شهرزاد من سجن الانفعال إلى محيط الإبداع الفكري
الكاتبة / أمينة حسين / فلسطين
عندما أعلن عن صدور كتاب “شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي”، للكاتب الفلسطيني فراس حج محمد عن دار الرقمية للنشر والتوزيع في القدس، لفت نظري عنوان الكتاب، فتوقفت عنده مليّا بتمعن، فالمرأة، بطبعها الفطري، شديدة الحساسية لما يُنشر ويُقال عنها.
ولأن شخصية شهرزاد، كما نعلم، انبثقت من كتاب عنوانه “ألف ليلة وليلة”، فقد أرتأيتُ المقارنة بين العنوانين لاستنباط المغزى الحقيقي من وراء التسمية لكتاب “شهرزاد ما زالت تروي” في عصرنا الحالي.
إن عنوان الكتاب (ألف ليلة وليلة) عنوان عددي يدلّ على فضاء مفتوح وزمن ممتد بين ليلة وليلة، وصولاً إلى الليلة ما بعد الألف، وعلى القارئ أن يدلف إلى مضمون الكتاب ليستخرج الأحداث والأشخاص المرتبطين بالليالي المشار إليها في العنوان، فيقوم القارئ بعملية تأثيث الزمن الممتد بين حدث مسبب لظهور أسطورة تاريخية (الملك شهريار)، والنتيجة التي انبثقت من التأثر بالحدث المسبب (شهرزاد راوية الحكايات الليلية)، لتصبح شهرزاد هنا طرف في المعادلة، لتتساوى مع الطرف الآخر (الملك شهريار)، والمحور لهذه المعادلة هو عقدة شهريار، ولا غلبة لأحدهم على الآخر، لأن العنوان لم يرفع لشهرزاد مكانة، ولم يُخلّد لشهريار ذكرى، ولكنه خلّد الزمن الطويل الذي مرّ بحكايات تروى، ولم ينسب الفضل لشهرزاد في مداواة وشفاء شهريار، إنما الزمن الممتد هو الذي روّضه واطفأ نار غضبه، وكانت الحكايات لقتل الملل فقط والذي صاحب الليل الطويل، وكما يُقال “الزمن يداوي الجراح”.
بالنسبة لعنوان (شهرزاد مازالت تروي)، بعيدا عن حيثياته المتضمنة، ولأن العنوان هو المدخل لما يحتويه الكتاب، ولا بد من تعالق بين العنوان والمضمون، وأن يكون مخلصا للفكرة المطروحة، أو جزءا منه، أو عتبة لفتح باب التفكير والسؤال عمّا في المضمون. والفكرة في عنوان الكتاب (شهرزاد ما زالت تروي) فكرة مصيرية تعيشها شهرزاد هذا العصر، والسياق العام للعنوان يقودنا إلى القول إنّ هذا (الوجود الأنثوي) تحوّل -عملياً- إلى وجود فعلي، وتبدو ملامح هذا المصير ظاهراً لدى الكاتب فراس حج محمد، وهو يقيّم أعمال مجموعة من النساء المبدعات. بفعل العمل الفكري، وقد قدّم الكاتب فراس حج محمد، من خلال العنوان، رؤية تستنطق السياقات الثقافية النسوية، ليصل إلى صميم العمل الفني لكل مبدعة، ويشير في خطابه الخارجي للمرأة (شهرزاد)، بينما ينتقد في خطابه المبطن- المجتمع الحالي، المبني على نظام لا يحقق للمرأة (شهرزاد) تلك الأحلام التي تراودها، وبالتالي استطاع أن يُظهر لنا الكاتب من خلال اسم (شهرزاد) في العنوان، تحقق براعتها في رسم السياسة الذاتية، متمثلة في التكوين المعرفي والتفتح الفكري والذهني، متحدية الظروف الموضوعية، فالمرأة اقتحمت الفن الإبداعي بإحساسها بالمجتمع الذي تنتمي إليه، ولازمت أحاسيسها الفيّاضة وعبرت عن أفكارها ومشاعرها كفرد في قالب الإبداع الفكري، فهي دائمة البحث عن ينبوع يسع الماضي والحاضر والمستقبل.
لقد استطاع العنوان أن يعكس لنا مجموعة من المتغيرات الإيجابية والرهانات القائمة على صورتين متقابلتين لشخصية شهرزاد، في كتاب ألف ليلة وليلة، وكتاب (شهرزاد ما زالت تروي)، يؤطرهما الإبداع، وتحدد اختلافهما المفارقة بين ما كان وما ينبغي أن يكون وبين ما هو كائن وسيكون.
وحيث ارتكزت (شهرزاد) العصر الحالي على التصورات الجديدة بالعودة إلى المكان/ الأرض، إلى عالم الأشياء، لتصبح مَلَكة الخيال لديها أكثر فاعلية من مَلَكة التصور وصولا للإدراك، واستطاعت كسر جمود الروتين، واستردت ذاتها في محيط الوجود، وتحررت من رؤية العالم لها، وبدون هذه الرؤية الفلسفية الإبداعية، ستبقى في قالب البدائية، ويكون نضج العقل بطيئاً، ومحدود الفهم والتأثير.
إن عنوان كتاب (شهرزاد ما زالت تروي) ضمن المركزية لشخصية (شهرزاد)، كونها المرأة التي ملكت أدوات القص والسرد لزمن طويل، وبتعدد صوتها في الحكايات، تألق قوسها القزحي بألوان زاهية زاخرة ، تدهش العين والسمع والفؤاد، ولكي أتأكد من مركزيتها حسب ما جاء في العنوان الذي اختاره الكاتب فراس، فوجدتُ أسماء كوكبة من الأديبات اللواتي مرّ الكاتب فراس على إبداعاتهن، وقرأت تلونا في الاختيارات، في الشعر والنثر والقص والسرد. وعند الربط بشخصية شهرزاد، أدركتُ أن العنوان جمع الأدوات الإبداعية، والمواهب الفنية في أسماء متعددة، لأن الكمال لا يكون لاسم واحد، ولا لجنس كتابي أوحد، ولكن يمكن جمعهن في منظومة مركزية تجمعهن في سماء صافية، (سماء شهرزاد المبدعة) في حكاياتها. لقد خلّد الكاتب (شهرزاد) في عنوانه المبتكر أكثر مما خلدها عنوان (ألف ليلة وليلة)، وحفظ للمرأة مكانة سامية بهذه المركزية الساطعة.