بركة ساكن… الجنقاوي صديق الشياطين
لم يكن الطفل صاحب 14 عاماً والذي كتب رواية (تحت النهر) يعرف أن مياهاً كثيرة ستجرى تحت جسر كتابته، وتجعل أعماله محظورة، هذا الحظر جعل كتبه الأكثر رواجاً وتداولاً بين الشباب، لدرجة أن سعر كتابه المحظور (الجنقو مسامير الأرض) وصل إلى رقم فلكي في سوق الكتاب، لذا سارعت المواقع وقرصنت كتبه وغيرت من ملامح الطبعة، وبعدها ذاع صيته وفتحت المواقع والمجلات الثقافية مساحاتها لتكتب عنه وعن أعماله
* العمر بالتقريب
صديق نهر ستيت. كبرت أحلامه بعد أن كتب «على هامش الأرصفة» و«الطواحين»، أو قل منذ أن عرف كيف يكتب رواية سودانية… إنه عبد العزيز بركة ساكن الذي ولد في كسلا حوالي العام 1963، وأقول: «حوالي»، لأن الأمر ليس أكيداً، فوالدته عندما ذهبت لتُسجِّله في المدرسة حاملةً معها شهادة ميلاده التي أخرجتها من قش القطية العجوز، وهي متآكلة الأطراف بفعل نمل الأرضة، طلب منها مدير المدرسة أن تأتي بشهادة جديدة، فما كان منها إلا أن ذهبت إلى القموسيون الطبِّي في مدينة القضارف. فنظر الطبيب إلى الشهادة دون أن يُكلِّف نفسه عناء النظر إلى تاريخ الميلاد أو الرقم المتسلسل، فطوى الشهادة بين يدَيه رامياً بها في سلَّة المهملات، وأخرج شهادة تقدير العمر، وكتب عليها: ولد في 1يناير 1963م
***
* حكايات دار صباح
وما أن صار هذا التاريخ رسمياً حتى تمَّ قبوله بمدرسة القضارف الابتدائية «أ»، وهي أقرب المدارس إلى قشلاق السجون حيث تسكن أسرته، فوالده كان يعمل شرطياً في السجون، وانتقل من غرب السودان إلى كسلا ثم القضارف بحثاً عن حياة جديدة فيما عُرف بينهم بـ«دار صباح» وهي التسمية التي أطلقها القادمون من الغرب إلى الشرق على كل مناطق السودان (ما عدا الغرب طبعاً). فجاءوا متتبعين حكايات السابقين لهم في دار صباح، حين كانت لهم لغتهم المختلفة، فتجدهم يستخدمون عبارات غير مطروقة في غرب السودان، كما أن مظهرهم فيه عناية جعلتهم أكثر أُبَّهة
***
مطاردات سوق المحاصيل
بعد دخول الطفل عبد العزيز المدرسة، صادف حكايات جديدة في حياته، وملأ مع صديقه حمد الفوراوي، المدرسة شغباً اتَّسع حتى أسواق المدينة، فكان نصيبهما جلدة كل يوم في الطابور الصباحي. وبدأ يغيب أو «يزوغ» ليتجوَّل هو وصديقه في سوق المحاصيل يخطفان الفول السوداني والصمغ العربي من قِفاف النساء اللاتي يُغربلنَ الفول… وتبدأ المطاردات، واستحالة القبض عليهما، فيعودان إلى المدرسة ويسألان عن الذي فات من دروس.
كان البحث عن الحرِّية لدى عبد العزيز أهم من الدرس والتحصيل، لكن بذهنه القادر على الالتقاط عرف القراءة والكتابة، وتفوَّق على أقرانه، وبدأ يقرأ قراءة تجاوزت سنين عمره
* الشياطين
عرف عبد العزيز مع شقيقته محاسن، والتي ظلَّت ملازمة له في الحروب الافتراضية ضد أبناء القشلاق، كيف يحيلان الحياة إلى متعة، مثلما أحال هو أيضاً نبات الكول إلى بيوت عديدة تأتي على شكل قطاطي ورواكيب، وفي أحايين أخرى يُهندس منها سوقاً أو مدرسة. وصار الأمر عنده محبَّة انتقلت معه إلى خشم القربة والتي شيَّد فيها بيته بنفسه بمساعدة الأصدقاء. ومع محاسن شاهد أيضاً الشياطين لأول مرَّة في حياته: «كنت وشقيقتي محاسن ننام سويَّة في قطية خُصِّصت لنا، وعندما يأتي المساء، أشاهد يومياً بنت الجيران تدور وتدور حول القطية – من الداخل – ما بين الأسرَّة والحاجيات الموجودة، كنت أشعر بخوف عظيم، جعلني صامتاً لا أتكلَّم إلا بعد ثلاثين عاماً، حيث حكيت لمحاسن بداعي استدعاء الذاكرة… ففاجأتني بأنها كانت ترى ما أرى! فضحكنا وعرفتُ أيضاً أن البيت لم يستقرّ فيه مِن بعدنا كائنٌ من كان، لأن الشياطين ظلَّت تُسجِّل حضورها فيه، فهُجر وبات صقيعاً».
**
الحداد
والدته مريم بت جبرين، مازحته مرَّة بأن تلك الشياطين هي ملهمته في الكتابة، ومريم هي من تحمَّلت كل أعباء التربية، وأحاطته وأشقاءَه بالمحبّة والعناية، فنشأ مُحبَّاً للآخرين بفضل أمِّه التي أبعدته عن كل ما يجعل الإنسان شائهاً ومحبطاً، خاصة بعد أن فقد أباه. كانت تقوده من يده في الإجازات المدرسية ليتعلَّم صنعة الحدادة مرَّة، والبناء مرات، وكذلك الخياطة
**
جنيات النهر
بعد حياة حافلة بالتعب انتقل عبد العزيز إلى خشم القربة مع أسرته، وهناك التحق بالمرحلة الثانوية. وهناك تكشَّفت له أسرار الكتابة… منذ أن عرف نهر ستيت المليء بالأساطير والتي دفعته ليكتب أول رواية سنة 1980 «تحت النهر»، فشياطين القضارف طاردته حتى نهر سيتيت الذي كان يخاف الناس من زيارته ليلاً، ويقال إن هنالك جنّيات تسكن عند أشجار العرديب المجاورة له، وفي أعماق النهر أيضاً. ويحفظ الناس في خشم القربة عشرات القصص عن مشاهدات للجنيات على شاطئ النهر
**
الهمباتة
ولخشم القربة أساطير نُسجت حول اسمها. البعض يقول إنها منطقة طوفان، والبعض الآخر يقول إن عرباً رُحَّلاً وردوا نهر ستيت فالتقاهم همباتة، في ذلك الزمان، بعيد النهر. فطلبوا أن يعطوهم ما يحملونه من ماء، فرفض الأعراب الواردين، فأخذ الهمباتي إحدى قرب الماء وقطع خشمها بسكين وهنا دارت الدائرة. وعندما سأل الناس عن أسباب المعركة قيل لهم بسبب «خشم قربة»، وهكذا سُمِّيت.
**
مدينة العمال
كما يقال أيضاً إن شكل النهر الذي يُشبه خشم القربة بمنحناه، هو سبب التسمية، وكانت خشم القربة قد نمت كمدينة عمَّالية في ستينيات القرن الماضي، لكنها كقرية وُجدت قبل هذا التاريخ بآلاف السنوات، حيث كانت جزءاً من مملكة أكسوم الحبشية، وربّما يكون اسمها غير ذلك، وقد سقط بسقوط الذاكرة. وإذا تركنا تاريخ خشم القربة فلن تدعنا شخوصها المُدهشة مثل: طيارة العتالي، وأوكير الذي يمشي مشواراً واحداً في يومه يبدأ من بيته في حي الوحدة وينتهي بكبمو فور، وسيّدة كبسون، وعمر العلمين لاعب الكرة الشهير، والشاعر بابكر الوسيلة، والقاص والناقد اللامع عصام أبو القاسم
**
أول مرة
وبحثاً عن فضاءات تتَّسع لخياله الرحب سافر عبد العزيز إلى أسيوط التي جاءها وقد قرأ كتباً كثيرة وكتبَ قصصاً وروايات صغيرة أولية سمَّاها «تمارين». أسيوط هي المكان الذي وجد فيه الكتب والكتاب وكتب فيها أول رواية وأول قصة قصيرة وصافح فيها الكاتب درويش الأسيوطي، وحضر فيها أول منتدى أدبي في قصر الثقافة، وشارك بأول مداخلة عن عمل أدبي في حياته، وقابل هناك المرأة التي تزوَّجها أيضاً
وللمصادفة فإن عبدالعزيز بعد هجرته إلى النمسا التقى بالدكتورة أمل الخاتم وهي سليلة أسرة الكارب الشهيرة، أمل اختصاصية طب الأطفال سبق أن درست في أسيوط المدينة التي درس فيها الجامعة، وهي كاتبة وصاحبة مدونات.
**
العودة
الآن عبدالعزيز بركة ساكن يحلم بالعودة إلى القارة السمراء، حيث الدفء والألوان الصاخبة، فالحياة في النمسا كماقال : (باردة وبطيئة .. هي قد توفر لك فرصاً للمعرفة وحياة كريمة، لكن دفء المشاعر ورحابة الأصدقاء في أرضي التي أحب وأعشق)
التحيه للكاتب بركه ساكن وكل الكتاب والمزيد من التقدم للقاره السمراء