الأسطورة في قصيدة “أسْطُورَةُ الْتِيَاعٍ؟” للشاعرة آمال عوّاد رضوان
التحليل الأدبي
جوُّ النّصّ: الأطماعُ الغربيّة في الشرق، وخاصّة خيرات العرب المُتمثّلة في النفط، ومحاولة الغرب تقسيم العالم العربيّ وتفتيته، عن طريق افتعاله للحروب والفتن.
العنوان: القصيدة بعنوان “أسْطُورَةُ الْتِيَاعٍ؟”، فالعنوانُ يتشكّلُ من جملةٍ اسميّةٍ مُكوّنٌ من خبرٍ مرفوع وهو مضاف، و”التياع” مضاف إليه، والخبر مُبتدؤُهُ محذوفٌ تقديرُهُ “هذه”.. وقد نجحت الشاعرة آمال عوّاد رضوان في اختيارها للعنوان، فاستخدمت الأسطورة كقناعٍ ينتشرُ في كلّ مَفاصل القصيدة وأجزائها، وتضمنُ لها صفةَ التماسُكِ والوحدة العضويّة، وتعملُ على المشاركة في تجارب الشاعر مع الإرث الإنسانيّ، بطريقةٍ تُناسبُ الواقعَ الجديد ومِن ثمّ الذوق الجديد، واستطاعتْ أن تربط ربطًا مُوفّقًا بينها وبين ما تريده من أفكارٍ، ومراعاةَ الحداثة والسّمة المُتجدّدة التي تحملها الشخصيّات الأسطورية.
العنوانُ “نظامٌ دلاليٌّ رامزٌ له بُنيتُهُ السطحيّة، ومستواه العميق مثله مثل النّص تمامًا” (1)، من حيث إنّهُ حمولةٌ مُكثّفةٌ من الإشارات والشيفرات التي إن اكتشفَها القارئ، وجدَها تطغى على النّصّ كلّه، فيكون العنوان مع صِغر حجمِهِ نَصًّا مُوازيًا (Paratexte)، ونوعًا من أنواع التعالي النّصّيّ (Transtextualité) الذي يُحدّدُ مَسارَ القراءة التٌي يمكنُ لها أن “تبدأ من الرؤية الأولى للكتاب”. و”يُمثّلُ العنوانُ العبارةَ المفتاحيّةَ للنّصّ مَهما كانَ النّوعُ الأدبيّ، سواء كان قصّةً أو شعرًا أو رواية أو مقالة، فالعنوانُ هو أوّلُ ما يُفاجئُ القارئ، وعليه فإمّا أن يجذبَ القارئَ أو يُبعدَهُ، أو يُبقيه على الحيادِ مع نصٍّ قد يكون غنيًّا أو عاديّا، إضافةً لِما في العنوان مِن دلالاتٍ معرفيّةٍ ذاتِ أبعادٍ مختلفةِ الأطياف، تكشفُ عن ثقافةِ صاحب النّصّ، وغوْصِهِ في المَكنونِ الفكريّ الذي يَستلهمُهُ أو يعيشُهُ أو ينتظرُهُ، مِنَ الماضي والمعاش إلى الحالة المستقبليّة، لذا؛ أوْلى النقّادُ مسألةَ العنوان أهمّيّةً كبرى، وكانت لهُ مكانتُهُ في الدراساتِ النقديّةِ النصّيّة.(2)
الأفكار الرئيسة في قصيدة “أسْطُورَةُ الْتِيَاعٍ:
- تعلن الشاعرة آمال عوّاد رضوان، أنّ قصيدتَها نظَمَتها وهي تحملُ معاناةَ الشرق، وخاصّةً العالم العربيّ من الغرب وأطماعهِ وحروبهِ.
- وظّفت الشاعرة أسطورة “هيرا”، وهي تُمثّلُ عيونَ الغرب في الشرق، وتكشفُ مكامنَ ضعفِهِ ليَسهُلَ السيطرة عليه.
- تُخاطبُ الشاعرة “هيرا”، وتُعلنُ شكواها وبثّ همومِها منها ومن شغبها في العالم العربيّ، وما أحدثَ الغربُ للعرب مِن مآسٍ وويلاتٍ ونكبات.
- تُعلنُ الشاعرةُ ضيقَها واستنكارَها لحروب الغرب، وافتعالِهم للمآسي في الشرق والتنكيل بأهلِهِ.
- تلجأ الشاعرة آمال رضوان للرّسالاتِ العادلة، مُتضرّعةً مِن ظُلم الغرب وجَبروته.
العاطفة في قصيدة “أسْطُورَةُ الْتِيَاعٍ:
- حُبّ الشاعرة آمال عوّاد رضوان لعملِها الفنّيّ، والمُتمثّلِ في هذه القصيدةِ الّتي تُجسّدُ مآسي العربِ مِن الغرب.
- نُفورُ الشاعرة من أفعالِ الغرب وافتعالِهم للحروب في الشرق، بغيةَ السيطرةِ عليه وعلى مواردِه.
- تَعلُّقُ الشاعرة آمال عوّاد رضوان بأمّتِها، وبحمْلِ همومِها ومعاناتِها.
- إيمانُها العميق بوطنِها وبالرّسالاتِ السماويّة.
وتستمد الشاعرة آمال عوّاد رضوان أفكارَها ومعانيها من تجربةٍ صادقة، وعاطفةٍ قوية، فلا ريبَ في ذلك، فهي مرهفةُ الأحاسيس، ترى بأمّ عينها ما أحدثَ العالمُ الغربيّ في العالم العربيّ من فوضى وحروب وفِتن بين طوائفه، وتقسيمِهم للمقسّم، وتفتيتِهم للمُجزّأ، والسيطرة على نفطه وخيراته وما أحدثوه من الفوضى الداخليّة والنزاعات والاضطرابات، ومن تدميرٍ ووأدٍ للحضارة وفرقةٍ باسم الحرّيّة، وشاعرتنا تعشقُ الحرّيّة والعدالة والازدهار والرقيّ، وتبكي الواقعَ السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، فلقد انعكست علاقاتُ الناس سلبًا مع بعضهم البعض، بعدما تنافرت المصالحُ واختلفت الأهواء، ولقد عايشتِ الأحداثَ بنفسها، فترى تحوٌّل النفوس وتبدّلها وتغيّرها، فترى التمزّقَ في النسيج الاجتماعيّ، في زمنٍ عزّ فيه الوفاء، وسيطرت فيهِ الأهواء والشهوات، وكثرت فيه المُشاحناتُ والنزاعاتُ والحروبُ التي يفتعلها العالمُ الغربيّ، فانعكست تلك على أحاسيسِها ووجدانِها، وقد غلبت على المقطوعة نزعةُ الرفض للواقع المُرّ المُزري، فترفض هذا الواقعَ، والإيحاءُ أبلغُ في تصويرِ الأحاسيس، وما هو مُختزنٌ في اللّاشعور.
تقول الشاعرة في المقطع الأول: طِفْلَةً/ تَسَلَّلْتِ فِي بَرَارِي عَتْمَتِي/ وعَقارِبُ نَزَقي.. تَنْمُو بَيْن خُطُواتِكِ/ تَغْزِلُ بِرُموشِ حُرُوفِكِ حَريرَ وَجْدٍ/ مِنْ خُيُوطِ مُبْتَدَاي
وهنا تبدأ نصَّها بقولِها “طفلةً”، وهي حالٌ جامدٌ منصوبٌ، وقد استخدمت الشاعرة هنا تقنيّةَ الانزياح بالتقديم والتأخير، فقدّمت الحال “طفلة” وحقها التأخير على الحال، وصاحَبَها “تَسَلَّلْتِ فِي بَرَارِي عَتْمَتِي”، وحقّها التقديم، إذ يُمثّلُ عنصرُ التقديم والتأخير عاملًا مُهمًّا في إثراء اللغة الشعريّة، وإغناءِ التحوّلاتِ الإسناديّةِ التركيبيّةِ في النصّ الشعريّ، ممّا يجعله أكثرَ حيويّة، ويبعث في نفس القارئ الحرصَ على مداومةِ النظر في التركيب؛ بُغيةَ الوصول إلى الدلالة، بل الدلالات الكامنة وراء هذا الاختلاف أو الانتهاك والشذوذ، فلغةُ الشعر المُعاصر تقوم على الاختلافِ والمغايرة، وطلب الجديد ببناء أبنية وخلق صور، وإنّ للانزياح التركيبيّ أثرًا مُهمّا في الارتقاءِ بالقصيدة جماليّا، والإسهام في تقديمها رؤيةً وتشكيلًا، وإحداثَ تنوُّعٍ دلاليّ كبير، فالشاعرة قدّمت “طفلة” الحال على صاحبها، لتُبرزَ أهمّيّة هذا التقديم أيضًا، ولا شكّ أنّ هذه الطفلة هي القصيدة نفسها التي انسكبت فيها روحُ الشاعرة.
وتقولُ في مُستهَلّ نصّها “تَسَلَّلْتِ فِي بَرَارِي عَتْمَتِي”: كنايةً عن فكرة القصيدة التي تولّدتْ في ذهن الشاعرة، وفي هذه العبارة انزياحٌ إضافيّ، فالمتلقّي عندما يسمعُ كلمةَ “براري” يتوقّع مضافًا إليه مناسبًا ككلمة “بلادنا” مثلاً، لكنّه يتفاجأ بمضاف إليه “عتمتي”، ممّا يُولّد الإثارة في نفسه، وهذا من جماليّات الانزياح بمختلف أشكاله، وذلك بخلخلة بنية التوقّعات، وإحداثِ فجوة تُعمّقُ حسَّ الشعريّة في نفس المتلّقي، ممّا أكسبَ النصّ توتّرًا وعُمقًا دلاليّا خاصّا، فقد تفجّر المركَّب بالشعريّة، باعتباره نقطة التحوّل ومنبع الإدهاش.
ومثل هذا في قول الشاعرة التالي: وعَقارِبُ نَزَقي.. تَنْمُو بَيْن خُطُواتِكِ:
“عقاربُ نزقي”: كنايةً عن الفتوّةِ والشباب، حيث تتّصفُ الشخصيّةُ في فترةِ العمر هذه بالنزق.
تَغْزِلُ بِرُموشِ حُرُوفِكِ حَريرَ وَجْدٍ: حيث أخذت معالمُ القصيدة تتّضحُ.
مِنْ خُيُوطِ مُبْتَدَاي: والاتّضاحُ والنّموُّ تَوالى مع بداية القصيدة.
وفي عبارات الشاعرة تتوالى الدهشة والتأثير في روع المتلقي، فالمتلقي عندما يسمع كلمة “عقارب” يتوقع مضافًا إليه مناسبًا ككلمة “الساعة” مثلًا، لكنّه يتفاجأ بمضاف إليه “نزفي”، وعندما يسمع “تَغْزِلُ بِرُموشِ”، يتوقّع أن يلي الفعل المضارع “تغزل” جار ومجرور مناسب ككلمة “المغزل” مثلًا، لكنّه يتفاجأ بجار ومجرور “برموش”، وعندما يسمع شبه الجملة “برموش” يتوقّع مضافًا إليه مناسبًا ككلمة “عينيك” مثلًا، لكنّه يتفاجأ بمضاف إليه “حروفك”. وفي نفس السطر: “تَغْزِلُ بِرُموشِ حُرُوفِكِ حَريرَ وَجْدٍ”: نرى أنّ هناك أيضًا انزياحًا تركيبيّاً، فقد قدّمت الشاعرة ما حقّه التأخير، وهو شبه الجملة “برموش حروفك” على ما حقّه التقديم، وهو المفعول به “حرير وجْد”. وعندما يسمع المتلقي عبارة “حَريرَ وَجْدٍ”: إذ وصفت الشاعرة الحرير بالوجد، وهو ليس من طبيعته، وهذا التركيب غير المتوقّع خلق فجوةً أي تنافرًا دلاليّا، ومسافة توتّر حادّة بين الموصوف وصفته، و”يُمثل عنصر التقديم والتأخير عاملًا مُهمّا في إثراء اللغة الشعريّة، وإغناء التحوّلات الإسناديّة التركيبيّة في النصّ الشعريّ، ممّا يجعله أكثر حيويّة، ويبعث في نفس القارئ الحرص على مداومة النظر في التركيب؛ بغية الوصول إلى الدلالة بل الدلالات، خاصّة، إذا علمنا أنّ الكامنة وراء هذا الاختلاف أو الانتهاك والشذوذ الشعر المعاصر. (3)
ففكرة القصيدة تسللت إلى ذهن الشاعرة وهي في مبتدى عمرها. “مِنْ خُيُوطِ مُبْتَدَاي”: ففي هذه العبارة انزياح إضافيّ، فالمتلقي عندما يسمع كلمة “خيوط” يتوقّع مضافًا إليه مناسبًا ككلمة “الغزل” مثلًا، لكنّه يتفاجأ بمضاف إليه “مبتداي”. والشِّعر الحقيقيّ ما كان نتيجة لِتَجربة شعوريَّة صادِقة، يُحرّكها تَوَتُّرٌ نفسيّ مُتَأجّج وخلجات نفس متوهّجة، وانفعالها ينهض بِمَشهد معين، ولَعَلَّ هذا التَّوَتُّرَ النفسيّ أضحى في زماننا أكثر وهجًا، فالشاعرة يُؤلِمها ما تراه من ظلم يحيق بالوطن العربيّ من دول الغرب، ومن سُلُوكات وأخلاق تَتَنَافَى مع عقيدتها ومبادئها، فتراها رافضة وغير راضية ولهذا الواقع المُؤْلِم، من هنا لجأت إلى لغة الانزياح والخرق.
و”إنّ حداثة النصّ تتطلّب حداثة في التلقّي، تمامًا مثلما أنّ حداثة الوعي تتطلّب حداثة النصّ. ومن هنا، فإنّ لدوْر المتلقّي أهمّيّة كبرى في تحديد درجة الغموض في هذا النصّ الحداثيّ أو ذاك، فقد يبدو نصٌّ ما غامضًا ومُبهَمًا بالنسبة إلى مُتلقّ ذي وعي تقليديّ، وقد يبدو غموضه شفّافًا بالنسبة إلى مُتلقٍّ ذي وعي حداثيّ”(4).
وفي المقطع الثاني: قصِيدَةً/ قصِيدَةً انْبَثَقْتِ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ/ تَجَلَّيْتِ.. بِكُوخِ أَحْلَامِي/ تَوَّجْتُكِ مَلِكَةً.. عَلَى عَرْشِ جُنُونِي/ وَأَنَا التَّائِهُ فِي زَحْمَةِ أَصْدَائِكِ/ لَمَّا تَزَلْ تَفْجَؤُني.. ثَوْرَةُ جَمَالِكِ!
وهنا صور شعريّة متتالية متتابعة، فالقصيدة تنبثقُ على استحياءٍ وتتجلَّى، وللأحلام كوخٌ كما الإنسان الفقير، والقصيدة تتوّجُ ملكة كالملكات، وللجنون عرشٌ كما الملوك، وللأصداء زحمةٌ كزحمة الورّاد على الماء، وللجمال ثورةٌ تُفاجئ كما للشعوب المضطهدة ثورات، والذي يزيد من جمال هذه الصور الفنّيّة تلك الانزياحات التي تثير الدهشة في خلد المتلقي، فمن الانزياحات الإضافية: “كُوخِ أَحْلَامِي”، و”عَرْشِ جُنُونِي” و”زَحْمَةِ أَصْدَائِكِ” و”ثَوْرَةُ جَمَالِكِ”.
“وفي عصرنا الحديث نظر إلى الانزياح نظرة متقدّمة، تخدم التصوّرَ النقديّ القائمَ على أساس اعتبار اللغة الشعريّة لغة خرق وانتهاك للسائد والمألوف، وبقدر ما تنزاحُ اللغة عن الشائع والمعروف تُحقّقُ قدرًا من الشعريّة في رأي كوهين، كما أنّ رصد ظواهر الانحراف في النصّ يمكن أن تعين على قراءته قراءة استبطانيّة جوّانيّة تبتعد عن القراءة السطحيّة والهامشيّة، وبهذا تكون ظاهرة الانحراف ذات أبعاد دلاليّة وإيحائيّة تثير الدهشة والمفاجأة، ولذلك يصبح حضوره في النصّ قادرًا على جعل لغته لغةً متوهّجة ومثيرة، تستطيعُ أن تمارس سلطةً على القارئ من خلال عنصر المفاجأة والغرابة”(5)، وقد استخدمت الشاعرة “لمّا” وهي حرف نفي يجزم المضارع، لتقلبَ الفعلَ إلى الزمن الماضي، ليمتدّ حتّى وقت الحديث مع توقّع حدوثه في المستقبل القريب.
وفي المقطع الثالث تقول: رَائِحَةُ فُصُولِي.. تَخَلَّدَتْ بِك/ بِرَجْعِ أُغْنِيَاتٍ عِذَابٍ.. تَتَرَدَّدُ عِطْرَ عَذَابٍ/ زَوْبَعَتْنِي/ فِي رِيبَةِ دَمْعَةٍ.. تُوَارِبُهَا شَكْوَى!/ إِلاَمَ أظَلُّ أتَهَدَّلُ مُوسِيقًا شَاحِبَةً/ عَلَى/ سُلَّمِ/ مَائِكِ؟
وهنا تبدأ الشاعرة المقطع بأسلوب خبريّ لتأكيد الذات، ولتجسيد معاناة العرب من الغرب وتفتيت ممالكهم والسيطرة على مواردهم، تُخاطب الشاعرة الأسطورة “هيرا” التي تُمثّل الغرب وجبروته، فهي في الأسطورة الإغريقيّة إلهة الزواج والغرور وقتل الأمّهات والأطفال، عرفت “هيرا” بالمشاغبة والغيرة على زوجها زيوس مُتعدّد العلاقات النسائيّة، “هيرا” هي المُعلّقة في الشرق كعيون للغرب وعوْنًا لهم. والشاعرة ترجع للأسطورة كقناعٍ فنّيّ من خلال “فهم الموقف المعاصر وإذابته في شبيهه الأسطوريّ، ليكون الكلّ الذي يُعطي الإحساس بالصدق التلقائيّ”. (6)
و”القناع هو محصّلة التفاعل القائم على التجاذب المتبادل بين طرفي القناع- أنا الشاعر- أنا الآخر” (7)، وشاعرتُنا آمال عوّاد رضوان تدرك أهمّيّةَ الموروث الإنسانيّ في خدمة النَّص الشِّعري “بعد أن أصبح الرَّمز/ القناع والمرآة والمرايا والإشاراتُ ومضاتٍ، تُهيّئ المناخَ الشعريّ العربيّ للتواصل مع روح الأمة.” (8)
“رَائِحَةُ فُصُولِي.. تَخَلَّدَتْ بِك”: كنايةً عن ارتباط الشرق بالغرب على مدى الزمن في كلّ الفصول، وتجسيد استغلال الغرب للشرق.
“بِرَجْعِ أُغْنِيَاتٍ عِذَابٍ.. تَتَرَدَّدُ عِطْرَ عَذَابٍ”: وهنا جناس غير تامّ بين كلّ من “عِذَاب” و”عَذَابٍ”، لتوليد إيقاع عذبٍ في القصيدة، وبينهما أيضًا طباق.
“زَوْبَعَتْنِي/ في رِيبَةِ دَمْعَةٍ.. تُوَارِبُهَا شَكْوَى!”: وتثور في نفس الشاعرة زوبعة ممّا يُعانيه الشرق من صنيع فعل الغرب، وتنسكب الدموع ريبة من مُخطّطات الغرب تخالطها شكوى مقموعة غير مسموعة. وتنتقل الشاعرة في هذا المقطع من الأسلوب الخبريّ إلى الأسلوب الإنشائي: “إِلاَمَ أظَلُّ أتَهَدَّلُ مُوسِيقًا شَاحِبَةً/ عَلَى/ سُلَّمِ/ مَائِكِ؟” الاستفهام هنا يفيد التحسُّر من خسيس فعل الغرب لمشرقنا الجميل جمال الموسيقا، لكنّه جمالٌ منقوصٌ شاحبٌ أفقده الغرب نضارتَه واتّزانه، فالموسيقى شاحبة. “عَلَى/ سُلَّمِ/ مَائِكِ؟”: كناية عن وعود الغرب البهيجة للعرب، لكنّها وعودٌ زائفة واهمة، كما وعدوا العراق بالحرّيّة، فأعقب وعدهم التنكيل والتفتيت والتدمير وقتل الروح ووأد الأحلام، وفي عبارة “على سلّم مائك” خرقٌ إضافيّ يُثيرُ دهشة المتلقي.
وتتابع الشاعرة شدوها في المقطع الرابع: هِيرَا.. أَيَا مَلْجَأَ النِّسَاءِ الْوَالِدَاتِ/ لِمْ تُطَارِدِينَ نِسَاءً يَلِدْنَنِي/ وَمِئَةُ عُيونِكِ.. تُلاَقِحُ عَيْنِي/ وَ.. تُلَاحِقُ ظِلِّيَ الْحَافِي؟
“هِيرَا.. أَيَا مَلْجَأَ النِّسَاءِ الْوَالِدَاتِ”: وتخاطب الشاعرة “هيرا” وهي عين الغرب في الشرق؛ لتحسّس مناطق ضعفه لالتهامه، وقد استخدمت الشاعرة الانزياحَ بالحذف، فلجأت إلى حذف حرف النداء، حيث أصبح أسلوب الحذف ذا جماليّة في تعانقه مع اللغة والمتكلّم والمتلقي؛ فهو يُشكّل منطلقًا وغاية في أنواعه وأغراضه، لذا حظيَ به الكلام العربيّ شعره ونثره، فإنّ اهتمام الأسلوبيّين به ازداد بوصفه ظاهرة أسلوبيّة، ترقى بالكلام من مستواه العاديّ إلى مستوى عالٍ يزخر بشحنات دلاليّة، ويتميّز بحُسن السبك وقوّة التماسك، كما يُسهم في توسيع مجالات النّصّ من خلال تفاعل البُنية السطحيّة التي ينطق بها ظاهر اللفظ، والبُنية العميقة بوصفها عمليّة ذهنيّة ينهض بها المتلقّي اعتمادًا على فطنته وذكائه، ويكون الحذف وسيلة من وسائل اتّساع النّصّ؛ لأنّه يلعب دوْرًا رئيسًا في عمليّة التنبيه والإيحاء، ويُثير ذهن المتلقي ويحمله على الحفر في عمق العبارات والتراكيب، الأمر الذّي يجعلها تتّسع من الداخل وتُفرز شحناتٍ دلاليّةً كثيفة، ومن هنا جاءت الجماليّة ومتعة القراءة التي تحدّث عنها رولان بارت. الحذف في البنية اللّسانيّة ليس فعلًا بريئًا أو عملًا مُحايدًا أو شكلًا مفروضًا على القصيدة من الخارج، وإنّما هو عمل واعٍ وسِمةٌ من سمات القصيدة الحديثة، ومَظهرٌ مِن مظاهرهِ الإبداعيّة التي تعمل على استثمار الطّاقات التّعبيريّة الهائلة التّي تزخر بها اللّغة العربيّة.
“لِمْ تُطَارِدِينَ نِسَاءً يَلِدْنَنِي”: الاستفهامُ يُفيدُ التعجّب من مطاردة “هيرا” لنساء العرب والشرق، وفي السطر كنايةً عمّن يلدن الشاعرة وهُنّ النساء العربيّات، وفي الأسطورة كانت “هيرا” تقتل الأطفال والنساء الوالدات.
“وَمِئَةُ عُيونِكِ.. تُلاَقِحُ عَيْنِي”: كنايةً عن تتبّع “هيرا” لكلّ مَواطن الضعف العربيّ، ونقل ذلك لعسكرة الغرب وساسته لتسهيل السيطرة، وهنا تُشبّهُ الشاعرة تلاقي عيون “هيرا” بعيني الشاعرة بالتلاقح.. استعارة تصريحية، وليس لـ “هيرا” عينان بل مئة عين.
“وَ.. تُلَاحِقُ ظِلِّيَ الْحَافِي؟”: كنايةً عن تتبّع الغرب لكلّ مَواطن الضعف العربيّ وفي قولها انزياحٌ إضافيّ، فالمُتلقّي عندما يسمع كلمة “ظلّي” يتوقّع مضافًا إليه مناسبًا ككلمة “المُرافق” مثلًا، لكنّه يتفاجأ بمضاف إليه “الحافي”، وهذا الانزياح يُولّد الإثارة في نفسه، وهو من جماليّات الانزياح بمختلف أشكاله، وذلك بخلخلة بُنية التوقّعات وإحداث فجوة تُعمّق حسّ الشعريّة في نفس المتلّقي، ممّا يُكسبُ النصّ توتّرًا وعُمقًا دلاليًّا خاصّا، فقد تفجّر المُركَّب بالشعريّة باعتباره نقطة التحوّل ومنبع الإمتاع.
لقد وظّفت شاعرتنا آمال عوّاد رضوان فنّ الأسطورة، تعبيرًا عن قلق الإنسان وتساؤلاته، وهذا التوظيف جاء على درجة بالغةٍ من الأهمّيّة في حياة الإنسان، والأسطورة (لا نصيب لها من النجاح في إعطاء الإنسان قوّة مادّيّة أشدّ للسيطرة على البيئة، لكنّها مع ذلك تعطي الإنسان وهمَ القدرة على فهم الكون، وأنّه فعلًا يفهم الكون، وهذا بالغ الأهمّيّة، لكنّه مجرّد وهمٌ بالطبع) (9).
والمُبدعون يكمنُ موطنُ إبداعهم في اللغة الّتي يتحدّثون بها، فهي لغة تختلف عن اللغة العاديّةِ من حيث الكثافة والإيحاء والقدرة على الترميز والإثارة، فهي تمتلك شحنة من الإحساسات والعواطف، ما يجعلها تقرعُ الصمتَ وتبثّ الحياة، و (اللغة هي التي تفتح لنا العالم، لأنّها وحدها التي تعطينا إمكان الإقامة بالقرب من موجود منفتح من قبل، وكلّ ما هو كائن لا يمكن أن يكون إلّا في “معبد اللغة”. اللغةُ تقولُ الوجودَ كما يقول القاضي القانون، واللغة الصحيحة هي خصوصًا تلك التي ينطق بها الشاعر بكلامهِ الحافل. أمّا الكلام الزائف فهو كلامُ المحادثات اليوميّة. إنّ هذا الكلام سقوط وانهيار.” (10)
فعلى مستوى اللغة نجد كلًّا منهما يعتمدُ على تلك اللغة التصويريّة المُجنّحة التي توحي بالحقيقة ولا تقبضُ عليها، وهي لغة الشعور أو الذات في إحساسها بالأشياء على نحوٍ غامض. أمّا الخيال فهو أداةُ التشكيل الأولى فيهما، ومكتشفُ الوسائل الفنّيّة لتجسيد الأفكار والمشاعر من صور ولغةٍ ورموزٍ وإيقاعات، ويصوغ التجربة النفسيّة في إطارها الخاصّ وشكلها الملائم، وانطلاقًا من هذا التصوّر الجديد لعلاقة الشعر بالأسطورة، يمكننا القول إنّ الأسطورة بطبيعتها تلك وبواعثها ومكوّناتها رؤًى شعريّة عميقة، وصلَ بها الإنسان الأوّل إلى التعبير عن أفكاره ومشاعره، ويمكن القول “إنّ الموقف الأسطوريّ في صميمه موقف شعريّ دراميّ، لأنّه موقف صراع دائم بين الخير والشر، وهذا الصراع في حقيقة الأمر هو جوهر كلّ فنّ عظيم.” (11)
وينظر: أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة، (قراءة في المكونات والأصول)، د. كاملي بلحج، ص 40، من منشورات اتحاد الكتاب العرب،دمشق – 2004.
وشاعرتنا آمال عوّاد رضوان قصدت من استخدامها للأسطورة محاولةَ إعطاء القصيدة العُمق الأوسع من عمقها الظاهر، ونقل التجربة من مستواها الذاتيّ إلى مستوى إنسانيّ جوهريّ، لتقودَنا الشاعرة إلى عالم الدراما الشعريّة، باستغلال شخصيّة “هيرا” الأسطوريّة. وتقول في المقطع الخامس: إِلَى خَفْقٍ مَجْهُولٍ/ يُهَرْوِلُ عِمْلاقُكِ فِي رِيحِهِ/ يَقْتُلُهُ شِعْرِي الْخَرُّوبِيّ/ أَنْثُرُ مِئَةَ عُيونِهِ شُموعًا/ عَلَى/ قُنْبَرَتِكِ الْمِرْآةِ/ وَعَلَى/ اخْتِيَاِل ريشِكِ الطَّاؤُوسِيّ
“إِلَى خَفْقٍ مَجْهُولٍ”: كنايةً على أنّ الغرب يقودُ الشرق إلى مستنقع مجهولٍ بائسٍ، ومستقبل كئيب حزين.
“يُهَرْوِلُ عِمْلاقُكِ فِي رِيحِهِ”: كنايةً عن سعي الغرب بكلّ جهده وقوّته للسيطرة والاستغلال، والخطاب مُوجّه للأسطورة “هيرا”، ممثلة الغرب عندنا هنا نحن العرب والمشرقيّين.
“يَقْتُلُهُ شِعْرِي الْخَرُّوبِيّ”: وهنا تتجلّى الاستعارة التنافريّة، وهي صورة بلاغيّة تقوم على الجمع بين متنافرَيْن لا علاقة جامعة بينهما؛ لخلق منظومة شعريّة ذات دلالة ومغزى يُحقّق الملاءمة الإسناديّة للموصوفات، كأنْ تُسند الألوان أو الصفات إلى موصوفاتها، فالشِّعر لا لون له، لكن الشاعرة جمعتْ بين شِعْرها واللون الخروبيّ، خرّوب بلادنا؛ ليتحقّق التنافر المطلوب والابتداع الشعريّ التخيّليّ البحت، وهذه المفارقة هي من صنعت من هذه الجملة الشعريّةَ المطلوبة.
“أَنْثُرُ مِئَةَ عُيونِهِ شُموعًا”/ عَلَى”/ “قُنْبَرَتِكِ الْمِرْآةِ”/ “وَعَلَى”/”اخْتِيَاِل ريشِكِ الطَّاؤُوسِيّ”: فالغرب بسطوته وغرور وزهوه بقوّته يحرق، هو يزهو ويختال كما كانت تختال “هيرا” في أسطورتها بريشها الطاووسيّ، والعرب والشرق يكتوي ويدفع الثمن، والجدير بذكره أنّ طائرَ الطاووس رمزٌ للأسطورة “هيرا”، وقيلَ في أحد الأساطير أنّ العملاق ذو المئة عين كان يتبعها، ولمّا قُتل نُثرت عيونه المئة على ريش الطاووس.
وتستمر الشاعرة في قصيدتها: كَمْ شَفيفَةٌ بِلَّوْراتُ غُرورِكِ/ تَنْفُشينَهَا/ تَفْرُشينَهَا/ بِسَيْفِ شَغَبٍ يشعْشِعُنِي/ كَيْفَ أَرُدُّ سَطْعَهُ إِلى عَيْنَيْكِ/ وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ أَخْمَدَتْهَا نِيرَانُكِ؟
“كَمْ شَفيفَةٌ بِلَّوْراتُ غُرورِكِ”/ “تَنْفُشينَهَا”/ “تَفْرُشينَهَا”: كنايةً عن الموت الزؤام الذي يُلحقُهُ الغربُ بالشرق، ويُمهّد لعدوانه فيدّعي أنّه مُحبٌّ للعدل والديمقراطية ورفاهية الشعوب، ولا أطماعَ له فيها يقدمها وينشر فكرَهُ بطريقةٍ تبدو أوّلَ الأمر جماليّة، لكن يَعقبُها الهلاك والخراب والدمار، ففي العراق وَعَدَ الغربُ العراقيّين بالديمقراطيّة وحياة الرغد، وعندما احتلّوه أحرقوا الأخضر واليابس، وبثّوا ونفشوا وفرشوا سجّاد الطائفيّة والتجزئة والدمار والفقر والخراب، و”كم” الخبريّة للتكثير، وتقول: “تَنْفُشينَهَا”/ “تَفْرُشينَهَا”: وهنا تتلاعب الشاعرة في تكرار حروفٍ بعيْنها، لتوليد إيقاع موسيقي ينساب في ثنايا النص، وهما فعلان مضارعان يفيدان الاستمرار في التعذيب وتجسيد الواقع المرّ، والفعلان يدلا على المعنى تماما كما ينفش ويفرش الغرب الويلات في أرض العرب والمشرق عندما يحتلها..
“بِسَيْفِ شَغَبٍ يشعْشِعُنِي”، ونقول يشَعْشَعَ عَلَى أَعْدَائِهِ القَنَابِلَ : يُغير بِهَا عَلَيْهِمْ، و”هيرا” بسيفها المشاغب تُغيرُ على الشاعرة كما طائرات الغرب تُلقي بحِممِها وبقنابلِها وبما يُسمّى أمّ القنابل على المشرق والعرب، وهنا انزياحٌ في التركيب، فقد قدّمت الشاعرة شبه الجملة “بِسَيْفِ شَغَبٍ”، وحقّها التأخير على كلّ من الفعل والفاعل والمفعول به “يشعْشِعُنِي” وحقُّ كلّ التقديم، وهناك أيضًا انزياحٌ إضافيّ في قولها: “بِسَيْفِ شَغَبٍ”. وتنتقلُ الشاعرة آمال عوّاد رضوان إلى الأسلوب الإنشائي قائلة: “كَيْفَ أَرُدُّ سَطْعَهُ إِلى عَيْنَيْكِ”: والاستفهامُ يُفيد التعجّب أو إن شئت التعجيز، فالشاعرة أو الشرق لا يستطيعان ردّ سيوف الشغب، بعدما تمكّن الغرب من السيطرة على منابع النفط وأرضه، فبنيران الغرب الجهنّميّة ضاع حذر الشرق ولم يعد ينفع: “وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ أَخْمَدَتْهَا نِيرَانُكِ؟” وفي السطر كناية عن سطوة الغرب، وفي عبارة: “وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ” انزياحٌ إضافيّ يُولّدُ الإثارة في نفس المُتلقّي.
“وعلى أيّة حال، فإنّ القول بجوهريّة الأسطورة في شعر الحداثة، غالبًا ما ينهض من اعتبارها شكلًا من أشكال الوعي، وشكلًا من أشكال التصوير الفنّيّ. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أنّ ثمّة نوع من التوحيد بين الوعي الشعريّ الحداثيّ والوعي الأسطوريّ، وبين الصورة الفنّيّة والأسطورة، فإنّ ذلك يعني أنّ شعر الحداثة لا يمكن عزله عن الأسطورة، حتى في تناوله للواقع، إذ إنّ الواقع ينبغي، بحسب ذلك، أن يبدو مؤسطرًا في الشعر. والحقيقة أنّ شعر الحداثة كثيرًا ما رأى في الأسطورة حاملًا موضوعيًّا لتجاربه وتصوّراته الشعريّة، غير أنّ القول بذلك شيء، والقول بجوهريّة الأسطورة شيء آخر تمامًا. “(12)
وفي المقطع السادس، تقول الشاعرة: بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ/ بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيمِ/ مِنْ مِعْصَمَيْكِ/ عَ / لَّ /قْ / تُ / كِ / نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الْتِيَاعٍ/ وعَرَائِسُ/ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ/ تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ/ جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!
“بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ”: عرفت “هيرا” بالمشاغبة والغيرة على زوجها زيوس مُتعدّد العلاقات النسائيّة، وبلغَ من مشاغبتها حدًّا جعل “زيوس” يُعلّقها من معصميْها بقيدٍ ذهبيّ بين الأرض والسماء. “بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيم”:ِ “الأديم” و”السديم”: كنايةً في كلّ منهما عن صراع الشرق والغرب، فقد علّق “زيوس” كبيرُ الآلهه زوجتَهُ “هيرا”، لتكون عينًا وعوْنًا للغرب على الشرق، وتكرار حروف بعينها في هذيْن الاسميْن يُولّدُ إيقاعًا في ثنايا النص.
“مِنْ مِعْصَمَيْكِ” و”/ عَ/ لَّ / قْ/ تُ/ كِ”: والمعروف أن “هيرا” قد عٌلِّقت من معصميْها بقيدٍ ذهبيّ بين السماء والأرض لمشاغباتها.
“نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الْتِيَاعٍ”: علِّقت “هيرا” بين السماء والأرض، كما النجمة في السماء المتلألئة تتباهى؛ لتكون أسطورة ينظر إليها بلوعة والتياع.
“وعَرَائِسُ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ”: وفي عبارة “وعَرَائِسُ الصُّدُورِ” انزياحٌ إضافيّ.
“تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ”: ولقد تكرّرَ كلٌّ من صوتَيْ التاء والثاء في كلمة “تثرثرك”، لتوليد إيقاع في النصّ، وهذان الصوتان يدلّان على معنى الثرثرة والحديث.
“جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!”: وثرثرة “هيرا” وهي عين وعون للغرب على الشرق فيها التحدّي لزوجها بسبب غيرتها المفرطة، وفيها التحدّي أيضًا للعرب والمشرق، وفي عبارة”جُمُوحَ تَحَدٍّ” انزياحٌ إضافيّ، فاستخدمت الشاعرة أُسلوبَ “الاتّساع” أو الاختراق أو الانزياح، وهو واحدٌ مِنَ الأساليبِ التّحويليّةِ الّتي تطرأُ على العباراتِ والتّراكيبِ النّحويّةِ، كما وظّفت الأسطورة، “ويرى يوسف اليوسف أنّ الأسطورة لم تدخل إلى الشعر، لكي تكون “بمثابة عتلة رافعة للقصيدة، وإنّما جاءت بوصفها الرؤيا الشعريّة نفسها، وبوصفها جوهر التركيب البنيويّ للقصيدة عينها”(13). ويؤكّد ذلك بتعداده للمزايا الفنّيّة التي وفّرتها الأسطورة للشعر وهي: تعميق الكيف الدراميّ للقصيدة، وإعطاء المفاهيم والتصوّرات بُعدًا شخصيًّا، وإعطاء المضمون بُعدًا كونيًّا، والتخلّص من الزمن أو تعطيله، والتعبير عن رغبة الشاعر في التطهّر والتجدّد.(14).
وينظر: وعـــي الحــداثــة ( دراسات جمالية في الحداثة الشعرية ) – د. ســعد الـدين كـليب دراسة، ص 10- من منشورات اتحاد الكتاب العرب – 1997.
و”الأسطورة والشعر شيءٌ واحد لا انفصال بينهما، والبعض يرى أنّ الاستعارة بنائيًّا هي الميدان المشترك بين الأسطورة والأدب، على الرغم من أنّهما يختلفان من حيث التكوين، فهل الاستعارة أسطورة مكثفة، أم أنّ الأسطورة استعارة موسّعة؟(15)
وفي المقطع السابع: أَحَبِيبَتِي يَشْكُوهَا الْوَجَعُ؟/ أَيْنَ مِنِّي جَمَالُهَا/ يُخَلِّصُهُ قُبْحُكَ هِيفَايْسْتْيُوس؟
“أَحَبِيبَتِي يَشْكُوهَا الْوَجَعُ؟”: وتنتقل هنا الشاعرة لأسلوب الإنشائيّ، فالنداء يفيد الاستهزاء بـ “هيرا”، وقد حذفت الشاعرة حرف النداء من “حبيبتي” ليتشكّل لدينا انزياحٌ بالحذف، و”يُعدّ الحذفُ من أبرز الوسائل الشعريّة التي يستند إليها المبدع، من أجل إثراء نصّه أدبيّا، “وتتأتّى القيمة الفنّيّة لآليّة الحذف من أن بعض العناصر اللغويّة يَبرزُ دوْرُها الأسلوبيّ بغيابها أكثر من حضورها”، بالإضافة إلى قدرتها على تنشيط خيال المتلقّي، حيث إنّها تُشكّل “عنصرا حافزًا له، لكي يحضر في الخطاب ويُسهم في استدراج المحذوف وتقديره، والدخول في وصفه مُنتِجًا له ومُساهِمًا في تشييده”(16)
“أَيْنَ مِنِّي جَمَالُهَا”: والاستفهام هنا يفيد التهويل.
“يُخَلِّصُهُ قُبْحُكَ هِيفَايْسْتْيُوس؟”: تسخر الشاعرة من “هيرا” الجميلة التي لم يعد جَمالُها يُثيرُ الشاعرة، المعلقة بين السماء والأرض بسبب غيرتها ومشاكساتها، ولم يُخلّصها من قيدها سوى ابنها الوحيد القبيح هِيفَايْسْتْيُوس الذي كانت تخجل منه لعاهته، وتنتقل الشاعرة في نصّها للمقطع السابع: قَلْبُكِ الْمَكْفُوفُ بِبَرِيقِ الْغَيْرَةِ/ يَخْتَلِسُ لُؤْلُؤَ خَفْقِي/ آهٍ مِنْ لَيْلِي.. يُخْفِي وَيْلِي/ يَجْمَعُ ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ/ عَلَى رَمَادِ أَنْفَاسِي!
“قَلْبُكِ الْمَكْفُوفُ بِبَرِيقِ الْغَيْرَةِ”: إشارة لطبع “هيرا” المجبول على الغيرة، وكأنّي بالشاعرة تريد أن تقول بأنّ الغرب لا يقبل ولن يقبل ازدهارًا أو تقدّمًا للشرق، بسبب أحقاده وغيرته وطبعهِ الغشوم.
“يَخْتَلِسُ لُؤْلُؤَ خَفْقِي”: كناية على رفض الشاعرة لأفعال “هيرا” في الشرق، ورفضها لكلّ ممارسات الغرب الجائرة بحقّ الشرق والعرب خاصّة، وفي السطر انزياحان، فقد أسندت الشاعرة الاختلاسَ للؤلؤ، وجعلت لخفق الشاعرة لؤلؤًا.
“آهٍ مِنْ لَيْلِي.. يُخْفِي وَيْلِي”: جانست الشاعرة بين كل من”لَيْلِي” و “وَيْلِي” جناس غير تامّ؛ لتوليد الإيقاع في ثنايا النصّ. والليل كناية عن الظلام والدمار الذي يُحدثُهُ الغرب في الشرق بحروبه، وإلقاء حِممه واحتلالاتهِ وقهرهِ للشعوب المغلوب على أمرها، وكلّ ذلك مصدر لويل الشاعرة.
“يَجْمَعُ ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ”: وهنا أيضًا ثلاثة انزياحاتٍ متتالية؛ الأوّل في قولها: “ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ” وهو انزياحٌ إضافيّ، فالمتلقّي عندما يسمع كلمة “ذَاكِرَةَ” يتوقّع مضافًا إليه مناسبًا ككلمة “الشخص” مثلًا، لكنّه يتفاجأ بمضاف إليه “أَنْفَاسِكِ”، وهذا الانزياح يولد الإثارة في نفسه، وهو من جماليّات الانزياح، وذلك بخلخلة بنية التوقّعات وإحداث فجوة تُعمّق حسّ الشعريّة في نفس المتلّقي، ممّا يُكسب النصّ توتّرًا وعُمقًا دلاليّا خاصّا ومنبع إمتاع. والثاني في قولها: “أَنْفَاسِكِ” مجاز مرسل علاقته الجزئيّة، فالأنفاس جزء من الشخص، والثالث قولها:” أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ” فالمتلقي عندما يسمع كلمة “أنفاسكِ” يتوقّع مضافًا إليه مناسبًا ككلمة “المتسارعة” مثلًا، لكنّه يتفاجأ بمضاف إليه “الْمَبْذُورَةِ”، وهذا كناية عن عيون “الغرب المبثوثة في كلّ نواحي الشرق، للسيطرة والاستغلال وهذا يُمثّله “هيرا” وعيونها.
“عَلَى رَمَادِ أَنْفَاسِي!”: كنايةً على أنّ أفعال الغرب المُهينة والمُدمّرة حوّلت آمال الشرق المُتمثّل في الشاعرة إلى رماد، استعارة تصريحيّة.
وفي المقطع الثامن تقول الشاعرة: أيْنَ مِنِّي “حَبِيبِي”/ نَغْمَةٌ فِي حُقُولِي/ كَمِ انْدَاحَتْ قَطِيعًا/ مِنْ قُبَّراتِ حَيَاةٍ تَرْعَانِي؟
“أيْنَ مِنِّي “حَبِيبِي”: استفهام يفيد التشويق، تتشوق الشاعرة إلى الحبيب عيسى بن مريم وإلى الخير والحقّ وعدالة الرسالة، في أتون ما يُحيقه الغرب بالشرق من ويلات. وتُكرّر الشاعرة آمال هذه البداية الاستهلاليّة في مقاطعها، و”يُعدّ التكرارُ في نظر النقّاد والدارسين تقنيّة أسـلوبيّة تحـدثُ علـى مـستوى الـنصّ، فتشيعُ فيه حركة ملحوظة تمتاز بالعذوبة والاسـتحباب، وهـذا مـا يجعلـه يمتـاز بالفنّيّـة والجماليّة المُطلقة، إذ يتجاوز بنيته اللفظيّة إلى إنتاج فوائـد ومرامـي جديـدة داخـل أتـون العمل الفنـّيذ، في حـدث فيـه جلبـةٌ وموسـيقى بواسـطة اسـتحداث عناصـر متماثلـة ومواضـع مختلفة من العمل الفنّيّ، كما يُعدّ التكرارُ مرتكزَ الإيقـاع بجميـع صـوره، ويعمـل بـصُورِهِ على توطيده وتمكينه من معمارها، فنجده ماثلًا في الموسيقى يدعم تواترهـا وحركتهـا الانسابيّة، كما تعتمد عليه نظريّة القافية بشكل أساسيّ في الشعر وسرّ نجـاح الكثيـر من المحسنات البديعية، ويظهر ذلك جليًّا في العكس والتفريق والجمـع مـع التفريـق، وردّ العجز على الصدر في علم البديع العربيّ” (17)
“نَغْمَةٌ فِي حُقُولِي”: وهنا انزياح بالحذف، والخبر محذوف تقديره “هذا” أو هذه”، وهذا الحذف يثير ذهن القارئ ويٌشوّقه للحصول على الجواب، فقد انزاحت الشاعرة بالنصّ حيث حذفت المبتدأ، والانزياحُ هو انحرافُ الكلام عن نسقه المألوف، وهو تقنيّة يستخدمها الشعراء للتعبير عـن
تجربتهم الشعوريّة، وظاهرة الانزياح في شعر آمال رضوان أدّت إلى تقوية لغتها الشعريّة وابتعادها عن الكـلام العاديّ المألوف، وإلى لفت انتباه المتلقّي وإثارة ذهنه وإيصاله إلى اللذّة.
“كَمِ انْدَاحَتْ قَطِيعًا”: كم التكثيريّة؛ كنايةً عن كثرة ما انصاعَ الشرق عامّة والعرب خاصّة إلى سموم الغرب، وما يبثّونه من سموم يضعونها في الدسم لاصطيادنا.
“مِنْ قُبَّراتِ حَيَاةٍ تَرْعَانِي؟”: وكثيرًا ما لحق العرب والشرق، واتّبعوا أوامرَ الغرب وممثّلتهم “هيرا” حتّى الهلاك.
وتقول الشاعرة في المقطع التاسع: أَيْنَ مِنّي “حَبِيبِي” / كَوْكَبُ أَلَقٍ.. في سَمَا رُوحِي/ يُضِيءُ دَرْبَ إِلْهَامِي إِلَيْكِ/ ويَحُطُّ فَوْقَ مَغارَةٍ تُنْجِبُنِي؟
أَيْنَ مِنّي “حَبِيبِي”: وتكرّر الشاعرة هذا السطر في بداية بعض مقاطعها، “وممّا لا شكّ فيه أنّ التكرار الاستهلاليّ يُزوّد النصّ الشعريّ بـزخم ممتـع مـن الـدفق الغنائيّ، تصنعها الحركات الإيقاعيّة المتعاقبة في الـسياق، بهـدف إبـراز النبـرة الخطابيّـة، وكشف عواطف وأحاسـيس الـشاعر التـي ودّ نقلهـا للمتلقـي، مُحافِظـة علـى وهجهـا وشـعلتها الدلاليّة المؤثّرة، كما «يكشف عن فاعليّة قادرة على منح النصّ الشعريّ بنيـة متـّسقة، إذ كان كلّ تكرار من هذا النوع قادرًا على تجسيد الإحساس بالتسلـسل والتتـابع، وهـذا التتابع الشكليّ يُعين في إثارة التوقّع لدى السامع، وهذا التوقّع من شـأنه أن يجعـل الـسامع أكثــر تحــضّرًا لــسماع الــشاعر والانتبــاه إليــه” (18).
و”للتكرار مزايا فنّيّة ولمسات جماليّة عديدة، سواء من حيث تأثيره في المعنى، أم من حيث تأثيره في الموسيقى الشعريّة، فضلًا عن الدلالة النفسيّة التي يستطيع أن يضيفها على القصيدة، وله إلى أثره في تقوية النغم، فالشاعر المعاصر يبتعد ما أمكن عن الوزن والقافية التقليديّتيْن، مُتّجهًا نحو التكرار وسيلة لإغناها والتجديد فيها، فالإيقاع الصوتيّ الذي يَخلقه تكرار جرس الحروف والكلمات، تُظهر القيمة الفكريّة والنفسيّة التي يعبّر عنها، من خلال العناية بتكرار لفظة معيّنة أو مقطع معين” (19).
وممّا لا شكّ فيه، أنَّ التكرار الاستهلاليَّ يُسهم بما يوفّره من دفق غنائيّ في تقوية النبرة الخطابيّة، وتمكين الحركات الإيقاعيّة من الوصول إلى مراحل الانفراج، بعد لحظات التوتّر القصوى، وهكذا جاءت الأبياتُ مشحونةً بطاقةٍ دلاليّة، تُعبّر عن حالة الصراع الأزليّ بين “الشر/ والخير”، الشرّ المتمَثِّل في مطامع الإنسان الغربيّ ونوازعه وغرائزه، والخير المتمثِّل في براءة الرسالاتِ السماويّة السَمحة وطُهرها ومَوطنُها الشرق. ومن هنا ولّد التكرارُ قدرةً فائقة على رسم حركة تتابعيّة، ترصد حالة الصراع وتتجاوزها زمنيّا، للوصول إلى المشاعر النبيلة، وما هذا التكرار المتتابع لصيغ النداء إلّا تجسيدًا عن حالة توق شديدة، أو رغبة عارمة في البقاء تحت ظلّ سنديانة الرسالات، رمز الخير والحبّ والعدل والسلام.
“كَوْكَبُ أَلَقٍ.. في سَمَا رُوحِي”: كنايةً عن لجوء الشاعرة إلى الرسالات السماويّة، حيث الحقّ والعدل والخير، بعيدًا عن مَكر الغرب وظلمه وتظلمه وويله وويلاته، وذكرت الشاعرة “المغارة” وأرادت من كان فيها، مريم العذراء والسيّد المسيح، مجازٌ مرسل علاقته المكانيّة.
“يُضِيءُ دَرْبَ إِلْهَامِي إِلَيْكِ”: كنايةً ألّا منقذ من ويلات الغرب “وهيرا” إلى النور السماويّ.
“ويَحُطُّ فَوْقَ مَغارَةٍ تُنْجِبُنِي؟”: والمغارة هنا، مغارة المهد التي ولد فيها نبي الله السيد المسيح، وقد ذكرت الشاعرة “المغارة” وقد أسندت الشاعرة التنجية للمغارة.
وتنتقل الشاعرة إلى المقطع العاشر قائلة: يَا مَنْ تَوارَيْتِ فِي حَانَةٍ/ دَلِيلُهَا الْهَيْمَنَةُ/ تَسْكُبِينَنِي جَحِيمًا.. فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ/ وَتُرْوِيكِ.. قَوَارِيِرُ هَجْرِي الدَّاغِلِ/ فَلاَ تَنْتَفِخِينَ بِآهَاتٍ مُتَشَرِّدَة!
“يَا مَنْ تَوارَيْتِ فِي حَانَةٍ” و”دَلِيلُهَا الْهَيْمَنَةُ”: وتستهلّ الشاعرة سطرها هذا بالأسلوب الإنشائيّ، والنداء يُفيد التعجّب، والمُنادى هو “هيرا” أي الغرب، وتقول الشاعرة بأنّ هدف الغرب السيطرة على الشرق والنفط العربيّ.
“تَسْكُبِينَنِي جَحِيمًا.. فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ”: كنايةً عمّا يُلحقه الغرب بالشرق عامّة والعرب خاصة من حروب وقتل ودمار، وتشريد وتشتيت وضياع وتفتيت وفوضى. وهنا تُشبّه الشاعرة الجحيم بشيء يسكب، استعارة تصريحيّة أو إن شئت فهي انزياح دلاليّ، وهناك انزياح إضافيّ في قولها “فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ”.
“وَتُرْوِيكِ.. قَوَارِيِرُ هَجْرِي الدَّاغِلِ”: وتتوالى الانزياحاتُ في هذا السطر، فقد أسندت الشاعرة القوارير لهجرها، كما أسندت هجرها للدغل، وهو ما يتّصفُ بالشرّ، فيُبطّنه مظهرَ الخير.
“فَلاَ تَنْتَفِخِينَ بِآهَاتٍ مُتَشَرِّدَة!”: كناية عن أن الغرب يفرح ويسعد بتعاسة العرب والشرق.
وتستمر الشاعرة في شدوها: إِلاَمَ نَظَلُّ رَهَائِنَ بَهْلَوَانِيَّةً/ يَلْبَسُنَا طُوفَانُ نَعْنَاعٍ لاَ يَنَام؟
“إِلاَمَ نَظَلُّ رَهَائِنَ بَهْلَوَانِيَّةً”: والاستفهام يفيد التعجب، تتعجب الشاعرة من استمرارية الشرق في الخضوع لنزوات الغرب الشيطاني.
“يَلْبَسُنَا طُوفَانُ نَعْنَاعٍ لاَ يَنَام؟”: وتتعجب الشاعرة من تصديق العرب والشرق للكلام الغربي المعسول الذي يعقبه القتل والتدمير والتفتيت والسيطرة.
وتقول: ها شَهْوَةُ شَرَائِطِي الطَّاعِنَةُ بِالْعُزْلَةِ/ تُزَيِّنُكِ/ فَلاَ تَخْتَلُّ إِيقَاعَاتُ أَجْرَاسِكِ النَّرْجِسِيَّة! لقد كرّرت الشاعرة “ها” التي للتنبيه مرّات كثيرة، وهي تخاطب “هيرا” أو الغرب، والتكرار لا يقوم فقط على مجرّد تكرار اللفظة في السياق، وإنّما ما تتركه هذه اللفظة من أثرٍ انفعاليّ في نفس المتلقي، بالإضافة إلى كونه ظاهرة موسيقيّة ومعنويّة، ولإغناء دلالة الألفاظ وإكسابها قوّة تأثيريّة، ممّا يعطي الألفاظ التي تردُ فيها تلك الحروف أبعادًا تكشف عن حالة الشاعر النفسيّة، وترى الشاعرة أنّ كلّ شيء غير سليم في الشرق، يَروق لنهم الغرب الأنانيّ بطبعه، وقد أسندت الشاعرة الشهوة للشرائط، والأجراس للنرجسية، وفي هذه السطور تتوالى الانزياحات الإضافيّة.
وفي ختام نصها تقول: هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي بِحَرَائِقِ غُبَارِكِ الْفُسْتُقِيِّ!
“هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي”: وتكرّر الشاعرة “ها” منبّهة الغرب ولافتة نظره أنّ في ياسمينه احتراق، وأنّ قولَهُ معسولٌ عكس ما يفعله، وللياسمين شرارات تغسل وتنظف.
وتكرّر الشاعرة في استهلالها لهذا المقطع والمقطع السابق بــ “ها”، و”تتّـضح فاعليّـة تكـرار الشاعرة لــ (ها)، وهي حرفُ تَنْبِيهٌ تَفْتَتِحُ العرب بها الكلام بلا معنى سوى الافتتاح، وتكرّر عند الشاعرة فـي الاستهلال بهذا المقطع والمقطع السابق، بهدف توليد الإيقاع الموسيقيّ الذي خلّفته ونشرته على تراكيب الـنصّ، فـأنتج تناسـقًا وانـسجامًا بـين بنـاه، ممّـا سـاهم فـي تـضافر المعـاني وتعميـق الـدلالات مـن خـلال التعـابير التي أغرقـت الخطـاب بالـدفقات الغنائيـّة، وأكّـدت “فاعليّـة الأصـوات في قـدرتِها علـى إضـافة “طبقـة” دلاليّـة، مـن خـلال الطبقـة الـصوتيّة، وهـي فـي ذلـك، كأَنّهـا إيمـاءٌ مكَثَّـف يختـزلُ إضـافاتٍ وصـفيّةً أو تـشبيهيّة، فكأَنّهـا لـذلك معنـى فـوق المعنى. (20)
وينظر: معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، أحمد مطلوب، ص 633، مكتبة لبنان ناشرون، ط 2، 1996.
“أَنَا الْمُحَاصَرُ.. بِزئبقِ مَرَايَاكِ”: كنايةً عن أنّ الشاعرة والمشرق والعرب كلّهم مخدوعون بأوهام الغرب ووعوده الكاذبة، وفي قولها “بِزئبقِ مَرَايَاكِ” اختراقٌ إضافيّ.
“إِلاَمَ تَبْكِينِي نَايُ زِنْزَانَتِي”: وتنتقل الشاعرة للأسلوب الإنشائيّ، والاستفهام يُفيد التحسّر على ما لحق بالعرب والشرق من ضيم وجور، وتصرّفات الغرب الذي قوله يُخالف فعله، يُظهر الخيرَ ويُبطّن الشرّ، فللزنزانة ناي تبكي صاحبها العربيّ أو المشرقيّ، وفي عبارة “نَايُ زِنْزَانَتِي” خرقٌ إضافيّ، فقد أسندت الشاعرة الناي للزنزانة.
“وَتَظَلُّ تُلَوِّحُنِي.. مَنَادِيلُ الْوَدَاعِ!”: كناية عن الضياع والفقد الذي لحق بالعرب والشرق، واتّكأت الشاعرة في القصيدة وخاصّة في مقاطعها الأخيرة، على الفعل المضارع الذي يُصوّر استمراريّة مأساة العرب والمشرق، مثلًا:” تَظَلُّ، تُلَوِّحُنِي، تَبْكِينِي، تَغْسِلُنِي، تُزَيِّنُكِ، يَلْبَسُنَا، تَنْتَفِخِينَ، وغيرها.
إنّ القصيدة الحديثة لا تؤثّر بمضمونها فحسب، لأنّها ليست بيانًا سياسيًّا أو اجتماعيّا، بل تؤثّر بشكلها ومضمونها معًا، من حيث هي بنية لها وظيفة جماليّة تشمل الفائدة والمتعة معًا. من هنا أكّد روّاد الشعر العربيّ الحرّ، أنّ للشعر وظيفته المتميّزة عن الوظائف التي يُقدّمها العلم والفلسفة والدين. إنّها وظيفة جماليّة تمتاز بالشموليّة والبقاء، ولها تأثيرها الكبير في الذات الإنسانيّة. فهي وظيفة كلّيّة تشمل السياسيّ والاجتماعيّ والفكريّ والنفسيّ، على أنّ السياسيّ أو الاجتماعيّ أو الفكريّ أو النفسيّ في الشعر يختلف عن الواقع. فالشعر وإن استفاد من هذه الحقائق، فإنّه يحوّلها إلى قيمة فنّيّة. ثمَّ إنّ الشعر لا يقف عند ما يتوصّل إليه العلم أو الفلسفة، وإنّما يبحث عن حقيقته الخاصّة وبطريقته الخاصّة أيضًا، ولا يقدّم معرفة جاهزة، وهذه الحقيقة لا تنفصل عن النصّ الشعريّ من حيث هو شكل جماليّ. إنّها حقيقة ممتعة، حقيقة جماليّة، فـ “هي جماعُ كلّ أصناف الحقيقة لأنّها مكتشفة بالشعر ومودعة فيه، لأنَّ الشعر تعبيرٌ عن جوهر الكون والطبيعة والتاريخ والإنسان والحقيقة التي تكمن في الشعر، هي نموذج للحقائق الأخرى لأنّها حقيقة تعبّر عن تمام الإنسانيّة وكمالها، وعن كامل اندماجها في شرطها الإنسانيّ.” (21)