رواية أقليما: الكتابة والمرأة
أقليما رواية في 752 صفحة موزعة على 41 مشهدا من تأليف الروائي المغربي د. سلام أحمد ادريسو عن محترف الكتابة، المكتب المركزي فاس المغرب ط1- 2016م.
وتأتي أقليما امتدادا لتاريخ روائي: “باب الخوخة” حيث عشاق الخلوة على ضفاف اللكوس صحبة بنات الجبل المهاجرات، وضع غامض وعجيب وعصي عن التفكيك، وصعوبة الامساك بالبطل ذو الشخصية الهلامية القابعة بين الخيال والواقع، في فضاء متسم بالعزلة والأحلام المجهضة والمؤجلة في معركة تحدي المخزن، لتطل رواية “العائدة” الرواية الفائزة في مسابقة الرابطة، والتي تصور حياة المراهقين في معركة الالتزام، حيث اليتيم الذي كفلته الأسرة لا يلتفت إلى ما حوله من المغريات فيسير نحو هدفه إتمام دراسته، بينما البطلة “ربا” تعصف بها رياح الملذات والفتن، وتعرف عذابا مريرا وتقاسي أوجاعا لتتطهر وتعود.
وبين الجبل الأزرق باب الخوخة، والحومة القديمة وعربات القطار والنقابة والحزب، ودار العجزة ورحاب جامعة الرباط وفندق الألزاس والديار المقدسة وبين الابتهالات والدعوات والجمع العام والخطب والرسائل والاضرابات تنسج العوالم الروائية لأقليما وتتشابك خيوط ومصائر عائلة سيدي الواثق بانتصارات ومرارات، وصراعات فكرية واجتماعية وثقافية طبعت مغرب السبعينيات في متن حكائي باذخ بأبعاد نفسية وتاريخية وتخييلية متناغمة.
وبتقنية المونتاج استطاع الروائي سلام أحمد ادريسو أن يرتب اللقطات والمشاهد بعد تصويرها على أساس فني جمالي جذاب، مكسرا مواصفات السرد الكلاسيكي ومشغلا الذاكرة باعتبارها بنكا أو مستودعا للمشاهد والأحداث، بتحريك طاقة تخييلية هائلة ونفس طويل على الغزل الذي لا يريد الكاتب لنسيجه أن ينقض على طول 752 صفحة.
وأول ما أثار انتباهي هو الإهداء: “إلى الطرف الآخر للخيط السحري…” ص 3، وعبارة: “أنا الروائي الحفيد عرفان تزروت” في الصفحة الموالية. فأدركت بحدس – لايفارقه الصواب- أن تلك الكلمات بالذات ما وضعت باطلا على أعتاب هذا الصرح الروائي العظيم، بل هن علامات وبالنجم هم يهتدون، فأحد طرفي الخيط امرأة والروائي هو سيد الكتابة فجعلت مقاربة هذا المتن عبر تيمتي: الكتابة والمرأة. فما محرك تلك الكتابة؟ وما خصائصها؟ وما وظيفتها؟ وما مكانتها؟ وهل المرأة مفرد أم متعدد؟ وما قيمتها في هذا النسيج؟ وما حدود التماس بين الكتابة والمرأة؟
تيمة الكتابة:
توزعت الكتابة في رواية أقليما بين استرجاعات ورسائل ومذكرات واشتغال أكاديمي موجه من طرف الدكتورة الأستاذة والصحافية السعدية الجراح مع طلبتها في الجامعة في إطار مشروع سردي عبر ورشات نظرية وتطبيقية.
q استرجاعات:
البحث في التفاصيل للالتقاط الاشارات الدالة التي لا تقل خطورتها عن بلاغات النبوءات الكبرى لنهر التاريخ طبعا تاريخ عائلة سيدي الواثق: “لا قيمة للمعابر العظيمة بدون مسارب الصمت، لا قيمة للمدن العائمة بدون تفاصيل الأسفار الصغيرة.. التفاصيل.. التفاصيل..” ص 55.
عيد الأضحى بين الجبل الأزرق والحومة القديمة والمشاركة في المسيرة الخضراء بقدم معطوبة وورشة الإعلام في تغطية الحدث، ومواسم الحصاد وأيام الغرسة البهية، ثم أليس عرفان تزروت “المؤرخ الحقيقي للتفاصيل لا ينسى أدق الأحداث والكل يرجع إليه رغم صغر سنه” ص 70.
يرى الأديب الفرنسي بول فاليري أننا من التافه المبتذل نصنع شيئا كبيرا ومن التفاصيل الصغيرة نقول أشياء كبيرة حول قضايا أنطولوجية كبرى كالموت والحب والولادة.
فالكتابة هي القدرة على التقاط المسارات الأكثر تعقيدا، ولعل أهم محرك لها هو الألم والوجع للبحث في مجاهل النفس والمكان “أواه تلك جبال جسدت في مرآة أعماقه الطفولة مصدر فرحة لا يعرف أحد تفسيرا لها.. إذا ضاقت بك الحياة: إذا أحاطت بك الذئاب.. فاذهب إلى الجبل.. عليك به فهو دار الأمن..” ص 76.
الكتابة رحلة في الذات وحلم البحث عن الأبدية عن العوالم المرئية واللامرئية لذلك يكون إدراك الأولى بالحواس وإدراك الثانية بالبصيرة والحدس حتى لأزمنة منذورة بالنهاية وجاء الحكي والبوح “لأن شوكة الكتم أليمة” ص 93. يقول حسام الدين نوالي: “لكن المثير أن الحكاية انطلقت من “شر” في حالة ابليس، ومن “خوف” في حالة شهرزاد وأدخلت المتلقي في محن وكبد عسيرين لكنها في الحالتين كانت معبرا للولادة وللخصب والاستمرار وبالتالي لعمارة الأرض في مسار طويل أبت السموات والجبال أن يحملنه، وحمله الإنسان وانتقل به على مراحل عديدة من الشفاهي إلى الكتابي ومن البداوة إلى المدنية، في مساحات لا تنتهي”[1].
ولعل الحافز أو الحوافز لفعل الكتابة والحكي لايضمرها السارد في هذا المتن الحكائي بل يصرح بها جهرة في أماكن شتى:
“بيضات محتاجة إلى ملء الفراغات التي تتوالد بتوالد الحكي، وهذا هو سحر السرد في تقديري بكل تجلياته” ص 740.
“الكتابة لعب يتحول إلى هواية ولعبة أثيرة لا أحد يعلم قواعدها وأعرافها غير الكاتب” ص 741.
“السياحة في الأحجيات سعادة لا توصف” ص 666.
وتتجاوز رؤية الكاتب وظيفة الكتابة الجمالية النفسية التي هي سحر وسعادة ولعبة أثيرة إلى الوظيفة النضالية من خلال تمرير مجلات رصينة جعلت من الثقافة في زمن العار والهزائم والهرولة والانبطاح آخر قلعة للدفاع.. مجلة الوحدة- الحوار- الناقد… إضافة إلى بعض رموز النضال كأحمد مطر…
q الرسائل:
إن الرسائل في هذا العمل الابداعي “أقليما” موزعة بين أفراد عائلة سيدي الواثق كرسالة المصطفى الجراح إلى خاله عرفان الواثق المعلم بباب الخوخة بفاس للتعبير له عن مشاعر الحب والمودة والاستعداد للتضحية، لكن الملاحظ أن هذه الرسالة كتبت ولم تبعث ثمة سر محير ترك أكثر من علامات استفهام ونقط الحذف. ورسالة شهاب تزروت إلى صهره حيث التعبير عن بداية الصداقة واللقاء العابر والقواسم المشتركة مختومة بالود والاحترام والتقدير، ورسالة كترينا القصيرة للإخبار بالسفر من أجل الشركة ورسالة أقليما إلى المصطفى الجراح التي تتضمن بوحا حارقا ونعيا قاتلا.
ولعل رسالة عرفان تزروت الحفيد لم تصنف في خانة الرسائل الشخصية أي رسائل الشوق وتبادل المشاعر بل هي رسالة رسمية: من عرفان تزروت إلى رئيس الثقافة الموضوع: الإخبار بالموهبة في الرسم والشعر من أجل المكافئة الغالية والشهرة العالمية.
q المذكرات:
تلك المذكرات التي وُريت بصمت رهيب في محفظة جلدية ذات قفل نحاسي أخرجها فضول عرفان تزروت الطفل الذي أدرك أن هذا التجسس يستوجب طلب المغفرة: “آه يا ربي اغفر لي” ص 458، ويستوجب أن الباب مقفل بإحكام.
لكن ما أثار انتباهي هو نعت المذكرات بلون الزرقة: “أجد الفرصة والوقت مناسبين للعبور نحو صفحات مذكراتي الصغيرة الزرقاء والاسرار إليها بتلك الأشياء التي لا أقولها لأحد” ص 132.
وهذا النعت يذكرني بمجموعة رسائل جبران إلى مي زيادة الرسائل الخالدة الموسومة بـ “الشعلة الزرقاء” ما وصلنا من خلال الأصابع المرتعشة والقلب الصغير الوجل فهي عبارة عن محطات:
- إلقاء قصيدة أمام زملاء الصف والأساتذة وما عرفت من هتاف وتشجيع وضرب وتعنيف من المدير.
- أثر أستاذ العروض والشعر وفضله والتأثر لموته ساجدا.
- قسوة الأب العياشي ودور النخاس في دكان أقفاص الطيور، وسئم الاعتقال بالمكان البائس.
- تعلم اللغات بسبب الاحتكاك الطويل بالسياح: عبارات الترحاب أو البوح والتحدي.
- التأسف على ضياع الطفولة “طفولة مغتصبة” أو كما يفضل تسميتها طفولة مسروقة.
- العلاقة بين الكلب الرومي طوما منذ أن كان صغيرا.
q ورشة السرد:
تأسيس الورشة السردية داخل الجامعة من طرف الأستاذة والصحافية السعدية الجراح عن طريق تخطيط سابق للإشتغال عن سؤال الكتابة والسرد والتخييل والأجناس الأدبية، مع الاستعانة على تنفيذ الورشات بالدكتور ملال النيار صديق خال السعدية وزميلها في التدريس، ومع تقدم الورشات نحو إعداد مشروع سردي متكامل من خلال الانتقال من التنظير إلى قراءة المنجز. الذي هو متن روائي للدكتورة نفسها حول تاريخ العائلة وبالتحديد الأخ الهارب المختفي المصطفى والبطلة حورية خضراء هي بالتأكيد الأم لالة هنية. حماس الطلبة وتفاعلهم الإيجابي في نقاشات موجهة خصوصا لما أدركوا أن: “الكتابة ذلك العالم المفعم بالأنس والسلام ولكنه مفعم بالألم والحيرة والترقب” ص 207.
تيمة المرأة:
غطت المرأة مساحات شاسعة من هذا الابداع الأدبي بل كانت العصب الرئيس في تفاعل الأحداث وتشابكها فهي الأم والأخت والزوجة والصديقة والجدة “لالة هنية الفرعونية الغالية.. سعدى الجاسوسة.. السعدية.. سامية.. سيلفيا.. منانة.. أقليما.. رُسُل.. رُسُل نسوة استثنائيات إلى درجة الجرح.. أحببت سيرتهن بعمق يشبه المرارة” ص 209.
فحضور لالة هنية الأم والجدة شبيه بحضور لالة الغالية في “لعبة النسيان” لمحمد برادة: “تبدو الدار وكأنها لا تمتلئ إلا بالأم لالة الغالية وهي في لحظات صمتها وتفكيرها إلى أعماق الدار، وتمتزج بزليجها وسواريها، تنغرس في حمامها المهجور واسطبلها وردهاتها: ظلا حاميا للدار تصير”[2]
فلالة هنية هي الكل في الكل: “هي من تقرر وحدها لن تتراجع.. وحدها من يصنع الماضي والحاضر، المستقبل يعلمه الله ولكنها “أيقونة” محتملة بقوة فيه” ص 153. فهي القلب الامبراطوري وتعليماتها لا تخترق حتى في غيابها لكنها، سحارة بحنانها ذلك الذي أعتبره أبديا. ما يجعل سؤال الإبن مشروعا: “لماذا لا أشارك لالة هنية جراحا غائرة؟ تاريخها الكتمان المر، وترجيع الأغنيات الأسيفة” ص 143. لم تكن أما للعائلة وحدها بل هذه “هي والدة الناس جميعا.. أمي وأم الجباليين قاطبة” ص 308. وارتبطت حياة المصطفى بمنانة التي هربته عبر عبارة المتوسط في اتجاه ملاطيا شمال تركيا غير أن موتها في حادثة سير وفي حالة سكر وبدون رخصة جعله يؤنب نفسه: “ضيع أوراقه حين قتل رفيقة السكرانة مثله.. لا يستطيع نسيان صرخاتها المحتضرة.. أذناه ممتلئتان بصراخها الأبدي” ص 197. لتأتي كاترينا: “تلك الأنثى البدينة ممتلئة بالشبق مثل شاحنة خيالية.. طاحونة ممتلئة بالدم والشهوة المجنونة.. منحته إسما غير الإسم فكان سرابا، ومنحته أوراقا وشبه هوية فكان خرابا” ص 197. الإسم والهوية “نانو” مقابل الزواج كأنه النفط مقابل الغذاء أما سامية الصديقة القديمة: “لم تتغير سوى للأروع، شعر معقوف متفحم.. وجه مستدير يعسكر البياض والشهوة في تقاسمه” ص706. أما السعدية فهي الأخت الرائعة التي ما فتئ يسميها سُعدى إمعانا في الدلال والحب.
أما أقليما هذا الاسم السماوي كأول أنثى جاءت من الجنة إلى الأرض بعد حواء أو سيلفيا أو رُسُل فمن أول نظرة: “أخبرتني عيناي المتلصصتان في تضاريس جسدها الباذخ أنها سائحة نصرانية.. جسدها الغجري الباشق وصدرها النافر إلى العراء، جسدها البلوري البض، قوام هذه المرأة الممتلئ في علياءه أذهلني” ص231. ومن شدة الانبهار وعلى غير موعد: “تجلت علي أنوثتها البكر طاغية كقدر محتوم” ص 320. كانت كثيرة السفر فلا لقاء إلا وهي على أهبة السفر: “لا يمكن أن تذهبي بهذه السرعة ولايمكن أن أسمح لك بالسفر أنت رددت علي أجزاءا كبيرة من روحي” ص 370. وإن أذعن لسفرها الاضطراري لرؤية أبيها فإن “عيناها تعيدانني بأقدار عسيرة، وصوتها الحزين يبشرني برسائل لا تحصى” ص 332.
يقول نزار قباني في قصيدته “بين حب وحب”
“وما بين وقت النبيذ ووقت الكتابة
يوجد وقت يكون فيه البحر ممتلئا بالسنابل
وما بين نقطة حبر ونقطة حبر
هنالك وقت ننام معا فيه بين الفواصل”[3]
فهناك خطوط تماس بين المرأة والكتابة “فلولا أختي الرائعة السعدية وزوجتي الخالدة في السماء رُسُل لظلت أوراقي مبعثرة إلى يوم القيامة” ص 739.
على سبيل التركيب: النص الروائي “أقليما” الذي جعل عائلة سيدي الواثق محور له استطاع أن يخلق عوالم روائية امتزج فيها الواقع بالمتخيل في أسلوب فني متميز ولغة رصينة. تكشف الرواية على اهتمام الكاتب باللغة والشعر والموسيقى والتاريخ والأدب والترجمة، يقول باختين “الخلفية الشعورية واللاشعورية البيئية والتاريخية والسوسيوثقافية التي يحملها معه النص وهو يتخطى وصيد الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل”[4]
ممتحا من القرآن الكريم: توجس خيفة – تذروه الرياح- كالنار يشوي الوجوه- لا يولون الأدبار من العشق أو الرعب- خالي عرفان ألقى على وجهي قميص الحكي فارتد قلبي بصيرا- موعدا لا نخلفه. ووظف التراث الشعبي متمثلا في الأمثال الأتية: لوكان الخوخ يداوي يداوي راسو- لمن كتقرا زابورك يا داوود- لي كرهك عطاك، واللغة العامية: علي الحرام- كلنا ولاد كرش وحدة- الله يفكرنا بالشهادة- الله يفك سراحو، إضافة إلى اللغة الجبلية: يرحم باباك- يرحم يماك- أخاي… واستعمال الفرنسية والاسبانية، مع القدرة العجيبة على الامساك بخيوط النسيج الروائي الضخم في اشتغال لغوي أنيق للنبش في مرحة حساسة من تاريخ المغرب الحديث (السبعينيات) أو مابات يعرف بسنوات الرصاص، ودور المثقف في الصراع والتحولات العميقة ما أكسب هذه التجربة الروائية بعدا جماليا ومعرفيا متنوعا وجعلها أكثر خصوبة وانفتاحا.
[1] – حسام الدين نوالي العقل الحكائي دراسات في القصة بالمغرب فالية للطباعة والنشر والتوزيع – المغرب ط 1، 2017، ص 10.
[2] – محمد برادة لعبة النسيان، دار الأمان، المغرب، ط 2002ـ ص 9.
[3] – الموسوعة العالمية للشعر العربي Adab.com
[4] – باختين (ميخائيل) الماركسية وفلسفة اللغة، ترجمة محمد البكري ويمنى العيد دار توبقال، طبعة 1986، ص 134.