” زرايب العبيد”
رواية نسوية عن الاستعباد في ليبيا العثمانية
· تقدم الرواية لنا بعيداً عن جانبها الإبداعي ما يسمى بالمعرفة الحكائيّة، وهي سرديات وقصص إما مشرذمة وإما متماسكة تحاول إعادة صياغة معارفنا عما نظنّه حقيقة أو مسلّما به، فالمعرفة التي تقدمها الرواية تكتسب شرعيتها من مجرد سردها، من قدرتها على أن تكون الصوت المهمّش، ذاك الذي لا ينتمي إلى نظام الاعترافات الرسمي سواء التاريخي أو السياسي، لتعرفنا على الحكايات المخفيّة، تلك التي تُخلق أمامنا لحظة رَويها، لتتكوّن مرئية عبر الكلمات والرواة، لا عبر نصوص المؤسسات وتقنيات إنتاجها.
العرب عمار المأمون [نُشر في 2017، العدد: 10507، ص(14)]
نقرأ في رواية ” زرايب العبيد” للكاتبة الليبية نجوى بن شتوان، حكايات عن العبيد في ليبيا في العهد العثماني وقبل أن تصبح ليبيا مستعمرة إيطالية، إذ نقرأ عن عوالم خفيّة لشعوب بأكملها حُكم عليها بالدونية بسبب لونها، ففي الرواية نكتشف الجانب الآخر للتاريخ، ذاك الذي رسّخه الاستعمار لاحقاً، لنرى أنفسنا أمام حقبة زمنيّة كان تعريف “الإنسان” فيها غير واضح، إذ أن مصيره وحريته لا يضمنهما إلا لونه، فبن شتوان تكشف لنا عن عوالم الظلم والتخلف والجهل التي كانت تهيمن على تلك الفترة، حيث لون البشرة هو المسيطر، والمستقبل تتحكم فيه الأهواء.
أجزاء الأحجية الضائعة
تتناول الرواية الصادرة مؤخرا عن دار “الساقي للنشر والتوزيع”، في بيروت، حكاية عتيقة وأمها تعويضة، إذ نقرأ ذكريات عتيقة التي تروي لنا ما مرت به، ثم والدتها من قبلها التي عاشت علاقة حب مع سيدها، لندخل بعدها في سلسلة من الحكايات التي تستعيدها عتيقة مع الضيف الغريب الذي زارها فجأة ويريد لها أن تنال حقّها، لنكتشف لاحقاً أنه ابن عمتها. العوالم التي نقرأها تحددها نقاط علام في حياة العبد، لا يختارها هو، فالانقلابات المصيريّة تأتي من الخارج، فإما طاعون أدى إلى حرق الزرايب، أوإما قرار البيع في سوق نخاسة تنتهي إثره الأمة في بيت للبغاء.
هذه النقاط المفصلية تستخدمها نجوى بن شتوان لبناء التشويق في الحكاية، ليكون العبد متمتعاً بخاصية بطل تراجيدي، فهو يكتشف ماضيه أو مستقبله في لحظة تأزّم. تستمر على طوال الرواية حكايات الذاكرة في التشكّل وكشف الماضي حتى لحظة اللقاء بين عتيقة ومحمد، لنرى أنفسنا أمام تاريخ مأساويّ من القهر والظلم. فالحكايات الفرعيّة لعتيقة ووالدتها ومن حولهما، تُشكّل تاريخاً مشرذماً ومخفيا، تكونه هذه الشخصيات كل منها بحكايتها التي قد تستمر لبضعة أسطر، هذه الشراذم والحيوات الهامشية تتحد كلها لتشكّل المعرفة المهمّشة عن حياة العبيد وأحوالهم في تلك الفترة.
ترسم الرواية، التي حازت جائزة هاي فيستيفال لأفضل 39 كاتباً عربياً لعام 2009، فضاءين يعيش ضمنهما العبيد: الأول هو الزرايب، وهو عبارة عن أبنية طينية شديدة البساطة يعيش فيها العبيد خارج المدينة، حيث يمارسون مِهناً شاقة تستنزف أجسادهم، متروكين للبحر والصحراء والخرافات التي تضبط علاقاتهم. والثاني فضاء الداخل، الحياة داخل السور، في المدينة حيث عالم الأسياد، فالعبد هناك يكون ملكاً كاملاً لسيده، يفعل فيه ما يشاء، هذان العالمان لا يمثلان تغيراً جذريا في حياة العبد، فهو مقهور في الزرايب بسبب قسوة ظروف العيش وفي المدينة بسبب بطش السيد.
كل فضاء منهما يحمل معالم جديدة للقهر، لكن هي مجرد درجات مختلفة، وكأن هويات المقموعين التي يختزنها اللون “الأسود” لا يمكن الفكاك منها، هي حكم أبديّ، وحتى أولئك المنتمين إلى آباء مختلطين ينتظرهم المصير ذاته، فهم يحملون جينة القهر، أما حرية العبد، حلمه بالانعتاق، فهي كما ترسمها الرواية لا تأتي إلا تكفيراً عن ذنب، لا رغبة حقيقية في عتق إنسان، بل تكفير عن خطيئة ارتكبها الأسياد بحقه أو بحق أنفسهم، فالعبد هو صك خلاص بالإمكان استخدامه لنيل الجنّة.
لغة الهامش
تنقل لنا بن شتوان عوالم الزرايب بكامل تفاصيلها، بلغة ترسم أمامنا ملامح المكان، لنشعر به نابضاً حياً، رغم كل ما يمر من مآس، محافظة أيضاً على لغة تلك العوالم، فالراوي واحد من أولئك العبيد، يتحدث لغتهم، هو متغلغل في عوالمهم، تراكيبهم وجملهم كلها تحضر، لتكوّن خطابا خاصاً متمايزاً عن ذاك المرتبط بالأسياد، إذ تدخل فيه أيضاً الخرافات والأساطير التي يؤمنون بها، تلك التي لا يقبلها العقل، والتي تنبع من التجهيل الممنهج الممارس عليهم، لإبقائهم في وضعية “الأدنى”
وهذه الخرافات ذاتها تمتد إلى المدينة أيضاً، لكنها تتغير لتحافظ على فوقيّة السيد، علماً أن أغلبها إما مرتبط باستخدام العبيد وإما مرتبط بمفاهيم الشرف والعفة. وضعية المرأة في تلك الفترة لا يمكن وصفها، فالإماء ملك يمين للأسياد، ويقتلن ويجهضن دون أي حرج، هنّ وسائل للذة. فالمرأة السوداء أمة، حتى لو ارتقى بها سيدها إلى مرتبة زوجة، هي تبقى أسيرة لونها وسلالتها وذريتها، ملعونة ومطاردة دوماً.
تكشف الرواية عن علاقات تتجاوز ثنائيّة العبد والسيد، لينشأ نوع من الحب أو الانجذاب الجنسي، إلا أن هذه العلاقات محكومة بالدمار، يفتتها التخلف الديني والاجتماعي، إلى جانب أنها محرّمة، وخصوصاً أن الجانب الديني الذي ترسمه الرواية في تلك الفترة مرتبط بأنظمة السيطرة والهيمنة باسم المقدس، والتي ما زالت آثارها الرجعيّة وبعض رواسبها حاضرة حتى الآن، كمفاهيم البكارة والعذرية، وترسيخ الاختلاف الطبقي عبر استخدام الحجج الدينيّة، فالمعركة التي يخوضها العبيد نحو التحرر في تلك الفترة لم ترتبط فقط باختلافات اللون أو التحرر من السادة، هي معركة أعمق ترتبط بأنظمة هيمنة وقمع متكاملة، تحتكر لنفسها تعريف الإنسان وماهيته، مُستغلة الدين والسياسة لتفرض نفوذها.