حيفا تكرّم سعيد نفّاع!
أمسيةً ثقافيّةً احتفاءً بالأديب سعيد نفاع بعد خروجه من السجن، وإشهار إصداراته “لفظ اللّجام”، “رسالة مؤجلة من عالم آخر”، “سيمائيّة البوعّزيزي” و “وطني يكشف عرْيي” أقامها نادي حيفا الثقافيّ وتحت رعاية المجلس الملي الأرثوذكسي في حيفا، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، وذلك بتاريخ 22-12-2016 ووسط حضور كبير من الأدباء والأصدقاء والأقرباء، تولّى إدارة الأمسية المحامي حسن عبادي، بعد أن رحب بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافي، وكانت مشاركات لكلّ من: الكاتب مفيد صيداوي، ود. نبيه القاسم، ود. محمد هيبي، والشاعر نزيه حسون وقصيدته “رسالة إلى أمّي “، والزجال حسام برانسي، وفي نهاية الأمسية شكر لمحتفى به الحضور والمنظمين والمتحدّثين، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة مفيد صيداوي بعنوان الأدب يعيد الحيويّة والروح للإنسان: في هذا اللقاء الأدبيّ الثقافيّ، وفي هذه الأيّام التي نستقبل بها جميعًا عيد الميلاد المجيد، أتقدّم لكم جميعًا بأحرّ التهاني القلبيّة بهذه المناسبة، فهذه هي الثقافة الفلسطينيّة الحقيقيّة التي تربّينا عليها، نحتفل جميعًا من كل الطوائف بأعياد جميع الطوائف، رغم أنّ هناك مَن يقف في زاوية معتمة مظلمة، من عهود ليست عهودنا بل مستوردة، يريد أن يمنع هذه التقاليد العريقة الرائعة في تاريخ وحضارة شعبنا، ولكنّنا نقول من هنا من قاعة الكنيسة الثقافيّة التي تحتضننا جميعًا، بأنّهم سيفشلون فشلًا ذريعًا، لأنّه في هذه الساعة بالذات تحتفل جمعيّة السلام في قاعة مسجد السلام في الناصرة أيضًا بعيد الميلاد المجيد، ونهتف هنا في حيفا وفي الناصرة، “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السّلام وفي الناس المَسرّة”، الناس كلّ الناس.
أمّا بعد أيّها الأخوة، الأدب يصدر عن التجمّع الإنسانيّ، وعن أفراد من هذا التجمّع، ولكنّه في نفس الوقت يصبّ في هذا التجمّع، ويصبّ فيه مؤدّيًا وظيفة ما، وراميًا إلى تحقيقِ هدف وتفاعلٍ مع الحياة ومع القرّاء، الذين قد يختلفون عن بعضهم البعض في المشارب والأذواق والتطلعات، وقد يعجب هذا النصّ الأدبيّ فلان أو علان وقد لا يعجبه، ولكن الأدب يؤثر على كلّ مَن يقرؤه، بمدى فهمه للنصّ وموقعه منه. الأدب كما أراه يعيد الحيويّة للروح وللإنسان، عندما يكشف عيوبًا أو يلقي ضوءًأ على ظلال الحياة الاجتماعيّة الفرديّة، أو العلاقة الجمعيّة العامّة، أو السلوك الفرديّ مع الجماعة أو على النفس البشريّة، فالانسان اجتماعيّ بطبعه، وكلّ تطوّر حدث للبشريّة هو في إطار الجماعة بشتّى تسمياتها، وبنضال وعمل وجهد الأفراد، لذا لا يمكن أن يسرق من يريد دور الأدب أو الأديب من مشاركة الجماعة في همومها وتطلعاتها وآمالها، وتصوير حالتها بشتى الأشكال، والأدب الراقي هو ذلك الأدب الذي يمسك بتلابيب اللغة الصحيحة، والذائقة الفنّيّة الرفيعة، والتجريب الراقي الذي هو في نهاية المطاف يجب أن يصبّ في خدمة المجتمع والإنسانيّة. من هنا كان اهتمام النقاد والشعراء والأدباء في العالم بأدب وشعر حنّا أبو حنّا ومحمود درويش، الذي عبّر ببساطة لغويّة وعُمق فكريّ، ومن خلال التجريب الفنّيّ الراقي عن قضيّة شعبنا وقضايا الإنسان في كل مكان، وينضمّ إلى هذه الكوكبة سميح القاسم، وتوفيق زياد، وسالم جبران وإميل حبيبي نثرًا وغيرهم. وعندما نتحدّث اليوم عن سعيد نفّاع وعن محمد نفّاع، وعن حسين مهنّا، ومحمد علي طه، وفتحي فوراني (في الابداع النّثريّ)، ود. محمد هيبي ود. نبيه القاسم ، ود. بطرس دلة (في النقد الأدبي)، فنحن نتحدّث عن نفس المدرسة الفكريّة بشكل عام دون الدخول في التفاصيل، هذه المدرسة التي قاومت الظلم بالقلم والفعل، فالسجّان الذي سجن سميح القاسم ومحمود درويش وعلي عاشور، هو نفس السجّان الذي لا يريد لنا أن نحلم أو نفكر بأبعد من أن نكون “حطّابين وسقاة ماء”. وأنتم خير من يعرف، أنّه بفضل هذا الدرب والسلوك الأدبيّ والإنسانيّ فشل السجّان ونجح أدب المقاومة.
سعيد نفّاع ينتمي إلى هذا التيّار كتابة وفعلا، وهو كما رأيت وقرأت في روايته، يحاول التجريب في زوايا لغويّة وأسلوبيّة، قد تختلف وقد تتماهى مع مَن قبله، ولكنّه يبقى في نفس الدرب، درب المبدع المقاوم للظلم، المقاوم للخضوع حتى لو كلف الأمر السجن، وهكذا وقف شامخًا أمام سجّانه ولم يهزم، وأظنّ أنّ تجربة السجن ستأتي بإبداع لم نعرفه في أدب سعيد من قبل. ونحن في هذه الأيّام بالذات شهود عيان على تعدّد النشاط الأدبيّ والثقافيّ في قرانا، ففي الطيرة في المثلث تقام حلقة فكريّة شهريّة، وأحيانًا أسبوعيّة للشعر والثقافة والأدب، وتشهد عارة وعرعرة هذه الأيّام أسبوع الثقافة العربيّة من غناء وموسيقى وحلقات قراءة الشعر وطرعان وغيرها، هذه الظواهر هي ظواهر صحّيّة إذا سارت ونحت الطريق الوطنيّ والإنسانيّ، وهي بالضرورة تساهم في تقليص العنف، خاصّة ضدّ المرأة التي يعتقد البعض أنّها العنصر الأضعف في هذا المجتمع، لكنّها الأمّ والأخت والزوجة والرفيقة والصديقة والأصل والأقوى.
بقي أن أهنّئ الأديب سعيد نفّاع على إبداعاته السابقة، وإبداعه الذي قامت دار الأماني للنشر والتوزيع بإصداره من منطلق واحد تربّينا عليه، وهو أنّ المحن تحكّ صدق الصديق، فالأماني دار نشر الكادحين لم نأخذ قرشًا واحدًا من مسؤول، ولا من وزيرة لا تحسبنا حتى من الشرقيّين، ونحن أصلُ الشرق، ومن لفح شمسه سمرُ كما قال شاعرنا راشد حسين، التي تتلمظ بالدفاع عنهم، بل كل ما أنجزناه ونعمل لإنجازه هو بالاعتماد عليكم أنتم، وعلى هذا الشعب المعطاء، وما قمنا به هو الواجب في ساعة الواجب، لأهل الواجب، فالشكر لكم جميعًا ولهذا البيت الدافئ والقائمين عليه، وكلّ المباركة للصديق الأديب سعيد نفاع، ونحن مستعدّون للتعاون مع كلّ كاتب وأديب لإنجاز إبداعه، ولا نعده إلّا بالعمل الجادّ المخلص، واقتسام الهمّ المشترك، والقروش بيننا هذا إذا وجدت، وأغتنم هذه الفرصة لأدعو كلّ من لم يشترك بمجلة الإصلاح بعد أو انتهى اشتراكه أن يجدّده لتبقى المجلة، فأنتم الأهل والوطن.
مداخلة د. نبيه القاسم: تتحدّد معظم نصوص سعيد في مجموعاته الستّ التي صدرت حتى اليوم، حول المواضيع الساخنة والقضايا الوطنيّة والمعيشيّة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني في الأراضي المحتلة بشكل خاصّ، وفي لبنان وداخل حدود دولة إسرائيل، كما ونجد اهتماماته القوميّة من خلال طرح قضايا عربيّة، والتركيز على أحداث شغلت الرأي العامّ ولها تأثيرها على ما جرى ويجري في العالم العربيّ، مثل قصة الشاب الجزائريّ محمد البوعْزيزي.
قصص سعيد نفّاع تتميّز بجماليّتها وفنيّتها ولغتها وتناسقها وشخصيّاتها وشموليّتها. فالمدخل للقصص الذي اجتهد فيه أن يعيّش قارئه حالة الفَقْد والضياع والغربة والحرمان والانتظار العَبَثيّ، بإهدائه قصصه للدوريّ المتحدّي الحدودَ والأسلاك والجند في مجموعته الأولى “نكبة الدوري”، كان الخيط الموصل إلى القصّة الأولى التي أهداها للأطفال النّاجين من بين الأشلاء في كفر قانا، القرية اللبنانيّة التي كان أهلها ضحيّة لجريمة ارتكبها جندُ الاحتلال الإسرائيليّ، وقد بنى سعيد قصّته على شكل لوحات متقابلة: لوحات تُظهر وحشيّة وكذب وجرائم جند الاحتلال ونفاق العالم الحرّ! بإعلامه من إذاعات وصحف مقابل صور إنسانيّة حيّة لصغار من أبناء مخيّم “عين الحلوة” في لبنان، الذين خرجوا ليتصدّوا للطائرات المهاجمة بأناشيدهم “طيّارة حراميّة تحت السيف مرميّة”، فمزّقتهم القنابل ووزّعتهم أشلاء مترامية. ولوحة تظهر الطفلة اللبنانيّة “عودة” التي أصابتها قنابل الغزاة في أحد المسشفيات الإسرائيليّة، وبالمقابل ما تتناقله الصحف والإذاعات من تبجّحات كاذبة خادعة عن إنسانيّة جُند الاحتلال، وكانت النهاية مثيرة وجميلة ومقنعة وذكيّة، عندما تُقَدّم ناديا الممرّضة شظيّة أخرجوها من جسد عودة، فتقرأ نجوى أم الطفلة ما كتب عليها “صنع الولايات المتحدة، تركيب مصانع الأسلحة الإسرائيليّة”، لتكون الشهادة الدامغة على تعاون الدولتيْن وتآمرهما على شعبنا العربيّ أينما كان.
استطاع سعيد نفاع في قصصه أن يعطينا مَشاهدَ من المعاناة التي يعيشها الناس في كلّ من لبنان والأراضي المحتلة وداخل إسرائيل، نتيجة السياسات الاحتلاليّة والتعسّفيّة الظالمة التي تمارسها الحكومات الإسرائيليّة ضدّهم.
لغة وجَماليّة القصص: اللغة التي كُتبت بها القصص عادية قريبة من لغة الناس، حتى مشاهد الوصف القليلة لم تتميّز بلغتها. الحوار بمعظمه كان باللغة المحكيّة، ممّا أضفى الواقعيّة على الأحداث، وجعلها تنبض حرارة وتشدّ القارئ. وجماليّة القصص كانت ببساطتها وسلاسة لغتها، وبُعْدها عن الصّراخ في طرح مشاهد المعاناة والظلم والألم. فنجوى لم تنفجر وتشتم عندما قرأت على الشظيّة التي أُخرجَت من جسَد ابنتها “عودة”، أنّها من صنع الولايات المتّحدة وتركيب مصانع الأسلحة الإسرائيليّة (قصة الشظيّة العائدة). ومثلها عادل لم يضرب السجّان ويشتمه، عندما سَحبَه من حضن أمّه التي زارته في السجن، مُعْتبرا قبلاتها لابنها مخالفة قانونيّة عقابُها الزنزانة الانفرادية. (قصة ثمن القبلة). وصباح ردّت على سجن وترحيل زوجها إلى لبنان، بالكَشف للصحفيّين الذين زاروها في المستشفى عن بطنها المصابة، بسبب ركلة الجنديّ الذي هاجم بيتها واعتقل زوجها. (قصة صباح بعد انحسار الغطاء). والشباب صعدوا إلى سيّارة الشرطة بهدوء، ولم يتمنّعوا أو يعترضوا، لعدم اقترافهم أيّ ذنب (قصة البيت المهجور) ومثلهم تصرّف الراوي، عندما دفعه الشرطي بقوّة إلى داخل السيارة. (قصة الرشاشات المسروقة). هذا الهدوء هو الذي أعطى للنهايات زخمَها وقوّتها وتأثيرها على القارئ.
معظم القصص انسابت بشكل هادئ منذ بدايتها، ويَنْشَدُّ القارئ إلى التفاصيل والحوارات، وتأخذه قُدُرات الشخصيّات الرئيسيّة وحتى الثانويّة، في شفافيّة إنسانيّتها وعدم السّقوط أمام عنجهيّة جند الاحتلال، أو صاحبِ العمل المستغلّ المتعالي، أو أمام المختارِ ومعاونيه من رجال السلطة وأعوانها. نهايات القصص كانت القمّة، والمؤشّر الى إمكانيّات سعيد نفّاع الإبداعيّة. فأنْ تبدأ بالكتابة أو الكلام، كلّ واحد قادر على فعل ذلك، ولكن أن تُنهي ما بدأت به من الكتابة أو الحديث عنه، هنا تكون الصعوبة ويكون الامتحان الصعب. الكثير من أصحاب القدرة على الكلام والخطابة في المناسبات المختلفة يشدّون المستمعين إليهم، لكنّهم سرعان ما يتورّطون ولا يقدرون على انهاء الكلام، فيثيرون مَلل المستمعين وحتى إظهار امتعاضهم وتركهم لمقاعدهم ومغادرة المكان. وهذا صحيح أيضا بالنسبة لكاتب الرواية أو القصة القصيرة أو القصيدة. فقد يأخذنا معه بمتعة، لكنّه سرعان ما يسقط ويفاجئنا بالنهاية السيئة التي أنهى بها روايته أو قصّته أو قصيدته إلخ. سعيد نفاع أخذنا معه في رحلة إبداعيّة جميلة، وتركنا نتعرّف على شخصيات قصصه ونتفاعل معهم ونرافقهم في كل خطوة يخطونها، لكنه تركنا نفاجأ بالنهايات.
مداخلة د. محمد هيبي بعنوان سعيد نفّاع بين القوالب الجاهزة و“الآنية مشرّعة الفوّهة!”: أنتهز هذه الفرصة لأتقدّم بالتهنئة لكلّ المحتفلين بعيد الميلاد المجيد، وأقول لنا جميعًا: كلّ عام ونحن نلتقي ونحن بألف خير.
لا حدود لما يُمكن أن يُكتب أو يُقال حول نصّ مهما كان قصيرًا، فما بالك إذا كان النصّ رواية. سعيد نفّاع إنسان عارك الحياة وعركته الحياة، فلا عجب أن يلجأ للكتابة، ليُبقي للأيّام عصارة معركته مع أعداء الحياة، ولينقلها لأجيالنا، كما جاء في “جلبوعياته”، على لسان أحد تلامذته، أنّ النضال يصبّ في صالح الوطن، وأنّ الحلم وإن طال تحقيقه يبشّرُ بقربه، وأنّ الدين أو العِرق أو المذهب أو المعتقد ليس إلّا فردًا، وأنّ الوطن أكبر من أن يكون فردًا. وعلى لسان تلميذ آخر: “علمْتَنا أنّ التضحية مبتدأ أول وحبّ الشعب مبتدأ ثانٍ”. طلاب نفّاع من الأسرى الفلسطينيّين في السجن، فهموا شخصيّته التي لا ازدواجيّة فيها، شخصيّته كما رأيناها نحن، فهي تظهر في كتاباته كما تظهر في أفعاله.
سعيد نفّاع لم يتوقّف عند إصدار مجموعاته القصصيّة، بل فاجأنا رغم سجنه، بروايته “وطني يكشف عُريي”، الصادرة عن “دار الأماني” لصاحبها الكاتب مفيد صيداوي الذي أخذ على عاتقه مهمّة إصدارها. وقد حمل الصيداوي الأمانة، وأدّى واجبه تجاه الرواية وتجاه صاحبها، وتجاه الأدب والقارئ. وأنا على ثقة أنّ “نفاع”، عندما بلغه نبأ صدور روايته، تضاعفت قدرته على احتمال ظلم السجّان وقيد السجن وظلامه، رغم معرفتنا الأكيدة أنّه كان كذلك قبل دخوله السجن وقبل صدور الرواية. فهو إنسان وطنيّ عوده مرّ، وكاتب لم ينحنِ للريح وإملاءات السلطة قبل سجنه، ولم ينحنِ في السجن ولن ينحني بعده. كتاباته وتفضيله السجن على الانحناء والتدجين خير شاهد على ذلك.
رواية “وطني يكشف عُريي” هي خطوة إلى الأمام في إبداع سعيد نفّاع، أستطيع أن أقول إنّه اخترق بها خطّ التواضع الفنّيّ الذي لمسناه في مجموعاته القصصيّة. هنا يتعامل نفّاع مع عناصر الرواية الفنّيّة من زمان ومكان وشخصيات وأحداث لا تخلو من ترابط، يسردها راوٍ كلّيّ المعرفة يحمل ملامح الكاتب ومواقفه، ولا أدري لماذا اختار نفّاع أن يُذيّل عنوان روايته بمصطلح “روانصّية”؟ لعلّه بنحت المصطلح قصد أنّها نصّ لا يخضع لقوانين الرواية التي نعرفها، وقد اعترف في المقدّمة أنّه لا يُبالي بالقوالب (الشكل الفنّي) التي أتعبته، وليكسو بعض عُريِه راح يبحث عنها في كؤوس (قوالب) من سبقوه (من روائيّين وغيرهم)، فاستعار كؤوسهم لصبّ بعض فصول روايته. يقول: “ولم يشغله كثيرًا رفض خفر السواحل عندما كان القارب يميل نحو إحداها لاجئًا تعِبًا، مدّ يد العون، مبرّرا ذلك بغياب مفعوليّة جوازيْهما، ولا حتّى لالتقاط أنفاس بعد هول أنواء” (ص44). هذا القول ذكّرني بنهاية رواية “حبّ في زمن الكوليرا” لمركيز. والبعض الذي لم تقبله تلك الكؤوس، صبّه كما قال، “في آنية مشرّعة الفوهة” (ص6)، أي مفتوحة على أن تكون مقبولة أو غير مقبولة. ومن هنا، يبدو لي أنّ نفّاع وإنّ كان يعي أنّ الأدب يسعى إلى الارتقاء بوعي القارئ وتطوير مداركه، ويعي أيضا ضرورة التجريب لما فيه من تجديد وتميّز في النصّ شكلا ومضمونًا، يعترف أنّه ذهب في تجريبه باتّجاهيْن مختلفيْن: الأوّل يعتمد قوالب تجريبيّة سابقة، لا بقصد نسخها، وإنّما للإفادة منها والخروج عليها عند اللزوم. والثاني، الشكل المفتوح، أو ما أسماه هو “الفوهة المشرّعة”. ولكن، بغضّ النظر عن هذا وذاك، ذلك لا يستدعي تذييل العنوان بـ “روانصّية”، لأنّ كلّ رواية هي رواية نصّيّة، وهذا التذييل ساهم فقط بتشويش انتباه القارئ. وقد يكون محاولة للتهرّب من النقد، بمعنى إذا عاب النقّاد الرواية، يستطيع الكاتب أن يقول: “هذا نصّ رواية وليس رواية”، حيث يقول: “عزيزي القارئ، الكؤوس إن سألتني عن الاسم الذي اخترته لقلت لك “روانصّية” (ص6). لذلك، أراني لا أجانب الحقيقة فيما ذكرت، لأنّ سعيد نفّاع يعترف بتواضع، أنّ الأشكال والقوالب الفنّيّة مُتعِبة، ولا يُريدنا أن “نؤاخذه” عليها. ولكن، كما أنّ لسان سعيد نفّاع يسطع بالحقيقة، لا يرحم ولا يخشى في الحقّ لومة لائم، وهذا بلا شكّ من مَناقبه، فإنّ النقد البنّاء الجادّ لا يرحم أيضًا، ويجب أن يقول كلمته لكي يصعد سعيد نفّاع في إبداعه القادم درجة أخرى، كالتي صعدها في هذه الرواية التي تُشكّل قفزة نوعيّة في سرده.
“وطني يكشف عُريي” عنوان يَشي بمضمون الرواية وبما سيقْدِم عليه الكاتب من كشف وفضح، وتعرية للمجتمع من خلال تعريته لشخصيّات الرواية، وخاصّة “أنس البكري” و”راشد”. الشخصيّات النسائيّة في الرواية، وخاصّة “جوليا” و”نجلاء”، وظّفهما الكاتب كعامل مساعد على التعرية، وكذلك لطرح مشكلة المرأة العربيّة وما تعانيه من ظلم المجتمع الذكوريّ المُتخلّف الذي يراها مُلكًا للرجل، له الحقّ في أن يتعامل معها كما يشاء، دون أدنى اعتبار لإنسانيّتها وحرّيّتها. ومن خلال ذلك، يُدرك القارئ موقف نفّاع الإيجابيّ من المرأة، وضرورة كوْنها شريكًا ورفيقًا للرجل، ولا يصلح المجتمع بدون أن يرقى إلى مثل هذا الموقف فكرًا وممارسة.
بدأ الكاتب روايته بفصل أراه حاملا للسرد، وهو أقرب إلى الميتا قصّ، حيث يعترف فيه أنّ الحكاية التي تتمحور حولها الرواية ولدت مبتورة، لأنّ قصة “راشد” مع “جوليا”، التي هي لبّ الرواية، “عجز (أنس) رغم صراعه المستحيل مع “راشد” أن يُتمّ القصّة، وانتهت القصّة عند هذا الحدّ، على أن يكسو عُريه وراشدًا الذي أراده عرّابا لخيانة الوطن في العمل القادم” (ص8). وفيما يعرضه الكاتب في هذا الفصل، غموض لا يكشفه ما تبقّى من نصّ الرواية. وتنتهي الرواية دون أن يعرف القارئ كيف انتهت قصّة “راشد” و”جوليا” التي استمرّت من بداية الفصل الثاني (ص9) حتى نهاية الفصل الثامن عشر (ص118). بعدها يُفاجئنا الكاتب أنّ للقصّة تتمّة (ص119)، رغم أنّه أبلغنا سابقًا أنّها لن تتم إلّا في عمل قادم. وحين نقرأ هذه التتمّة نجد أنّها جزء لا يتجزّأ من الرواية، حدث في زمنها الموضوعيّ والنفسيّ معًا. هذه التتمّة بعضها يحكي قصّة “أنس” وعلاقته بـ “جوليا”، والصراع الذي أورثته هذه العلاقة في نفسه: هل خان صديقه بتلك العلاقة أم لا؟ وبعده يأخذ “أنس” صديقه “راشد” ليُشاهد المسرحيّة التي كتبها وكشف عُريه فيها، فاغتنم “راشد” فرصة صعود “أنس” إلى المنصّة، وهرب إلى البحر ثمّ تبعه “أنس”. وهناك كان يجب أن تنتهي القصّة كما أبلغنا في الفصل الأوّل، إلّا أنّها لم تنته، إذ يُفاجئنا الكاتب مرّة أخرى بفصليْن يَفضحان الخيانة بين الأصدقاء، وبفصل أخير بعنوان “الخاتمة”، يتحدّث عن ضبابيّة الحالة التي عاشها الصديقان بعد الاعتراف. وينتهي الثاني منهما بعبارة تؤكّد هذه الضبابيّة ولا تقلّ ضبابيّة عنها، “وظلّت القصّة يتيمة”، وهي في رأيي، نفس الضبابيّة المستمرّة التي تكتنف حياة مجتمعنا. وفقط بعد قراءة الفصليْن الأخيريْن من الرواية، نتأكّد أنّ الخيانة بكلّ أشكالها والتي خيّم شبحها على الرواية كلّها: خيانة الزوج وخيانة الحبيب وخيانة الصديق وخيانة الوطن، هي الهمّ الذي يشغل سعيد نفّاع ويقُضّ مضجعه، لأنّ الخيانة كما يراها نفّاع، مُتأصّلة في مجتمعنا بشكل مقلق، وهي لا تتجزّأ، لأنّ خيانة واحدة سوف تجرّ وراءها كلّ الأشكال الأخرى. هذا فضلًا عن وجود علاقات حميميّة يستهجنها نفّاع، تربط بين الخوَنة وغير الخوَنة، وكأنّ الخيانة غير موجودة، أو كأنّها شيء عاديّ، أو شيء لا بدّ منه ليستكمل هذا المجتمع صورته التي يستهجنها الكاتب ويفضحها.
من خلال الشخصيّات والعلاقات بينها، تتحدّث الرواية عن الأقلّيّة العربيّة داخل إسرائيل أو بعض شرائحها، وعن نسيج العلاقات بين مركّباتها، وتستغرب كيف يكون الحبّ والعلاقات الحميميّة في مجتمع تقتله المظاهر وينخره سوس الخيانة؟ ويستغرب الكاتب في روايته أكثر: تعامل بعض شرائح المجتمع المُتمثّلة بالشخصيّات مع الخيانة، وكأنّها أمر مفروغ منه، وكيف أنّ الخائن يرى خيانات الجميع ولا يرى خياناته؟ أو كيف يُدين خيانات الآخرين ويغفر خياناته؟ أو كيف تسمح له علاقاته بإدانة خيانات بعض الناس، والصفح عن خيانات بعض آخر؟ كلّ ذلك يجعلنا نعتقد أنّ الكاتب ينظر إلى الراهن المحلّيّ، وربّما العربيّ عامّة، على أنّه راهن مُخجل، خاصّة عندما يقارنه مع التاريخيّ، يُصوّره كيف يخجل من الراهن حين يقول: “سمعت بكاءً مريرًا شدّني مصدره، وإذا بي أمام حشد ضخم ميّزت فيه خالدا (بن الوليد) وصلاح الدين والمختار والأطرش (سلطان باشا الأطرش) والقسام وجمال الدين وابن رشد وابن سينا والفارابي وأبا العلاء والمتنبي وأبا فراس، يُعفّرون رؤوسهم بالتراب” (ص28). وهنا يُطرح السؤال: لماذا يُعفّرون رؤوسهم بالتراب؟ ولا أجد جوابًا إلّا خجلهم من هذا التحوّل فيما يحدث لنا اليوم، أو مما آلت إليه حالنا؟
من خلال شخصيّة “أنس” ومسرحيّته، يُعرّي الكاتب خيانة “راشد” للوطن، وخيانة “أنس” لصديقه “راشد”، باعتباره أنّ عدم ردعه صديقه “راشد” عن خياناته هو بحدّ ذاته خيانة. فهو لم يردّه عن خيانة الوطن ولا عن خيانة زوجته عندما سكت عن علاقته بـ “جوليا”، ولا عن خيانته لعشيقته “جوليا”. ولم تُخبرنا الرواية عن موقف “أنس” من عقاب “راشد” لـ “جوليا” على خيانة لا ندري إذا قامت بها “جوليا” فعلًا أم لا! وتظهر الخيانة أكثر من خلال شخصيّة “راشد” الذي اهتمّ بقضاياه الشخصيّة، ولم يهتمّ بقضية الوطن الذي اغتصب وشرّد أهله، وخان كذلك قريته التي تركها بعد أن أكمل دراسته وغادرها إلى حيفا، مُنكِرًا فضلها عليه ناسيًا حاجتها له. وخان زوجته وأولاده عندما تركهم ليسكن مع عشيقته في حيفا. وخان عشيقته التي وثقت به وباحت له بأكبر أسرارها. والأهمّ من ذلك كلّه، أنّه لم يلتفت لأيّ من خياناته كما التفت لخسارته عشيقته “جوليا” التي اعتبرها مُلكًا له، صَعُب عليه أن يخسره!
وتظهر الخيانة بشكل آخر أيضًا، في اغتصاب الخال لـ “جوليا” ابنة أخته. وفي هذه الخيانة، إشارة واضحة إلى ظاهرة سِفاح المحارم في المجتمعات الذكوريّة المتخلّفة. فإمّا أنّ تكون هذه الظاهرة آخذة في الاتّساع في مجتمعنا بشكل مُقلق أثار الكتّاب. فقد قرأت أكثر من رواية مَحلّيّة اهتمّت بهذه الظاهرة. وإمّا أنّ سعيد نفّاع يرى في حالتنا الاجتماعيّة والسياسيّة، حالة تشبه سِفاح المحارم. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فهناك خيانات تبقى غامضة. يظهر ذلك من تصرّف “جوليا” التي صرّحت برغبتها بزيارة صديق مجهول، ثمّ باستقباله في بيتها. والغريب أنّها في الحاليٍن استأذنت “راشد”، والأغرب أنّه وافق رغم أنّه لم يكن راضيًا. والقارئ لم يرَ ذلك الصديق في الرواية، ولم يعرف إذا كان مزعومًا أو حقيقيًّا، وهل تمّت الزيارتان أم لا؟ ولكن، مجرّد حديث “جوليا” عن الزيارتيْن كان كافيًا ليعتبرها “راشد” خائنة ويجب عقابها. وفي هذا يُعالج الكاتب قضيّتيْن هامّتيْن: يفضح في الأولى كيف يتعامل المجتمع الذكوريّ المتخلّف مع المرأة عامّة، سواء كانت زوجة أو عشيقة أو غير ذلك. ويفضح في الثانية: كيف يكفي الشكّ لنحكم بالإعدام على من نشكّ به قبل إثبات التهمة، وخاصّة إذا كان المتّهم امرأة في مجتمع قتلته ذكوريّته ودمّره التخلّف.
وعود على بدء. “أنس” و”راشد” صديقان منذ الطفولة، تربطهما علاقة قويّة رغم ما بينهما من خلاف واختلاف وخيانات. “أنس” الذي عرّى صديقه، يعيش صراعًا: هل خان هو صديقه أم لا، وأيّة خيانة هذه، ما دام صديقه “راشد” غارقا في الخيانة بكلّ أشكالها؟ تبدأ الرواية من النهاية، “بولادة مسرحيّة كتبها (أنس) بعصارة قلبه، لولا أنّ العرّاب المختار (راشد) دون علمه فرّ باكيًا وأبكاه جارّا إياه إلى البحر” (ص7). فقد وجد المسرحيّة تُعرّيه وتؤلمه، خاصّة عندما علم أنّ كاتبها هو صديقه “أنس”. عندها فرّ إلى البحر فتبعه “أنس”، وهناك حدثت المواجهة أو المحاسبة أو المعاتبة أو كما قال سعيد نفّاع “سمّها ما شئت”. والأهمّ أنّها لم تنتهِ إلى شيء حاسم. ورغم أنّ الكاتب أنهى الرواية بفصليٍن كشف فيهما أشكالًا من الخيانة كانت غامضة، إلّا أنّه ختم “الخاتمة” بـ “وظلّت القصّة يتيمة” (ص161). وهذا، كما يظهر لي، يُشير إلى تميّز مجتمعنا، حيث يُبقي كلّ شيء مفتوحًا، لأنّه أعجز من أن يُغلق أيّ شيء، سلبًا كان أم إيجابًا. فالعلاقات الحميميّة ستستمرّ، والخيانات كذلك ستستمرّ. ولا يلوح، في أفق الكاتب على الأقلّ، بارقة أمل تعِدُنا بالتغيير الذي نسعى إليه.
وأخلص إلى القول: سعيد نفّاع في هذه الرواية، خطا باتّجاه فنّيّة السرد وبناء أشكاله، خطوة تستحقّ الذكر والتكريم. وهو في كلّ أشكال إبداعه، يظلّ كاتبًا صاحب فكر، وفي جعبته الكثير ممّا يستحقّ أن يُدفق في قوالب فنّيّة ترقى إلى مصافّ الإبداع. ولذلك، لا يسعنا إلّا أن نثني على خوضه تجربة إبداعيّة أخرى، حقّقت قفزة ملموسة شكلًا ومضمونًا، وفيها من جرأة الاعتراف ما لا يقدر عليه كثر من مبدعي أيّامنا. كما أنّني أعتقد أنّ خوضه تجربة السجن وما تحمله من معاناة ورموز، سيفتح أمامه آفاقا إبداعيّة جديدة، لن تتأخّر لتظهر في يوم قريب.
مداخلة سعيد نفاع: الأخوات والأخوة، قد يرى البعضُ فيما أنا ذاهبٌ إليه في كلمتي خروجًا عن المألوف في الندوات الاحتفائيّة أو التكريميّة، إذ يقتصر عادة دورُ المحتفى به على توزيع الشكر على وعلى… وإنّي فاعل، ولكن قبل ذلك سأقول:
أولا: عندما اتّصل بي فؤاد قائلًا بما معناه : “خلّصنا عاد…”، وخلّصته، سألني إن كان عندي أيُّ اقتراحات فأجبت: “لا.. افعلوا ما ترَوْن وتريدون”. لاحقا اتّصل حسن ليسألَني إن كان هنالك مِن أمر أريده، فلم تختلف إجابتي. ولم أتحدّث مع نبيه بتاتًا ولا مفيد ولا محمد في موضوع الأمسية، ولا في غيرها في الفترة الأخيرة. ولذا فـ”خْطَيْتِي” في رقابهم جميعًا، فلا أعرف ما الذي ينتظرني هذا المساء!
ثانيا: فـ “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله”. (يوحنا الإصحاح 1 : الآية 2). وفي سياقنا في البدء كانت الكلمةُ كان الابداعُ، ثمّ جاء التقييمُ أو النقد (التقييم والتقييم “التقويم”). فالنقد وضع قواعدَه مستنبطة مبنيّةً على ما كان بدءا، ولذا فالنقد خارطةُ طريق ليس إلّا، ولو كان الأمر على عكس هذا لصار النقد حاجزا أمام الابداع، وهذا فعلا ما حدث في بدايات النهضة الأوروبيّة انسياقا وراء الابداع الإغريقيّ، إلى أن تشعّبت خارطةُ الطريق.
وعند العرب لم يختلفِ الأمرُ، وشهدت الحركة النقديّة نقلاتٍ نوعيّة منذ أن كانت الكلمة، فمن يتابع حركتَنا النقديّةَ العربيّة، يجد أنّها ازدهرت وتطوّرت وتراكمت، وسيجد لها أطوارًا، بدءًا بالطوْر البدويّ الجاهليّ وانتهاء بطوْر النقد العلميّ، وسيجد فيها مصطلحاتٍ أو اصطلاحاتٍ كالنقد الغنائيّ والصناعيّ والمقارن والمبدئيّ والنحويّ، وسيجد في العلميّ منه مسالكَ، مسلكَ النقادِ الرواة، ومسلكَ الكتّابِ وفقهاءِ العلماء؛ كابن المقفع، وبشرِ بن المعتمر، والجاحظِ من المعتزلة، والذين فتحوا باب النقد على النثر كذلك. ولمّا استهلّ القرن الثالث الهجريّ، كان النقد الأدبيّ على طريقة الرواة وعلماء اللغة قد نضج واستوى، وظهرت فيه بعضُ المؤلّفات القيّمة، (كـ “طبقات فحول الشعر” لمحمد بن سلام الجمحيّ، وكـ “الشعر والشعراء” لابن قتيبة الدينوريّ، وكـ “نقد النثر، ونقد الشعر” كتابين لقدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد، محصورين بالنقد ليس كسابقيهما).
وستجد فيه طرقا تقوم على الموازنة بين الشعراء، وتخضع للحركة البلاغيّة وتسير في ركابها، ولا شكّ امتدادٌ مع زيادة في الاتّساع والعمق للنقد البلاغيّ الذي أبدعه فصحاءُ المعتزلة وكتابُهم. وهكذا ظهر النقدُ كعلم مستقل من علوم البلاغة، وفيه أُلّفت مؤلّفاتٌ كبيرة، والشجرةُ النقديّة منَ ازدهار إلى ازدهار، ولم تذوِ إلّا حينما ذوت بقيّةُ أشجار رياضنا، ولمدّة ستِّ مئة سنة، هي عصرُ المماليك والعثمانيّين، عصرٌ يترحّم عليه البعضُ اليومَ. (ومن الأمثلة كتابان مشرقيّان: “الصناعتيْن” لأبي هلال معسكري. ت.395 هجرية، و”المثل السائر” لضياء الدين بن الأثير. ت. 625 هجرية. وأخريان مغربيان: “رسالة التوابع والزوابع” لابن شهيد الأندلسيّ. ت.416 هجرية، و”العمدة” لابن رسشيق القيراوانيّ. ت. 426هجرية. ومنها إلى كتاب “تلخيص المفتاح” للقزويني. المتوفي 739هجرية).
ثالثا: ما الذي أريد أن أقولَه مستغلّا أو مستثمرًا: “يحقّ للعريس ما لا يحقّ لغيره”؟! رُقيّ الحركة الأدبيّة منوطٌ بعمليّةِ تبادليّة تكافليّة بين الأدباء والنقاد والقرّاء، فعلى النقاد النقد بعيدًا عن القريظ وبعيدا عن “موزنة” العمل الأدبيّ بمعايير جامدة، خصوصًا إذا كانت مستوردةً غيرَ مبنيّة على الموروث، وإلّا صار النقدُ حاجزا في طريق الابداع، و”اللي بده يزعل يدق راسه منّي وجر”. وعلى الأدباء نقد النقد، بتخطّي حدود خارطة طريقه دون وجل ولـ “يتشوّش” (يا د. محمد) تفكيرُ النقّاد. وعلى الفريقين أن يدركا أن الناقدَ الأخيرَ هو القاريءُ فهو الضحيّة (بين أقواس أو بدونها)، وحتى لو لعن الكاتبَ، فمعناه أن الكاتبَ استفزّ فيه شيئا، وهذا هو المطلوب.
وكمثال على هذه التكافليّة التبادليّة بين الكاتب والناقد والقاريء، سأجعل “الموس في لحيتي” !
فهذا الناقد (د. محمد) يقول: “أيُّ متابعة لطرقِ السرد عند سعيد نفاع لن تبعدَه عن هذه الحالة ( همّ الشكل الفنيّ)، مما يضعُنا أمام أمرين: عدمُ معرفة سعيد نفاع بطرق السرد الفنيّةِ الحديثة، أو نفيِ هذه الطرق… فالراوي كليُّ المعرفة مثلا، وبأشكاله وقدراته الفنيّة المختلفة، لا نكاد نعثر عليه في أيِّ من نصوص سعيد نفاع.” ويضيف: “… ولكن ما أعرفه أن هذا التذييل (روانصيّة) شوش تفكيري قبل قراءة الرواية وأثناءَها. وقد لفت نظري صديق أعرفُ مني في مجال الرواية والنقد، إلى أن التذييلَ المذكورَ فيه محاولة للتهرب من النقد، بمعنى إذا عاب النقدُ الرواية، عندها يستطيع الكاتبُ أن يقول: هذا نصُّ رواية وليست رواية.”
وأما القارئ (عبد الفتاح) فيقول، أن سعيد نفاع يعلن وفي مقدمته أنه يكتب روايةً مختلفة، لا تخضع لقوانينَ الروايات. ويضيف: “من الصعب أن تكتفيَ بقراءة الرواية مرّة واحدة فقط، ستجتاحُك فورا عشراتُ الأسئلة، ستقف وتفكر طويلا بكل كلمةٍ بكل جملةٍ بكل فقرة، وستقف حائرا هل قرأتَ روايةً جميلة هادفة لها رسالةٌ عميقة أم أنك قرأت نصا فلسفيّا عميقا بحاجة لإعادة القراءة كي تستوعبَ ما يقوله الكاتب؟ وفي كلا الحالتين ينتابك شعور من المتعة والسعادة في كل كلمة في الرواية فهي تشدك إليها بكل قوة، وتأخذك إلى عوالمَ شتى لتدخلَك في مواضيعَ مختلفة”.
وأما أنا فأقول: في “مذيّلةٍ” لمجموعتي: مأتم في الجنّة- أواخر ال2011. كتبت: تناولت كتابة “المقطوعة” الأدبيّة منذ شبابي المبكر وما ألهاني عنها، نادما، إلا الغوصَ (أو الغوصُ) في العمل السياسيّ الاجتماعي. تناولتها بعيدا عن النظريّات والتعريفات وصنفت ما كتبت تحت باب “القصة القصيرة”. كتبت وأكتب ما أحس فيه وما أجد به حاجة لإيصال رسالة، مُدّعيًا أنّه إذا أفرح ما كتبت أو أحزن، أو أتعب أو أراح، أو أغضب أو أسرّ، أو ثوَّر أو هدّأ، أو حتى سبب لي الشتيمة فقد وصلت الرسالة. أومن بالمثل الصيني: “من يفكر بوضوح يعرض بوضوح”، فابتعدت عن الطلاسمَ رغم إني طرقتها في بعض القصص- النصوص، اكتفاء لشرّ الحداثة والحداثيّين، فكتبت إشراقاتي محاولا قدر الإمكان التبسيط. لذا لم أتعب نفسي يومًا كثيرًا بلون فستان المقطوعة ولا بشكل تسريحة شعرها ولا بـ “المكياج” الذي تغطي بها وجهها، وهذا لا يعني أنّي أهملت ذلك كليّة. ولكني هكذا أطلقتها، ومرجعيّتي قولُ ابن الرومي عندما سألوه عن أحبّ أبيات شعره إليه، فقال بتصرف: “شعر الشاعر كأبنائه، فيهم السليم وفيهم العليل، وفيهم المعافى وفيهم السقيم، وكلّ عزيز على قلبه”.
فـ “الروانصيّة” اشتقاق واع لا هروبا ولا تهربّا. فهل كان أي سرد يستطيع أن يعطيَ حبَّ راشد العبثيّ أكثرَ من نصّ “أفروديت”؟ وها كان أي سرد يفي اغتصابَ الخال لابنة اخته الطفلة، ومكانةَ ودورَ المرأة في مجتمعنا أكثرَ من نص “الخيمة والنخل” ؟ وهل كان أي سرد يفي بكاءَ الرجال حقَّه أكثرَ من نص “لن أخونَ أمي مرتين”؟ وهل كان أي سرد يفي الخيانةَ، بكلّ أوجهها، حقَّها أكثرَ من نص “الرسالة اليتيمة”، رسالةُ الأخت التوأمِ لأخيها ال- “تركها” شابا ؟ أو قضيّةَ الثقة بالنفس في نصّ “الرسالة القديمة”؟ أو اعتمادَ الشك بوصلتَنا في نص (شعري) “انتصار الشك”؟ لم أعتقد ولا أعتقد ؟!
ثُلّةٌ كبيرة من النقاد يعتبرون أن روايةَ “زينب” لمحمد حسين هيكل، المتجددة بعد الحرب العالميّة الأولى، وباسمها الأول “الفلاح المصري” في لبوسِها الأسبق عام 1909م. هي الروايةُ العربيّة الأولى، فما الذي اختلف في غالبيّة ما نقرأُه اليوم من روايات، وبعد 110 سنوات عن رواية “زينب”؟! أما في القصة القصيرة، أليست بعض مقامات بديع الزمان قصصا قصيرة ؟! فلماذا تشيخوف، وموباسان، وألان بو؟! وعودّ على بدء. هؤلاء، الكاتب والناقد والقارئ، ثلاثةُ أضلاع الحركة الأدبيّة. فلا رقيَّ فيها إن لم يُجَد الكاتبُ المتمرّد، والناقدُ الشرس، والقارئ المُستفز.
رابعا: بعدّ لم أقلْ وقد أطلت الفاتحة! يعزو بعضٌ كثير فشلَ روّاد الحركة النهضوية التنويريّة العربيّة، التي انطلقت في نهايات القرن التاسع عشر وأوائلَ العشرين، في “نقدهم” مجتمعاتِنا للنهوض بها، إلى اتباعهم “محاكاةَ” الغرب رغم اختلاف الموروث. فهل نقادُنا يسلكون مسلكَ النهضويّين التنويريين بمحاكاة قواعد النقد الغربيّة، ثمرةَ ثقافتهم في الجامعات الغربيّة بنسختها الإسرائيليّة، بدل أن يؤسسوا على “تلخيص المفتاح” وانطلاقا من اختلاف الموروث؟ فلماذا نجد في نقدهم: “إن الكاتبَ استطاع وبناء على نظرية جورج أن…” بدل أن نجد: “إن الكاتب استطاع وبناء على نقد النثر لقُدامة بن جعفر أن….” أو نجد: ” إن الكاتب استطاع وبناء على ما اعتقد أن…” سؤال أتركه مفتوحا !!!
وأخيرا، لا بدّ مما ليس منه بدّ: فيا مفيد.. يروى أن امرأ القيس عندما أراد أن يردّ جميلا للإمبراطور البيزنطي على دعمِه إياه في الأخذ بثأر أبيه، وما عنده ما يردّ، قال له: “وما يجزيك منّي غيرُ شكري إياك”. حالت حقيقةُ وجودي في الأسر وهمومُ ما بعد الأسر دون أن أوجه، حتى اليوم، ل-“دار الأماني للنشر والتوزيع م.ض.-عرعرة” لصاحبها الكاتب مفيد صيداوي، ما تستحق من شكر وتقدير على لفتتها الوطنيّة، إذ تبنت وطبعت ووزعت وما زالت وعلى نفقتها الخاصة روايتي “وطنيّ يكشف عُرْيِي”. فكثيرون رأَوا الرواية وربّما قرأوها قبل أن تقتحمَ جدران وأسلاكَ السجن عليّ لأراها، فتنيرَ عليّ ظلماتِ الزنازين، وتمنحَني الفرحَ النابع من أن في الدنيا ما زال الكثيرُ من الخير والخيّرين. لستَ يا مفيد الإمبراطور ولست امرأ القيس، ولكن وجدت في قوله أبلغَ ما يمكن أن أقولَ لك فـ “ما يجزيك منّي غير شكري إياك”.
أما النقاد: لو تعرفون ما قال الناقد أحد أبطال نوال السعداوي في روايتها “زينة” ؟ “مهنة، النقد الأدبيّ متطفلةٌ على الأدب الحقيقي والفن، مثلَ الديدان الشريطيّة، نحن نقادُ الأدبِ لسنا إلا مبدعين فاشلين، نعوّض عن فشلنا بنقد أعمال الآخرين، نحن عاديّون مثلُ بقية البشر، ليس عندنا موهبةٌ، نحاول الوصولَ إلى الأضواء عن طريق تلميع إبداع الآخرين، نحن مثلُ ماسحي الأحذية.” للوهلة الأولى، ما يتبادر إلى الذهن أن نوالَ السعداوي بـ “تبْحش على قبر أبو النقاد”، ولكن تعمقّا في قولها يوردنا إلى خلاصة، أرادت ذلك أو لم تُرد، أنه عندما يكون النتاجُ الأدبيّ أحذيةً، يصير النقادُ ماسحي أحذيةٍ. فلا نتاجَنا الأدبيَّ أحذيةٌ ولا نقّادَنا ماسحي أحذية.
فيا د. نبيه القاسم، عرفتك استاذا وللمرة الأولى عندما أخذتني من يدي طالبا في الصف الحادي عشر، إلى زاوية في ساحة المدرسة “تنقدني” حول مقال لي في “الغد” “أي مستقبل للشباب الدروز”… ومن ثمّ أطلقت لنا المجلّة الطلابيّة “الشعلة” منبرا. ثمّ تابعتك ناقدا مشهرَ الحسام لا تهاب الوغى، لا أعرف لماذا أحسّ أنك أغمدتَه، لو تعرف كم نحن بحاجةٍ لمن يسيّلُ منّا الدماءَ بين الفينة والأخرى، فجرّد حسامَك فنحن جدُّ محتاجين إليه! وأما د. محمد هيبي، عرفتك عن قرب من خلال تأسيسِنا اتحاد الكرمل للأدباء، وكان لنا حديث عن النقد والنقاد، وتابعت دراساتِك النقديّةَ قراءة وسماعا أحيانا، وشدّتني فيها الشراسة، فأيّها الناقد الشرس لك منّي قول البحتريّ: “قضقضْ عصلا في أسرتِها الرّدى”. أما نادي حيفا الثقافيّ وراعيه المجلس الملّي الوطني، فقط من يرحلُ مع الأديب حنّا أبو حنا في رحلة البحث عن التراث أو حتى مع يعقوب يهوشواع (والد أ ب يهوشوع) في طيّات الصحافة العربية في فلسطين 1908 إلى 1918، يستطيع أن يدرك أيَّ جذور تحيون وأيَّ شجرة مباركة تنمّون. وأخيرا لعائلتي الصغيرة، زوجتي وأولادي “الله يعينكوا عليّ”. ولكم جميعا: ما يجزيكم منّي غيرُ شكري إياكم. وكل عام وأنتم بخير.
نشأة النقد الأدبي. (ص8) هناك أربعة أطوار في تاريخ النقد الأدبيّ عند العرب:
1* الطور البدوي الجاهليّ: المفاضلة بين الشعراء، وملاحظة الأخطاء الظاهرة والتنبيه إليها، و(ج)الحكم على القصائد وتسميتها أسماء مناسبة.
2* الطور التوجيهي الإسلاميّ.
3* الطور الحضريّ (ص13): النقد الغنائي، والنقد الصناعيّ، و(ج) النقد المقارن، و(د) النقد المبدئي، و(ه) النقد النحوي.
النقد العلميّ (ص19) بدأ في أواخر الدولة الأمويّة، وتشعّب في الدولة العباسيّة، وسلك مسلكين: الأول: مسلك النقاد الرواة، وكانوا يفاضلون بين أبيات القصيدة الواحدة، ويعيّنون أجود بيت فيها ويسمونه: “بيت القصيد”.
الثاني: مسلك الكتاب وفصحاء العلماء. ص20 ابن المقفع، بشر بن المعتمر، والجاحظ من المعتزلة، والذين فتحوا باب النقد على النثر كذلك. ولما استهل القرن الثالث الهجريّ، كان النقد الأدبيّ على طريقة الرواة وعلماء اللغة قد نضج واستوى، وظهرت فيه بعض المؤلفات القيّمة، ونظريّة الوضع في الشعرالصراع بين القديم والمُحدَث، أبو نواس يحمل لواء التجديد.
النقد الأدبي في القرن الرابع الهجريّ. ص22 هناك طريقتان للنقد الأدبيّ، الطريقة الأولى تقوم على الموازنة بين الشعراء، والطريقة الثانية تخضع للحركة البلاغيّة وتسير في ركابها، ولا شكّ امتداد مع زيادة في الاتساع والعمق للنقد البلاغيّ الذي أبدعه فصحاء المعتزلة وكتابهم. ولمّا استهلّ القرن الرابع الهجريّ، كانت الثقافة الإغريقيّة وطريقتها في البحث قد نقلت إلى العربيّة، وكثرت المؤلفات، حتى جاء القزويني المتوفى سنة 739 هجريّة بمؤلفه “التلخيص”، ولم يزد علماء البلاغة في عصور المماليك والأتراك على التلخيص شيئا يُذكر.
علم النقد. ص24 ظهور النقد كعلم مستقل عن علم البلاغة، وهناك العديد من المؤلفات. وفي عصر المماليك والأتراك، كسدت سوق الأدب، ولم يظهر طوال مدّة تقرب من 600 عام كتاب في النقد الأدبيّ يستحق الذكر، إلى أن بزغ فجر النهضة الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر الميلاديّ، فخطا النقد خطوات جبّارة في مضمار التقدّم والرقيّ.