قراءة في قصيدة “الجدار الحجري”
للشاعرة “نيالاو حسن أيول”
بقلم الناقد والشاعر أمجد ريان
للشعر السوداني نكهة شديدة الخصوصية نكهة ذات عبق إنساني متميز ، وفيه نزوع دائم لإيقاظ الروح البدائية الكامنة فينا جميعاً والتي تنتقل من جيل إلى جيل ، والتي تعبر بفرادة عن امتزاج الحسين الحياتي والجمالي . ومعنى البدائية هو حقيقة أولية لابدّ منها كقاعدة ينبني عليها كل نشاط إنساني وكل تطور أو إنجاز جديد للبشر ، وهي جزء حي من طبيعة الانسان وروحه وفطرته التي لايمكن أن تزول ، بل تظل ترتبط بقوة الفكر والتأمل لدى الإنسان.
والروح البدائية تنتبه إلى العالم الحي من حولنا ، عالم الأرض الخصبة والأشجار والمراعي والحيوانات والكائنات الأخرى ، وتطرح البراءة الكاملة حيث لاتوجد أي درجة من درجات التكلف ، ويصبح الإنسان على طبيعته المفطور عليها : طبيعة الحنان والروح النقية والشجاعة العقلية والنفسية ، والشاعرة “نيالاو” تسعى باستمرار لتفسير العالم على نحو متجدد ، و لديها حلم كبير دائم هو حلم فهم قانون الحياة الذي جسدته في هذا النص من خلال معطيين أساسيين هما الجدار المنزلي و الجدارالجبلي .
الجدار المنزلي يحتوي النافِذَة حيث تكون وقفتها مع القط ، وهي وقفة لها طابع رمزي تحكي العلاقة التاريخية والتأريخية مع الحيوان . والجدار يطرح معطيات متعددة ففيه تَأمل الفَقِير في وهجِ حزنه ، وتحته وعاء الفخار البسيط ، أو الإناء اليومي للإنسان البسيط ، وفي اعلاه صورَة المَسِيح في وضع الصلِيب ، وآيات في الإِطَارِ المُذَهَّب ، والوصايا العَشر تئن ، إنه جدار الحياة التي تفيض بمادياتها وروحانياتها .
أما الجدار الجبلي فهو يشير للطبيعة القاسية وحيث كُل حَصاة أقسَى من الحجرِ ، وحيث الكهفيات التي صورت علاقة الإنسان بالحيوان منذ المراحل الآدمية المبكرة وصورت قطعان الثيران وصيدها .
وفى النص براءة تشبه براءة الميثولوجيا الإغريقية ، عندما أرسل الإله “أبولو” غرابا ليجلب له الماء ، ولكن الغراب رأى شجرة التين فأهمل مهمته ومكث ينتظر نضج فاكهتها التي خلبت لبه ، وتشبه براءة حكايات الأطفال في قصة الغراب الواقف على شجرة التين ماسكاً بقطعة الجبن بمنقاره حتى ضحك عليه الثعلب وسخر منه ومن حكمته ودفعه للغناء لتسقط قطعة الجبن ، وقصص الأطفال عن تعليق الجرس برقبة القط ، وهكذا تفاجؤنا الشاعرة بأساليبها المتنوعة للكشف عن مكنونات النفس البشرية وذخائرها المخزونة في اللاوعي .
والنص يشرح آلام الإنسان ومعاناته حيث تحاصره طقوس الألم والحسرة ، وتنفجر التفاصيل الأليمة في العين ، وحيث يتواطأ الغموض مع ظلال الضجر ، وهناك مطارق تَئِن في أعلى نُقطة بالرأسِ
تضرب بالحديد على نول الزمن ، هناك مشقة وإحباطات دائمة وحَبات العَرَق تتجمَّع لتختلط مع شوَائب الهواء . وهكذا تكون رحلة الإنسان الشاقة التي بدأت مع الإنسان الأول الذي كان يصارعها ، ويريد أن يودعها ويودع سلبياتها الخانقة . والشاعرة الحساسة ترثي العالم برهافة ، وتعيد رثاءه المرة تلو المرة ، وهي لاترثي العالم في هذا النص فقط ، بل هي دائماً ما ترثي العالم في كتاباتها بشكل ضمني ، ودائماً ما تعايش حالة من القلق الشعري والتوتر الإنساني ، لأنها تريد أن تودع العالم شديد القسوة ، تريد أن تغيره ، وتريد في النهاية أن تناقش العلاقة بين الموت والحياة ، كما أنها ترفض عالم الخوف والوحشة والأشباح ، باحثة عن لحظات الصفاء والأمن ، ولحظات التحقق الكثيف للمعنى الإنساني من خلال تاريخ من التجارب والخبرات .
والقط هنا مختلف عن “القط الأسود” المرعب الذي قدمه على سبيل المثال الكاتب الأمريكي “إدجار آلان بو” ، ومختلف عن القط الأسود في المجتمع المصري الشعبي في العصور الأخيرة كما لو كان فألاً سيئاً .. ولكن الشاعرة تقدمه كرمز أفريقي عميق الدلالة ، لتناقش قضايا كثيرة ، من بينها الوحدة بين الإنسان والكائنات ، وبالتأكيد فالمسالة لها علاقة بتراث وفلكلور الحضارات الأفريقية والنوبية والزنجية بشكل عام ، والشاعرة في آخر النص تنادي القط برقة متناهية ، ليحضر إليها قبل أن تغلق النافذة .
أما في مصر القديمة فلقد تفاعل الإنسان مع الحيوان منذ بداية التاريخ من خلال علاقة وثيقة ، وهناك نموذج القط العظيم الذي ذكر في “هليوبوليس” في “كتاب الموتى” على أنه : (كائن شمسي قديم غاية القدم، وأنه يحمي الناس ويمزق الأفعى الشريرة أرباً أسفل الشجرة المقدسة) . وإلى الدولة الوسطى تنسب أول مومياء عرفت للقط . وقد جُعل القط “إلهاً” ، وقد أحضره المصريون من الجنوب ويشبهه الآن كثيراً القط الحبشي الأفريقي .
وقد عد المصريون القدماء القط ضمن الحيوانات المقدسة ، وكانوا يقدسون كثيراً من الكائنات من مثل : أبي قردان والصقور والقطط والكلاب فإذا ما ماتت تدفن حسب الطقوس الدينية ، فتدهن بالزيت وتلف في أكفان من الكتان المنسوج . وجاء في (معجم الحضارة المصرية القديمة : أن قداسة القط مرادفة لقداسة وقوة إله الشمس “رع” ، ويقول هيرودوت : إن المصري يمكن أن يترك أمتعته تحترق ويخاطر بحياته لينقذ قطاً من الحريق)