كوب من الأرزّ المنقوع في طشتيّة مغمورة بالماء قبل تجهيز الغداء، في غلّاية تصهر مفرداتها وتشويها على المِرْجل، لا المَرَاجل الطنّانة الرنانّة الخاوية كصوت الطبول البتول. يُحلّق بنا في ربوع الدنيا عبر حَبَقات تفوق الحَقَبات، والعَبَقَات التي تتخطّى العَقَبات، يُعنكب الفولاذ ويُهشّش السلاطين. تخضرّ الكلمات في الكتاب، فنحن نُطالعه بلهفة الباحث عن كنز يختبئ في المغارة القادمة، وعليك أن تصطحب معك ضميرَك ليهديك. تخضرّ المعاني وتنبت نخلة باسقة تبلغ الغيوم، حيث تُدلّي النوارسُ أقدامَها وإقدامَها لاجتراح أفق أنصع. صفوة القول التي تختزل مسافات الشعر والنثر هنا، هي عبارة تتركك في حالة من ذهول.. (إنّي وقد انتصرت اليوم على شهوة الدم سأغني.. سأغفو ملء جفني وأغني). ونحن معك، الشاعر الخلّاق محمد بكرية، سنغني.. ملءَ الوتر سنغني، وبعمق الجرح سنغني وبحضور الحنجرة سنغني، فأوركسترا الحياة تُخرس فحيح مَدافع الحرب وتغني.. معك سنغني..
مداخلة فهيم أبو ركن: عندما يصبح الحرف زورقا يمخر عباب الفكر، وعندما يتدفق التعبير صورا شعريّة تنبثق من أعماق الأحاسيس، يصبح الإنسان شاعرًا ويمسي الشاعر مبدعًا. بعض النقاط أرى لها أهمّيّة خاصّة بالتأكيد عليها، وأخرى سأتناولها في محاولة لاكتشاف خباياها الجميلة، ولا بدّ من تنويهٍ إلى أنّ وسائل الإعلام الإلكترونيّة وشبكات التواصل ساهمت كثيرًا –للأسف – بخلط الغث بالسمين من النتاج الأدبيّ والشعريّ، ممّا جعل قيمة ما يُنشر فيها تنخفض إلى الحضيض، ولم يبقَ سوى الكتاب المطبوع يمكن أخذه بجدّيّة، والنظر إليه كعمل إبداعيّ جادّ، ومن هنا تنبع أهمّيّة هذه الندوة التي تخصص لإلقاء الضوء على الديوان. لهذا فالشكر الجزيل للقائمين على تنظيم مثل هذه الندوات، خاصّة هذا الصرح “نادي حيفا الثقافي” بدعم “المجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا” مشكورًا بجميع أعضاء إدارته، هذا النادي الذي أصبح منارة للإبداع بمختلف أشكاله وألوانه، وهذا المجهود المبارك الذي يستحقّ كلّ التقدير والتحيّة، وتحيّة لعريفة الأمسية الإعلاميّة المتألقة الزميلة إيمان القاسم سليمان، والتي تؤدّي رسالة هامّة في خدمة المجتمع العربيّ.
أقول للشاعر أنور: لمّا الشاعر كِلْماتو بْسِحرو بِتْطيرْ/ فيّو الفَرحَه بِتْزَهّرْ حُزْنُه بْيِصْغَرْ/ بْتِحتارو هذا فرزدق ولا جرير/ نَهْداتِ القلب سْهام حْروفُه بْتِكْبَرْ/ بِتْشوف عْيُون اللهفِه بصوتُه حريرْ/ بْتِعرفِ الشَّاعرْ هذا هُوِّي أنورْ/ أنور مش بس منوّر والعيلِه خيرْ/ بيقطف من عمق المعنى أجمل أشعارْ/ جوال بفكرُه محلق بتظنّو طيرْ/ نجمات السما بشعرُه عطر الأزهارْ/ أنور يا باشق غرّد أطلقْ نَشيدْ/ وُبِحجارِ الجرمقْ ابني شيِّدْ عمارْ/ في الفضا شْعَار نجومَك نكتبها عيدْ/ وِنْعيد نجوم شْعارك إبهاي الدارْ/ دار الكنيسِه الضاوي بدعمك فؤادْ/ بتجمعْ نجومِ الأدب غمار غمارْ/ عريفِه من زهر النجمِه تُقطفْ لِحْروفْ/ وكِلماتا تلبس عِنّا عِطر الأفكارْ
عنوان “زهرة الميعاد” يرمز إلى زهرة “كفِّ الدبّ” التي لا تأتي إلّا في ميعادها المعروف، وهي زهرة نادرة الوجود، زهرة جميلة تتفتّح في الجرمق الجليليّ البيتجنّيّ (بيت جنّ) في أوائل الربيع لمدّة أسبوعين فقط، اختصّ الله بها هذه المنطقة الجميلة، ولهذه الزهرة أسطورة تقول: إنّ شابّا وصبيّة من قرية بيت جنّ أحبّا بعضهما وقرّرا الزواج، لكن والد العروس رفض الفكرة، حينها قرّرا الهروب إلى “جبل عروس” المُحاذي لقرية بيت جنّ، وصادف وقوع عاصفة ثلجيّة في منطقة الجبل، وأغلقت جميع الطرق والمسارب إلى جبل عروس، وبعد مضي عدّة أيّام خرج أهالي القرية للتفتيش عن الحبيبيْن، وعلى مقربة من الجبل عثروا على أثار أقدام دبّ كبير تعقّبوها، ليصِلوا إلى كهف صغير حيث جلس الشاب والصبيّة داخله، ليتبيّن لأهالي القرية أنّ الدبّ الأبيض أحضر للحبيبيْن الغذاء طيلة فترة العاصفة، وتبيّن أنّ في كلّ مكان داسته كفّ الدبّ نبتت زهرة كبيرة جميلة، أطلق عليها أهالي القرية اسم “كفّ الدبّ”. اختيار الشاعر لهذا العنوان فيه رمز أسطوريّ ورمز فولكلوريّ تراثيّ، يوحي بشغف الشاعر بأرضه وحبّه لطبيعتها وتراثها العريقيْن. هذا العنوان عنوان “أنا زهرة الميعاد” التي أرى فيها تفسيرًا روحانيّا وتعبيرًا عن الصراع بين القرية والمدينة، بين الأصالة والحداثة، من خلال ثلاثة مسارات.
المسار الأول؛ أصالته المرتبطة بأصالة الزهرة التي أشار إليها في العنوان “أنا زهرة الميعاد”، عنوانٌ أصبحَ جزءًا عضويّا من القصيدة لا نستغني عنه، لأنّ الشاعر يصف أصالة الزهرة في إشارة لأصالته أو أصالة مجتمعه، وهكذا يعبر عنها في بداية القصيدة، حيث تتراكم الرموز والإيحاءات فيقول: تأشيرتي عبر العصور/ عانقت تربة مجدكم/ وحام من فوقي النسور/ عشت مجدي بندرتي/ احتار في أمري الحضور/ ومهابتي في زهرتي/ توّجت زهرة الزهور.
وفي المسار الثاني عن العصرنة التي تهدد هذه الزهرة، وهي بمفهومها الرمزيّ أصالة الشاعر القرويّة المُتشبّثة بالأرض فيقول: “اِجتثني عابرٌ ساقني إلى القصور/ رغبة منه سباني/ جبّارٌ تمَلّكَه الغرور”. إنه يرمز إلى محاولة خلع الصبغة القرويّة العريقة منه، ونقله إلى المدنية أو العصرنة، بمحاولة اجتثاثه ونقله إلى القصور رمز التمدّن. لكنه يرفض الغربة والتهجير، إنه يريد العودة إلى الوطن فيقول: “هيا أعدني موطني/ قبل فنائي في القبور/ إلى أرحام جبالي/ والسنديان والصخور”. والجبال والسنديان والصخور هنا ترمز لثبات العقيدة والمبادئ لديه.
أمّا المسار الثالث فيأتي مقتضبًا موجزًا حازمًا في نهاية القصيدة، وكأنّه يتّخذ قرارًا حازمًا مقتنعًا به تمام الاقتناع، حيث يقول: “بعد زوال الثلج/ لي موعد مع الطيور”. الثلج هو البرد والجمود، والطيور هي الحرية والانطلاق، فالشاعر كما استنتجنا أعلاه متفائلا، يرى أنه سيحظى بحرّيّته بعد أن يزول الثلج.
في هذا المقام اليوم نحن بصدد شاعر مبدع، وديوان يستحقّ منّا هذا التحليل وهذا الجهد النقديّ. وكمثل إبداعنا في الشعر يجب أن نبدع في النقد، ولكي نبدع في النقد يجب أن نفهم الإبداع، ولنفهم الإبداع يجب أن نتعرّف على المبدع، فثمّة سمات يتّصف بها الكاتب الحقيقيّ، من خصائصَ نفسيّةٍ ومعاييرَ فنّيّةٍ وجماليّةٍ وأخلاقيّة يلتزم بها، ومبدعنا الشاعر أنور خير شابّ عصاميّ، جمَعَ في شعره بين شموخ الجليل وإباء الكرمل، بين براءة القرويّ وثقافة المدنيّ العصريّ، بين جمال الطبيعة وقسوة الحياة، فقد نعم بالحب وعانى من الفراق، أحبَّ وطنه “بيت جن”، وتغرّب عنه إلى وطن آخر احتضنه بكلّ مَحبّة “دالية الكرمل”، هذه العناصر أفضل تربة خصبة لولادة شاعر، فزيادة على ذلك هو مثقف يقرأ كثيرًا، مرهف الإحساس، ثاقب الفكر والأهمّ، يكتب بمصداقيّة. إنّ شاعرنا لا يكتب من أجل المال أو المجد أو الشهرة، إنّما القصيدة هي التي تكتبه، وهذا هو سر النجاح، لذلك جاءت قصائده مُعبّرة، تميزت بلغة سلسة ومعجم لغويّ خاصّ، اعتمد على تعابير جميلة مفعمة بعناصر الطبيعة الخلّابة، متماهية مع أحاسيس الإنسان ومشاعره في مزيج مُعبّر بين لغة الحروف وعناصر الطبيعة، فيقول (ص 52): لم أكن لأتقن أبجديات حبّها الشمسيّة/ ولا حروفها القمريّة/ فأمسيت في عشقها أمّيّا/ اقرأ في معجم/ يلغي قانون الأفعال.
ولكي نكتشف زاوية جديدة في شعره، نستشهد بقصيدة “رفقا بشعرك” ص 71، حيث يستهلها قائلا: “رويدك يا أساطيل اليأس/ أفلا ترسو بوارجك/ في مرافئ الأمل؟” يبدأ الشاعر الصورة الشعريّة الأولى باسم فعل أمر “رويدك”، طالبًا من أساطيل اليأس التمهُّل، وكأنّه يُشبّهُ نفسيّة الإنسان بالشاطئ الذي تحاول أساطيل اليأس احتلاله، فيطلب منها التمهُّل، ويزيد الشاعر في إقناعنا بأنّ الأساطيل هي أساطيل يأس، مضيفًا عنصرًا تأكيديّا للصورة الأولى، حين يصف أشرعتها بالسواد. ثمّ يُعبّر عن أمانيه بأن تتغيّر هذه الحالة باستفهام إنكاريّ حيث يقول: “أفلا ترسو بوارجك في مرافئ الأمل؟”، حيث يوحي هذا الاستفهام بالتمنّي أيضًا، وكأنّه يَطلب من هذه الأساطيل أن تغيّر هدفها وترسو في مرافئ الأمل. صورة شعريّة تشير إلى نفسيّة الشاعر المتفائلة، حيث ألبس الأمل عنصر الاستقرار بنعته متجسّدا بالمرافئ، وجعل اليأس حالة مؤقتة بوصفها بالأساطيل العابرة.
لكي يصفَ بعضُ الشعراء حبّهم الكبير، ينزلقون إلى التعابير الغزليّة الجسديّة أكثر، فيصفون مفاتن الجسد، وأحيانًا يقتربون من الإباحيّة، بينما يظهر في شعر أنور غزل مكتوم، ربما تأثيره جاء من بقايا عهد الشباب اليانع، ففي تلك الفترة وتلك الروابي النائية كان الحبّ مَخفيّا، فظهَرَ في شعر أنور كحبّ عذريّ لم يقترب إلى الإباحيّة، وبقي يتمحور في المعاني الروحانيّة فيقول: اهدئي يا أصفار العيون!/ لا تفصحي شجن الخبايا/ أسعفيني فقط ببريق/ من عيوني الخضر/ قولي لها عذرًا/ فما أنا فارس الروابي/ ولا باشق في رهبة المعاني/ أسير كبّلني بُعادُ التلاقي/ فأرّقني بركانُ الخيبة/ سامحي عند الشرود / وتقلبات الردود/ فقد غدوت تائها/ في دنياي.
ويظهر هذا الموتيف في العديد من القصائد وحتى في عناوين بعضها، ويُعبّر عن حبّ لم يولد بعد، أو عن طيفٍ لا جسد، فيقول في ختام “حبٌّ لم يولد بعد” (ص77): كانت لي في رياض الفكر توأمًا/ غاب شذاها/ ذوَتْ زهورها/ ونضرتها كساها الجليد/ لم تكتمل الطقوس/ لأنّها رحلت/ قبل أن تأتي/ فكبرياؤها أكبر/ من أن تبحر/ في عالم الحبّ الشريد!
وقصيدة خمرة الروح (ص76): جلست أرقب طيفها/ يخرج من لظى ناري. كذلك يعبر شاعرنا أحسن تعبير عن المعاني الإنسانيّة الشاملة بصيغة تفاؤليّة مُعيّنة، فيقول (ص74): كهزيم رعد مُدَوّ/ سيكتب قلمي/ لن أركع/ فلا قسوة الأزمان/ ولا تمنّعات العصيان/ ولا طقوس الأكفان/ تثنيني../ أن أكون هو الإنسان/ أنا الإنسان/ بالروح والكيان.
أكتفي بهذه النماذج من هذا الديوان الجميل الذي يعتبر خطوة أولى للشاعر في طريق الإبداع الوعريّة، والتي يَشقّها أنور خير بكل قوّة وثبات، مُعَبّرًا عمّا يختلج في ذاته من معانٍ سامية بصورٍ شعريّة، تُعبّر بمصداقيّةٍ عن مشاعر وأحاسيس من خلال هذا الديوان، في مسيرته الإبداعيّة التي نتمنى له فيها كلّ التقدّم والنجاح.